الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي

الدكتور / عبد المجيد السوسوه الشرفي

المبحث الثاني: تاريخ الاجتهاد الجماعي

مر تاريخ الاجتهاد الجماعي بأربع مراحل:

المرحلة الأولى: عصر الصحابة وبعض السلف، وهذه الفترة هـي الفترة البارزة في العمل بالاجتهاد الجماعي، فقد سجل تاريخ التشريع الإسلامي أن الاجتهاد الجماعي كان منهجا متبعا في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، ولم ينكر أحد من الصحابة، فكان ذلك موافقة منهم على فعلهما [1] فقد روى ميمون بن مهران : " أن أبا بكر رضي الله عنه كان إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسـول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمـر سنـة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر، كلهم يذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا. فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به... " [2] .

(وكان عمر إذا لم يجـد في القضية كتابا ولا سنـة ولا قضـاء مـن [ ص: 48 ] أبي بكر، دعا رءوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به) [3] .

وإذا تأملنا فيما كان يعمله الخلفاء للاجتهاد في القضايا المستجدة التي ليس فيها نص من كتاب أو سنة، نجد أنه لم يكن في حقيقته إلا اجتهادا جماعيا، فما لا ريب فيه أن رءوس الناس وخيارهم، الذين كان يجمعهم أبو بكر وعمر وقت عرض الحادثة، ما كانوا جميع رءوس المسلمين وخيارهم، لأن عددا كبيرا من مجتهدي الصحابة كان في مكة والشام واليمن وفي ميادين الجهاد، ولم يرد أن أبا بكر أو عمر أجل الفصل في خصومة، حتى يقف على رأي جميع مجتهدي الصحابة في مختلف البلدان، بل كان يمضي ما اتفق عليه الحاضرون، لأنهم جماعة، ورأي الجماعة أقرب إلى الحق من رأي الفرد، وهذا ما سماه الفقهاء الإجماع ، وهو في الحقيقة تشريع الجماعة لا الفرد [4] .

وفي استشارة الشيخين لفقهاء المدينة امتثال لأمر الشارع في قوله تعالى:

( وشاورهم في الأمر ) (آل عمران: 159) .

وقوله تعالى: ( وأمرهم شورى بينهم ) (الشورى: 38) .

ومعلوم أن الحاكم إنما يستشير من يتيسر له أن يجتمع بهم، ولو اشترطت استشارة الجميع مع اتساع البلاد وتفرق العباد، لما تحقق الامتثال لأمر الشارع [5] .

وأيضا فإن الذي سار عليه الشيخـان يتفق مـع مـا أرشـد إليـه الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيما يجب علينا عمله، للاجتهاد في القضايا المستجدة التي [ ص: 49 ] لم يرد فيها نص، ( فقد روى سعيد بن المسيب عن علي رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله! الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن، ولم تمض فيه منك سنة؟ قال: اجمعوا له العالمين - أو قال: العابدين من المؤمنين- فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد ) [6] .

ولهذا فقد كان الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم ، يجمعون في المسجد النبـوي رءوس النـاس من ذوي الرأي، فيستشيرونهـم في الأمـور الخطيـرة، كما فعل عمر في جمع الصحابة للبحث في قسمة موارد العراق وغيره من الأراضي المفتوحة عنوة، وانتهى رأيهم بالاتفاق على إبقاء الأرض بيد أهلها، وعدم قسمتها بين الغانمين [7] .

وقد حرص عمر رضي الله عنه ، على أن يكون هـذا المنهج الجماعي في الاجتهاد، هـو الأسلوب الذي ينبغي أن يسير عليه ولاة الأمور في الأقاليم، فقد كان يوصي ولاته باتباع هـذا الأسلوب، ومن ذلك " ما قاله لشريح : انظر في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا، وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع سنة رسول الله، وما لم يتبين لك في السنة، فاجتهد فيه رأيك، واستشر أهل العلم والصلاح. وفي رواية: فاقض بما أجمع عليه الناس. " [8] .

ويقول الجويني : إن أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم استقصوا النظر في الوقائع [ ص: 50 ] والفتاوى والأقضية، فكانوا يعرضونها على كتاب الله تعالى، فإن لم يجدوا فيه متعلقا راجعوا سنن المصطفى عليه السلام ، فإن لم يجدوا فيها شفاء اشتوروا واجتهدوا، وعلى ذلك درجوا في تمادي دهرهم إلى انقراض عصرهم، ثم استن بسنتهم من بعدهم. [9] .

وقد اقتفى أثر الصحابـة في ذلك المنهج الجمـاعي للاجتهـاد، عمـر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، فقد روي أنه لما ولي أمر المدينة نزل دار مروان، فلما صلى الظهر دعا عشرة من فقهاء المدينة، وهم: عروة بن الزبير وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكـر بن عبد الرحمـن، وأبو بكـر بن سليمان، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمـد، وسالم بن عبد الله بن عمـر، وعبد الله بن عبد الله بن عمـر، وعبد الله بن عامـر، وخارجـة بن زيد، وهم إذ ذاك سادة الفقهاء، فلما دخلوا عليه أجلسهم، ثم حمد الله وأثنى عليه، وقال: إني إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعوانا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم [10] .

وهو ما سار العمل عليه في بعض عصور الدولة الأموية بالأندلس ، أيام يحيى بن يحيى الليثي قاضي قضاتها، فقد أنشأ مجلسا للشورى، للنظر في المشاكل الفقهية، وكان أعضاء هـذا المجلس في بعض الأوقات ستة عشر عضوا [11] . [ ص: 51 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية