المطلب الثالث
جوانب الحماية والأمن في عرض الدعوة على القبائل وإرسال الدعاة
بعد أن أصبحت بيئة مكة طاردة للدعوة، وتيقن الرسول صلى الله عليه وسلم أن مكة ليست بالموضع الذي يحمي ويحمل الدعوة، بدأ بالبحث عن موضع آخر وقبيلة أخرى تقوم بدور الحماية للدعوة، وتتحمل تبعاتها، فعرض نفسه صلى الله عليه وسلم على القبائل بمختلف أسمائها.. قال الزهري : (وكان ممن يسمى لنا من القبائل، الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم وعرض نفسه عليهم : بنو عامر بن صعصعة، محارب بن خصفة، وفزارة، وغسان، ومرة، وبنو حنيفة، وسليم، وعبس، وبنو نضر، وبنو البكاء، وكندة، وكلب، والحارث بن كعب، وعذرة، والحضارمة، فلم يستجب منهم أحد) [1] . [ ص: 113 ]
وهذه القبائل التي سماها الزهري، لم يكن عرض الإسلام عليها في سنة واحدة، ولا في موسم واحد، بل إنما كان ما بين السنة الرابعة من النبوة إلى آخر موسم قبل الهجرة [2] .
وسنبدأ عرضنا بذكر بعض الأساليب التي اتخذتها قريش لصد هـذه القبائل عن الإسلام، ثم نوضح الجوانب الأمنية التي انتهجها الرسول صلى الله عليه وسلم خلال عرضه نفسه على القبائل.
أساليب قيادة قريش لصد القبائل عن الدعوة
لقد استخدمت قيادة قريش لصد القبائل عن الدعوة عدة أساليب، فكانت تارة تبعث مندوبها خلف الرسول صلى الله عليه وسلم يشوه شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته، قال ربيعة بين عباد الديلي: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو ( يقول: قولوا لا إله إلا الله، تفلحوا ) والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيئ الوجه أحـول، ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فقالوا: عمه أبو لهب ) [3] .
وتارة أخرى تتعقبه قريش إلى القبائل التي يتحدث إليها، وقد أوشك أن يؤثر في بعضها، فكانت قيادة قريش تأتي بعده فتشوه الحقيقة، وتحذر من مغبة التأثر به وتصديقه، فغالبا ما يذهب الأثر عقب ذلك التشويه، بدليل ما جرى مع قبيلة بكر، التي تأثرت، بل وأوشكت أن تعتنق الإسلام عقب ملاقاة الرسول صلى الله عليه وسلم وحديثه معهم. [ ص: 114 ]
ولكن قبل أن تختمر الفكـرة في عقـول بنـي بـكـر ، مـر عليهم أبو لهب ، قالوا له : (هل تعرف هـذا الرجل؟ قال : نعم، هـذا في الذروة منا، فعن أي شيء تسألون؟ فأخبروه بما دعاهم إليه، وقالوا زعم أنه رسول الله. قال : ألا لا ترفعوا برأسه قولا، فإنه مجنون يهذي من أم رأسه، قالوا : قد رأينا ذلك حين ذكر من أمر فارس ما ذكر) [4] .
فواضح من الحوار السابق بين أبي لهب، وبني بكر، أن أبا لهب جاء إليهم عقب مغادرة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، وذلك كان عن طريق غير مباشر حيث مر عليهم، وكان يتوقع أن يسألوه عن محمد فتحقق له ذلك، فاستغـل السانحـة للقيام بمهمتـه، فعندمـا سـألـوه عن شخـص النبي صلى الله عليه وسلم ، أجاب بالثناء على سمو نسبه، وذلك ليطمئن إليه بنو بكر، ويصدقوه فيما يزعمه من بعد، وبذكاء خبيث أدار السؤال عليهم، ليأخذ منهم معلومة هـامة بالنسبة له، فقد علم أنهم دعوا إلى الإسلام، وأنهم على وشك الإجابة، وبناء على ذلك حاول أبو لهب إزالة هـذا الأثر، فأخبرهم عن كونه مجنونا يهذي، لا يعتد بقوله. وقد صدقه بنو بكر، وبالتالي تكون قريش قد نجحت في مهمتها تلك.
ولقد كان لهذه الأساليب أثرها الكبير في صد القبائل عن الدعوة، حيث كان رد معظم القبائل: قوم الرجل أعلم به، أترون أن رجلا يصلحنا، وقد أفسد قومه ولفظوه [5] . وما يؤيد ذلك، عدم استجابة كل القبائل التي عرض عليها الإسلام، كما مر معنا في صدر هـذا المطلب. [ ص: 115 ]
أساليب الحماية المضادة لأساليب قريش:
عندما ظهر للنبي صلى الله عليه وسلم تأثير مكائد قريش على القبائل، رأى أنه لا بد من اتخاذ أساليب حماية مضادة لما تقوم به، وكان من أهم تلك الأساليب ما يلي :
- مقابلة القبائل في الليل
في الليل تهدأ الحركة وتسكن الرجل، وتندر أو تنعدم المراقبة من قبل المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم . لذا اتجه الرسول صلى الله عليه وسلم لأسلوب مقابلة القبائل ليلا. يقول النجيب أبادي : (وكان من حكمته صلى الله عليه وسلم أنه كان يخرج إلى القبائل في ظلام الليل، حتى لا يحول بينه وبينهم أحد من المشركين) [6] ، وقد نجح هـذا العمل في إبطال مفعول الدعاية المضادة، التي كانت تتبعها قريش، كلما اتصل الرسول صلى الله عليه وسلم بقبيلة من القبائل.. والدليل على نجاح هـذا الأسلوب المضاد، اتصال الرسول صلى الله عليه وسلم بالأوس والخزرج ليلا، ومن ثم كانت بيعة العقبة الأولى والثانية ليلا.
- الرسول صلى الله عليه وسلم يذهب إلى القبائل في منازلهم
وكأسلوب آخر من الأساليب المضادة لإحباط محاولات قريش ومكائدها، اتجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أسلوب الاتصال بالقبائل في منازلهم. فقد أتى كلبا وبني حنيفة وبني عامر في منازلهم [7] .. وبالتالي يكون بعيدا عن مطاردة قريش، فيستطيع أن يتفاوض مع القبائل بالطريقة المناسبة دونما تشويش أو تشويه من قريش. [ ص: 116 ]
- اصطحاب الأعوان
كان أبو بكر وعلي رضي الله عنهما يرافقا الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض مفاوضاته مع بعض القبائل، وربما كانت هـذه الرفقة لأجل ألا يظن المدعوون أنه وحيد، ولا أعوان له من أشراف قومه وأقاربه، هـذا إلى جانب معرفة أبي بكر رضي الله عنه بأنساب العرب [8] ، الأمر الذي يساعد الرسول صلى الله عليه وسلم في التعرف على معادن القبائل، فيقع الاختيار على أفضلها، لتحمل تبعات الدعوة.
- التأكد من حماية القبيلة
ومن الجوانب الأمنية المهمة، سؤاله صلى الله عليه وسلم عن المنعة والقوة لدى القبائـل قبل أن يوجـه إليهم الدعـوة، ويطلب منهم الحمـاية، قـال ابن عباس في حديث طويل : ( فأتى بكر بن وائل فقال : (ممن القوم؟) قالوا : من بكر بن وائل. قال: (فكيف المنعة؟) قالوا: لا منعة. جاورنا فارس لا نمتنع منهم ولا نجير عليهم... قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا رسول الله، ثم انطلق ) . [9] .
