المطلب الثاني
جوانب الحماية في الخروج إلى الطائف
بعد أن اشتد أذى قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم ، عقب وفاة عمه أبي طالب ، ولم يجد في قريش معينا، صمم على الخروج إلى الطائف ، وربما اختارها عن سواها، لميزات تفضلها عن غيرها، كقربها من مكة ، وكان له فيها خئولة [1] ، كما أنه رضع في بني سعد ، وهم بمقربة من الطائف، وفيهم مراضعه وحواضنه، والطائف تلي مكة في الأهمية واتساع العمران، ورفاهية السكان.. يقـول الله تعـالى: ( وقالوا لولا نزل هـذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) (الزخـرف: 31) [2] .. وكـانـت الطائف مستقر عبادة اللات -صنم يعبد، ويحج إليه- وكانت تضارع في ذلك مكة، التي كانت مستقر عبادة (هبل) ، صنم قريش الأكبر [3] .
خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ماشيا على قدميه ذهابا وإيابا، معه مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه ، وكان كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام، فلم تجبه إليه واحدة منها، فلما انتهى إلى [ ص: 107 ] الطائف عمد إلى ثلاثة أخوة من رؤساء ثقيف، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله ونصرة الإسلام، فقال أحدهم : هـو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسله. وقال الآخر : أما وجـد الله أحدا غيـرك. وقـال الثالث : والله لا أكلمك أبدا، إن كنت رسولا، لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله، ما ينبغي أن أكلمك. فقام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال لهم : إذ فعلتم فاكتموا عني.
فلم يسمعوا له، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، فوقفوا له صفين يسبونه، ويصيحون به، ويرجمونه بالحجارة، حتى اختضبت نعلاه بالدماء، وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى أصابه شجاج في رأسه، ولم يزل به السفهاء حتى ألجأوه إلى حائط -بستان- لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فلما رأوه تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا، يقال له عداس ، فقالا له : خذ قطفا من هـذا العنب، فضعه في هـذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه. ففعل عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال له : كل، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده قال : (بسم الله) ، ثم أكل، فنظر عداس في وجهه، ثم قال : والله إن هـذا الكلام ما يقوله أهل هـذه البلاد، فقال لـه رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ومن أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟) قال : نصراني وأنا رجل من أهل نينوى [4] ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟) قال له : وما يدريك ما يونس [ ص: 108 ] ابن متى؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبي) ، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه.
ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ، حتى إذا ما دنا منها، مكث بحراء ، وبعث رجلا من خزاعة إلى الأخنس بن شريق ليجيره، فاعتذر، ثم إلى سهيل بن عمرو فاعتذر، ثم إلى المطعم بن عدي فأجاره، ودخل مكة في جواره [5] .
نلمح من هـذا النص، جوانب الحيطة والحذر الآتية :
- اختيار النبي صلى الله عليه وسلم للطائف ، كان اختيارا مبنيا على أسس أمنية هـامة، فكون الطائف قريبة من مكة، يجعل الوصول إليها سهلا قليل المخاطر، كما أن وجود خئولة له فيها ربما ضمن له جانبا من الحماية وفق أعراف الجاهلية، وقرب ديار بني سعد ، ربما أعانه على السير؛ لأنهم أخواله من الرضاعة، فلربما يكونون مأموني الجانب.
- خروج الرسول صلى الله عليه وسلم ماشيا، يعد أيضا تصرفا حكيما، فعندما تراه قريش على هـذه الحالة ماشيا على قدميه، لا يخطر ببالها إطلاقا أنه ينوي الخروج من مكة، أما لو خرج راكبا فذلك مما يثير الشبهة والشكوك، وأنه ينوي الخروج والسفر إلى جهة ما، مما قد يعرضه للمنع من الخروج من قبل قريش، ولكن خروجه ماشيا ضمن له مغادرة مكة دون اعتراض من أحد. [ ص: 109 ]
- واختيار الرسول صلى الله عليه وسلم زيدا كي يرافقه في رحلته، فيه جوانب أمنية، فزيد هـو ابن رسول صلى الله عليه وسلم بالتبني، فإذا رآه معه أحد، لا يثير ذلك أي نوع من الشك، لقوة الصلة بينهما، كما أنه صلى الله عليه وسلم عرف زيدا عن قرب، فعلم فيه الإخلاص والأمانة، والصدق، والوفاء، فهو إذن مأمون الجانب، فلا يفشي سرا، ويعتمد عليه في الصحبة، وهذا ما ظهر عندما كان يقي النبي صلى الله عليه وسلم الحجارة بنفسه، حتى أصيب بشجاج في رأسه.
- اتصاله صلى الله عليه وسلم برؤساء ثقيف قبل غيرهم، حين دخوله إلى الطائف، تصرف سليم، يتطلبه الموقف؛ وذلك لأن الأمر أمر نصر وتأييد، وهذا ما لا يتأتى إلا من سادات القوم لا من عوامهم، فإذا وافق هـؤلاء كان الآخرون تبعا لهم، لذا بدأ بهم الرسول صلى الله عليه وسلم دون غيرهم.
