ثالثا: خطاب المجاهدة
لو كان الناس تقبلوا الحق حين رأوا أصحابه يعطونهم القدوة من أنفسهم، أو بما قام بينهم من حوارات ومجادلات، أو كانوا تركوا الدعاة يبلغون دين الحق دون الصد عن سبيل الدعوة والوقوف في وجهها بالمال والقوة والسلطان، لما احتاج المسلم أن يشهر سيفه، ولاكتفى بالمشاكلة والمجادلة.. ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يدعو قومه بشيء من حرية دون اعتراض شديد، بل يجد الحماية والجوار، يصدع بالحق في قريش ، ويعرض دعوته في المواسم للحجيج والتجار، ما احتاج المسلمون إلى توجيه خطاب المجاهدة إلى أهل مكة ، وكما يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: " لم يكن هـناك ضرورة ملحة لتجاوز هـذه الاعتبارات كلها، والأمر بالقتال، ودفع الأذى؛ لأن الأمر الأساس في هـذه الدعوة كان قائما -وقتها- ومحققا، هـذا الأمر الأساس هـو وجود الدعوة في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشخصه صلى الله عليه وسلم في حماية سيوف بني هـاشم، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع، فكان صلى الله عليه وسلم يبلغ دعوته -إذن- في حماية وأمن، لا يكتمها ولا يخفيها، فكان للدعوة وجودها الكامل، ومن ثم لم تكن هـناك الضرورة القاهرة لاستعجال المعركة.. " [1] .
ولكن حال المناقضين للفطرة، من أصحاب الجاه والسلطان والمال، أنهم لا يتركون الدعوة تمضي، ولا يخلون بين عامة الناس وبين اختيارهم [ ص: 79 ] بحرية، فيقفون في وجه الدعوة، يقاومون أهلها بكل وسيلة، ويمنعون الناس أن يسمعوا أو يقربوا أو يختاروا، فعندئذ لا بد من إزاحة هـذه العوائق من على طريق الدعوة،فيتحول خطاب المسلم من المشاكلة والاستحسان، ومن الحوار والجدال، إلى خطاب السيوف والرماح والنبال، ومن جهاد الجدال إلى جهاد القتال، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
وبعد أن تزاح عوائق سماع الدعوة، وتزول الفتنة الواقعة أو المتوقعة عن الدين، يعود خطاب القدوة وخطاب المجادلة.