فقوة ومنعة القبيلة التي تحمي الدعوة، شيء ضروري ومهم، لا بد منه؛ لأن هـذه القبيلة ستواجه كل قوى الشر والباطل، فلا بد أن تكون أهلا لهذا الدور من حيث الاستعداد المعنوي والمادي، الذي يرهب الأعداء، ويحمي حمى الدعوة، ويتحمل تبعات نشرها، مزيلا لكل العقبات التي تقف في طريقها. [ ص: 117 ]
- جوانب الحذر والحماية في إرسال دعاة خارج مكة
الإسلام رسالة عالمية، جـاءت للبشـر كافـة، فلا تحدهـا حـدود، ولا تقيدها قيود.. وتتطلب هـذه العالمية أن ينتشر دعاة الإسلام في الأرض، كل الأرض، مبشرين ومنذرين، ومبلغين لدين الله، ولهذا أرسل قائد الدعوة صلى الله عليه وسلم ، دعاة خارج مكة منذ بداية الدعوة، وقبل أن يستوي عودها، ويشتد ساعدها، ولقد كان صلى الله عليه وسلم يراعي جوانب أمنية معينة وصفات محددة في أولئك الذين كان يختارهم ويرسلهم في مهمات خارج مكة، لعل من أبرزها
- أن يكون من أهل المنطقة المبتعث إليها
يتضمن هـذا الجانب عدة ميزات أمنية منها: سهولة التخاطب مع المدعوين، وسهولة إيصال المعلومة إليهم، بحكم معرفته بلسان قومه.. ولأهمية ذلك، ما أرسل الله رسـولا إلا بلغة قومـه، قـال تعالـى: ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) (إبراهيم : 4) .. كما أن الرجل وسط قومه، يكون ملما بعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم، وبناء على ذلك يختار الأسلوب الدعوي الذي يناسبهم.. كذلك فإن الرجل وسط قومه لا يكون مثار شك، فيستطيع أن يقوم بالدعوة سرا وسط قومه دون مراقبة أو متابعة، بخلاف الغريب. أضف إلى ذلك، الحماية التي قد يجدها الرجل بين قومه وعشيرته. لذلك بعث الرسول صلى الله عليه وسلم الطفيل إلى قومه دوس [10] ، وأبا ذر إلى قومه غفار [11] ،. [ ص: 118 ]
- أن يكون على خلق ودين وعلم
لا بد أن يكون المبتعث على درجة من الأخلاق الفاضلة، والتمسك بآداب الإسلام والفقه فيه، ففاقد الشيء لا يعطيه، ومن يمتاز بهذه الصفات يكون محل تقدير واحترام الجميع، مما يسهل عليه الاتصال بأفراد المجتمع من منطلق ذلك التقدير والاحترام، الذي اكتسبه من تلك الأخلاق والمعاملة الطيبة. والعلم ضروري وأساس؛ لأنه يتضمن المعلومات المتعلقة بالرسالة المراد تبليغها للناس. فقد كان الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم على خلق، ودين، وعلم، حيث أثروا في قومهم، ودخل على أيديهم جمع غفير من قومهم، فقد جاء أبو ذر بغفار كلها مسلمة [12] .. وجاء الطفيل بن عمرو بسبعين بيتا أو ثمانين من دوس [13] ،.. ومصعب ابن عمير أدخل الله على يديه في الإسلام، جل الأنصار [14] .
- أن يمتاز بقدر من الذكاء والحكمة
المهمات الصعبة، كتحمل تبعات الدعوة، تحتاج إلى قدر من الذكاء والحكمة، للتصرف السليم إبان الظروف الصعبة والمواقف الحرجة، التي تصادف الداعية أثناء قيامه بأمر الدعوة، وتعامله مع أصناف متباينة من المدعوين، وهذا ما كان صلى الله عليه وسلم يراعيه في رسله.. وخير شاهد على ذكاء وحكمة من أرسلوا خارج مكة ، ما حدث مع مصعب بن عمير رضي الله عنه ، عندما قدم المدينة ، وجاءه سيدان من [ ص: 119 ] الأنصار هـما أسيد بن حضير وسعد بن معاذ ، يريدان طرده وإخراجه من المدينة ، يحمل كل منهما سلاحه، وتظهر عليهما علامات الغضب، فقد تصرف معهما مصعب بذكاء وحكمة، فكان يقول لكل واحد : هـلا جلست فسمعت، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره، فكان جواب الرجلين : أنصفت. فكانت النتيجة أن أسلم أسيد وسعد وأسلم بإسلامهما قومهما [15] .
- أن يكون مدركا وملما بالناحية الأمنية للدعوة
الحس الأمني مطلوب فيمن يقوم بأمر الدعوة، حتى يكتب له النجاح في دعوته، ولا يحبط عمله في أول الطريق. ولهذا لا بد أن يكون حذرا ومتيقظا، مقدرا للموقف وما يترتب عليه من تداعيات، في كل الحالات التي يتعامل معها.. فقد كان هـذا الحس متوفرا في أولئك الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم للدعوة خارج مكة ، وكنا قد أشرنا إلى الحس الأمني لدى كل من أبي ذر والطفيل وغيرهما [16] . فالطفيل بدأ بدعوة أقرب الناس إليه، كما فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وهو أول السلم في منهج الحماية في الفترة السرية، وكذلك فعل أبو ذر الغفاري . وقد أشرنا إلى ذلك في موضع آخر من هـذا البحث [17] .
وهذا يعني أنه ينبغي على الدعاة، وهم يعملون لنشر الإسلام في أنحاء المعمورة، أن يراعوا تلك الصفات فيمن يمارسون الدعوة [ ص: 120 ] في أقطار العالم، وبخاصة تلك البلاد التي يدين غالبيتها بغير الإسلام.. إن الداعية في تلك البيئات يحتاج إلى مثل هـذه الصفات والجوانب الأمنية، حتى يكون قادرا على أداء مهمته دون أن يعرض نفسه، أو دعوته لمكر أولئك الماكرين.
المطلب الرابع
جوانب الحذر والحماية في بيعة العقبة قال كعب بن مالك رضي الله عنه : (ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة من أوسط أيام التشريق. قال: فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها... وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا... فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، فاجتمعنا في الشعب، ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب ، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثق له، فلما جلس كان أول متكلم العباس...) [18] .
لقد كانت بيعة العقبة ثمرة من ثمرات الأساليب المناسبة، التي استخدمها الرسول صلى الله عليه وسلم ضد مكر قريش، والتي كانت في غاية من السرية والكتمان، وسنقف هـنا على بعض جوانب الحذر والحيطة، التي تخللت بيعة العقبة الكبرى : [ ص: 121 ]
- الاتفاق المسبق على زمان ومكان البيعة
تم الاتفاق على زمان ومكان البيعة، بين الرسول صلى الله عليه وسلم والأنصار ، حيث واعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجتمعوا أوسط أيام التشريق في الشعب، الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى ، وأن يتم هـذا الاجتماع ليلا [19] .
إن اختيار هـذا الوقت -ليلا- وذاك المكان -الشعب- يؤكد مدى اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالجانب الأمني، وإحاطة تحركاته بالسرية والكتمان، ففي هـذا الوقت تقل رقابة قريش، وتهدأ الحركة، وتندر الرؤية، مما يجعل فرصة الانكشاف أمرا صعبا.
- الأمر بكتمان الخبر
طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الأنصار كتمان الخبر عن المشركين [20] ، فذلك أمر تقتضيه الظروف الأمنية، حتى لا يتسرب خبر البيعة إلى قريش، فتقوم بإحباطها.. وقد نفذ الأنصار هـذا الطلب، " يقول كعب بن مالك رضي الله عنه : (وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا " [21] .. وقد ظهرت أهمية ونتيجة هـذا الكتمان عندما جاءت قريش لتتقصى الخبر من صبيحة البيعة، فتولى الرد عليها مشركو الأنصار، وأقسموا على نفي [ ص: 122 ] حدوث البيعة [22] ، ولولا هـذا الكتمان لانكشف أمر البيعة والمبايعين.
- الاحتياط في الحضور إلى مكان البيعة
وضع الرسول صلى الله عليه وسلم خطة مأمونة دقيقة للحضور إلى مكان البيعة، فطلب من الأنصار أن يأتوا أفرادا لا جماعة، حتى يجتمعوا جميعا في العقبة، وأن يكون ذلك بعد مضي ثلث الليل الأول، وأمرهم ألا ينبهوا نائما، ولا ينتظروا غائبا [23] ، وقد طبق الأنصار هـذه الخطة تماما، " يقول كعب : (فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل مستخفين تسلل القطا " [24] ، أي أفرادا.
يتجلى لنا من تلك الخطة وتطبيقها، الاحتياط الأمني المحكم في كل جوانبها، فكونهم يأتون بعد ثلث الليل، فذلك وقت يكون الناس فيه قد استثقلوا في النوم، ولا يشعرون بحركة المسلمين " يقول كعب : (فلما استثقل الناس في النوم تسللنا... " [25] ، بالإضافة إلى أن هـذا الوقت يمكن المجتمعين من إنجاز أمر البيعة، وهو وقت مريح.. ولو كان قبل ثلث الليل لكان عرضة للانكشاف، فمعظم الناس لم يخلد بعد إلى النوم أو لم يستثقل فيه، ولو كان بعد ثلث الليل، لكان قريبا من الصبح، [ ص: 123 ] وبالتالي يصبح وقت الاجتماع ضيقا، مما قد ينتج عنه عدم إنجاز أمر البيعة.