وعندما كان رد هـؤلاء النفر ردا قبيحا مشوبا بالاستهزاء والسخرية، تحمله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يغضب أو يثور، بل طلب منهم أن يكتموا عنه، فهذا تصرف غاية في الحيطة، فإذا علمت قريش بهذا الاتصال، فإنها لا تسخر منه فحسب، بل ربما شددت عليه في العذاب والاضطهاد، وحاولت رصد تحركاته داخل وخارج مكة.
- وفي حواره مع عداس ، ظهرت براعته صلى الله عليه وسلم في كيفية إدارة الحوار، مما ترتب عليه أن أصبـح عـداس يسـأل عن المعلومـة من الرسول صلى الله عليه وسلم والإنسان حين يسأل عن المعلومة، فإنه يهتم بها، ويعي مضمونها، بخلاف ما لو ألقيت عليه دون أن يطلبها، لذا كان أثر تلك المعلومة على عداس واضحا، فنجم عن ذلك أن قبل رأس ويدي وقدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأعلن إسلامه [6] . [ ص: 110 ]
- وحين عاد الرسول صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى مكة ، لم يدخلها، بل ذهب إلى غار حراء وجلس فيه، حيث يعد ذلك تصرفا أمنيا تمليه الظروف والملابسات، فالرسول صلى الله عليه وسلم أدرك أن قريشـا علمت بخروجـه لا سيما وقد مكث في الطائف عشرة أيام.
- الرسول صلى الله عليه وسلم يستفيد من قوانين وأعراف الجاهلية
كانت للجاهلية أعراف وقوانين تقدسها وتحترمها، ولعل في مقدمتها أعراف وقوانين الجوار أو الحماية، فإذا دخل أحد في جوار زيد من الناس فلا يحق لأحد أن يناله بأذى، أو يتعرض له بسوء.
فقبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة عائدا من الطائف، حاول الاستفادة من هـذا القانون أو العرف (الجوار) ، فأرسل إلى من يأخذ له الجوار من أحد أشراف مكة، وقد وفق في ذلك، حيث أجاره المطعم ابن عدي ، فدخل مكة.
ولقد استفاد الرسول صلى الله عليه وسلم من هـذا الجوار أيما فائدة، فقد عاد إلى دعوة الناس لدين الله، كما كان يفعل في جوار عمه أبي طالب.. ولولا أن هـيأ الله له هـذا الجوار، لما كان من اليسير عليه القيام بأمر الدعوة في تلك الظروف الحرجة، حيث تعد تلك الفترة من أحرج فترات الدعوة، وكانت تحتاج لوجود النبي صلى الله عليه وسلم داخل مكة في هـذا الوقت بالذات، والذي كان من ثمراته الاتصال بأهل المدينة، وتوقيع بيعة العقبة الكبرى. [ ص: 111 ]
أما الجانب الأمني في إرسال رجل من خزاعة دون زيد بن حارثة ، ليؤمن الجوار لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن زيدا مسلم معلوم الإسلام، فهذا يقف حجر عثرة أمام قيامه بمهمة كهذه المهمة الحساسة. أضف إلى ذلك رفقته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فربما قبضت عليه قريش بمجرد دخوله مكة ، مما ينتج عنه فشل المهمة، وقد يتمكنوا من خلاله الوصول إلى مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتحاشيا لهذه الاحتمالات، لم يرسل الرسول صلى الله عليه وسلم زيدا في هـذه المهمة.
أما صاحب خزاعة، فهو رجل مجهول لدى قريش، مما سهل مهمة اتصاله بمن أرسل إليهم دون أن يعترضه أحد، أو أن يحول بينه وبين مهمته حائل. وهذا ما تم بالفعل، حيث تمكن من أخذ الجوار لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، دون أن يشعر به أحد.
- جانب الحماية والأمن في الدعاء :
الدعاء من أعظم العبادات، وهو سلاح فعال في مجال الحماية للإنسان وتحقيق أمنه، فمهما بلغ العقل البشري من الذكاء والدهاء، فهو عرضة للزلل والإخفاق، وقد تمر على المسلم مواقف يعجز فيها عن التفكير والتدبير تماما. فليس له مخرج منها سوى أن يجأر إلى الله بالدعاء، ليجد له فرجا ومخرجا.
فعندما لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف الأذى والطرد والسخرية والاستهزاء، وأصبح هـائما على وجهه، لجأ إلى الله قائلا : [ ص: 112 ] ( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت ربي ورب المستضعفين ) . فما أن انتهى من الدعاء، حتى جاءت الإجابة من السماء مع جبريل وملك الجبال [7] .. وليس من شك في أنه كانت لهذه الإجابة أثرها الكبير على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا كان الناس قد تنكروا له، وآذوه، وطردوه، فإن الله معه، ناصره ومعينه، وبذا وجد الرسول صلى الله عليه وسلم تأييدا ربانيا، أعطاه دفعة معنوية كان أحوج ما يكون إليها في مثل تلك الظروف الحرجة.