ثالثا: يعوض عن توقف الإجماع
الإجماع كما عرفه علماء الأصول: هـو اتفاق جميع المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي، في أي عصـر من العصـور، بعد وفـاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا خلاف بين العلماء في كون الإجماع مصدرا من مصادر التشريع المتفق عليها، ولكن العلماء اختلفوا في إمكانية تحقق الإجماع، كما اختلفوا في مسائل أخرى تتعلق بالإجماع، وليس هـذا محل الخوض في هـذا الخلاف، وإن ما نريد الحديث عنه هـو أن الاجتهاد الجماعي يمكن أن يسد الفراغ الذي يحدثه غياب الإجماع، حيث إن اتفاق جمع كبير من [ ص: 80 ] المجتهدين أو الأغلبية منهم على حكم شرعي، لا بد أن ذلك سيؤدي إلى الوصول إلى أحكام شرعية تكون في قوتها ودقتها أقرب إلى قوة الإجماع منهـا إلى قـوة الاجتهـاد الفـردي كمـا سنفصـل ذلك فـي حجيـة الاجتهاد الجماعي.
وعلى هـذا، فإن الاجتهاد الجماعي يعوض في التشريع ما قد يتعذر تحققه، لغياب الإجماع والاجتهاد معا، وهو بذلك يعيد للفقه حيويته وقدرته على مواجهة المشكلات بحلول شرعية صحيحة ودقيقة، فإذا كان اتفاق كل المجتهدين الذي هـو أساس الإجماع متعذر فإن اتفاق أكثر المجتهدين لن يكون متعذرا، وهذا ما جعل بعض العلماء يذهب إلى أن الإجماع بالمعنى الأصولي لم يتحقق، وإنما الذي تحقق هـو الاجتهاد الجماعي، وأن ما سمي إجماعا إنما هـو اجتهاد جماعي، وسمى هـؤلاء العلماء الاجتهاد الجماعي بالإجماع الواقعي، يعني الذي تحقق واقعا في العصور الإسلامية، أما الإجماع بالمعنى الأصولي فلم يتم ذلك واقعا، ودلل على هـذا الرأي بأن ما روي عن الصحابة من إجماعات، لم تكن في حقيقتها إلا اجتهادات [1] .
جماعية، حيث كان الخلفاء إذا نزلت بهم قضية ليس فيها نص من كتاب أو سنة، يجمعون لها رءوس الناس وخيارهم وعلماءهم، ويتشاورون في الأمر، فما انتهو إليه اعتبر حكما شرعيا، وهذا في حقيقته اجتهاد جماعي، إذ أن هـؤلاء الذي كانوا يجمعون لذلك لم يكونوا كل الصحابـة، ولم يـرو أن [ ص: 81 ] أحد الخلفاء توقف في حكم شرعي، حتى يوافق عليه بقية علماء الصحابة الغائبين عن ذلك المجلس، أو الذين كانوا منهم في الأمصار المتفرقة [2] .
وذهب بعض العلماء إلى اعتبار الاجتهاد الجماعي إجماعا ناقصا [3] ، حيث قسموا الإجماع إلى نوعين: إجماع كامل، وهو الذي يتم فيه اتفاق كل المجتهدين، والإجماع الناقص، وهو الذي يتم فيه اتفاق أكثر المجتهدين، والذي قد يسمى اجتهادا جماعيا، ويقول أصحاب هـذا الرأي: إن الإجماع الكامل لم يتحقق في واقع الأمر إلا في القضايا أو في الأمور التي هـي معلومة من الدين بالضرورة، والتي لا تلقى فيها أحدا من المسلمين إلا وافق عليها، ونقلها عمن قبله، وذلك كالإجماع على أن الجد يرث مع وجود الإخوة، وأن الجدة يحرم التزوج بها كالأم، وترث السدس إذا لم تكن هـناك أم، والإجماع على عدم بيع أم الولد [4] .
وأما الإجماع الناقص فإن انعقاده لا يتوقف على اتفاق جميع المجتهدين، بل يتم باتفاق الأكثرية، عملا بما نقل عن ابن جرير وأبي بكر الرازي وأبي الحسين الخياط من المعتزلة ، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه [5] .
وهذا النوع من الإجماع يتم في الغالب في المستجدات الدنيوية، التي لم ينص على حكمها كتاب أو سنة، مما هـو مجال للرأي من مصالح الأمة الدنيوية، التي تختلف باختلاف الزمان أو المكان، كالإجماع [ ص: 82 ] على إمامة شخص بعينه، أو على إعلان حرب على عدو.. وبالتأمل في هـذا النوع من الإجماع، نجد أنه ينطبق على ما يسمى بالاجتهاد الجماعي [6] .
وهذا النوع من الإجمـاع هـو ما سـار عليـه الإمامـان أبو بكـر وعمـر رضي الله عنهما ، حيث كانا يستعينان عند الاستشارة في الأمور القضائية والإدارية بما يتهيأ لهما من أولي الرأي، فلم يؤثر عن أحدهما أنه كان يتوقف في الحكم حتى يستشير القضاة في الأقاليم أو قواد الجيوش في أنحاء الأرض [7] .
ويرى بعض المفكرين أن الاجتهاد الجماعي يمكن أن يكون هـو الجسر الذي يوصل إلى الإجماع التام، وذلك أن الحكم الذي يتوصل إليه بالاجتهاد الجماعي يمكن عرضه على بقية العلماء المجتهدين، فإن وافقوا عليه صراحة كان ذلك إجماعا صريحا، وإن سكتوا بعد علمهم كان إجماعا سكوتيا [8] .