أما تسللهم أفرادا، فهو زيادة في الحيطة والحذر، مما يجعل أمر اكتشافهم عسيرا بخـلاف ما لو خرجـوا جماعـات، فخروجهـم أفرادا لا يثير شكا أو ريبة إذا حدث وأن شاهدهم أحد، فربما حسب أن الفرد منهم يقضي حاجته أو نحو ذلك، أما إذا كان الخروج جماعة فإن ذلك يثير الشك والريبة خاصة في مثل هـذا الوقت من الليل، ومن ثم تأتي المراقبة والمتابعة، الأمر الذي يفضي إلى كشف أمر البيعة.
أما أمره صلى الله عليه وسلم بعدم إيقاظ النائم أو انتظار الغائب، فهو تحسب من أن يؤدي إيقاظ النائم إلى انتباه المشركين، هـذا إلى جانب أن هـذا الأمر يجعل كل المسلمين في حالة تأهب، فيعمل كل فرد منهم على ألا يتسلل النوم إلى عينيه مخافة أن يفوته ذاك الفضل، وهذا ينطبق على عدم انتظار الغائب، بحيث يحاول كل فرد من الأنصار ألا يتغيب أو يذهب بعيدا في ذلك الوقت. لقد كان لهذا الأمر النبوي أثره الظاهر، حيث حضر الجميع في الزمان والمكان المحددين دون أن يتخلف أحد.
- التصرف السليم حيال الطوارئ
حين صرخ الشيطان بأعلى صوته من رأس العقبة قائلا: (يا أهل الجباجب -المنازل- هـل هـملكم في مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم) ، [ ص: 124 ] حينها أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الأنصار بالانصراف والرجوع إلى رحالهم [26] .
هذا الأمر بالانصراف فور سماع صوت الشيطان، الذي كشف أمر الاجتماع، يعد تصرفا أمنيا، اقتضته ظروف وملابسات الحدث؛ لأن قريشا غالبا ما تكون بعد سماعه في حالة استنفار تام، وقد تقوم بمسح شامل للمنطقة، لتتأكد من هـذه المعلومة.. وحتى يفوت الرسول صلى الله عليه وسلم الفرصة على قريش أمر أصحابه بالانصراف، فانصرفوا إلى رحالهم، وأصبحوا مع قومهم.
وربما كان أقرب مثال لدور الشيطان، ما تقوم به شياطين الإنس ممن باعوا أنفسهم للشيطان، ليوقعوا بالمسلمين ودعاة الإسلام، ويغروا بهم الأعداء باسم التطرف والأصولية وغير ذلك من الصناعات والصيغ الشيطانية، لشل حركة العمل الدعوي.
- الأمر بانتخاب النقباء
إن طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الأنصار انتخاب نقباء من بينهم، يدل على يقظة وفطنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فهو لا يريد أن يفرض عليهم أشخاصا من غير شوراهم، كما أنه لم يسبق له التعرف عليهم حتى يعلم معادنهم، وربما حدد أشخاصا كلهم من الخزرج أو الأوس فيؤدي ذلك إلى عدم رضاء طرف على آخر، ولتفادي تلك الاحتمالات وغيرها، ترك الرسول صلى الله عليه وسلم أمر اختيار النقباء للأنصار. [ ص: 125 ]
- توفر الحس الأمني لدى بعض من شهدوا البيعة
تجلى الحس الأمني لدى العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري وأسعد بن زرارة ، في تأكيدهما على خطورة البيعة على قومهم، " فقال العباس بن عبادة : (إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا، أسلمتموه، فمن الآن) ، فأجابوه : (فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف " [27] .
وقال أسعد قبيل البيعة : رويدا يا أهل يثرب... وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما تصبرون على ذلك فخذوه، وإما تخافون على أنفسكم خيفة فذروه [28] .
وهذا مما يبرز مدى حرص العباس وأسعد على الاحتياط لأمر الدعوة، وقائدها، فأرادا بذلك أن يؤكدا على خطورة الأمر، بإظهار نتائج تلك البيعة ومتطلباتها، ابتداء، حتى يكون أهل البيعة على علم تام بما قد يحدث لهم، قبل أن تفاجئهم الأحداث ويتخلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحينها لا يمكن تصور ما سيحدث للدعوة وقائدها، وتفاديا لذلك حرصوا على التحقق من استعداد قومهم للتضحيـة في سبيل الله. [ ص: 126 ]