الاتجـاه الثاني
ذهب بعض العلماء إلى أن رأي الأكثرية حجيته حجية إجماع، لأن الإجماع ينعقد بالأكثر، وإليه ذهب محمد بن جرير الطبري وأبو بكر الرازي وأبو الحسين الخياط وبعض المعتزلة وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، وقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بمجموعة من الأدلة [1] ، وذلك على النحو الآتي:
أولا: لقد ( ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: إن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة ) [2] ، ( عليكم بالسواد الأعظم ) [3] ، وقوله: ( لن تجتمع أمتي على ضلالة فعليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة ) [4] ، وقوله: ( يد الله مع الجماعة ) [5] ، كل هـذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا، وتدل على الاحتجاج برأي الجماعة الكثيرة.
ثانيا: إن الأمة قد اعتمدت في خلافة أبي بكر على انعقاد الإجماع عليه، [ ص: 95 ] باتفاق أكثر الصحابة، مع مخالفة بعضهم كعلي وسعد بن عبادة في أول الأمر.
ثالثا: إن الاعتداد بمخالفة الأقليـة يمنع انعقاد الإجمـاع أصـلا، لأنه لا يكاد يسلم إجماع من مخالفة واحد أو اثنين له، سرا أو علانية، وفي ذلك تعطيل لدليل شرعي.
رابعا: إن الصحابة قد أنكروا على ابن عباس مخالفته لرأي الأكثرية في العول ، وتحليل المتعة، وربا الفضل ، والمناقشات بينهم وبينه لم تكن مناظرة، وإنما كانت إنكارا عليه لمخالفته رأي الأكثرية. أما النصوص الدالة على عصمة الأمة، فمحمولة كذلك على اتفاق الأكثرية، وذلك جائز وكثير في الأسلوب العربي، إذ يصح إطلاق لفظ الأمة على الأكثرية، فمثلا عندما يقال: بنو تميم يكرمون الضيف، فإن المراد أكثرهم، وعندما يقال: عصمة الأمة، فإن المراد يحصل بأكثريتها.
ونوقشت أدلة هـذا القول بالآتي [6] :
أولا: المراد بالسواد الأعظم وبقية الأحاديث التي في معناه الأمة في مجموعها، لما في اتفاقها من إجماع يحرم مخالفته، وإلا لما كان لتلك الأحاديث دلالة على استحقاق النار على مخالفة الإجماع، ولما كانت مخالفة شاذة. [ ص: 96 ]
ثانيا: ما ذكروه من أن بيعة أبي بكر اعتبرت إجماعا رغم تخلف بعض الصحابة، فكان إجماع أكثرية وليس اتفاق الكل، يجاب على هـذا بأن البيعة بالإجماع الكامل، والذين تخلفوا كان تخلفهم لعذر وليس لعدم موافقة، إذ أنهم بعد زوال عذر المخالفين تمت منهم الموافقة.
ثالثا: ما قالوا من أنه لو كان يخرم الإجماع مخالفة واحد أو أكثر، لما انعقد إجماع، يجاب عليه بأن الاحتجاج بالإجماع لا يتحقق إلا بموافقة كل المجتهدين، وإلا فهـو رأي أكثريـة فقط. والعلـم بموافقـة الجميـع، يتـم إمـا بتصريح المقال أو قرائن الأحوال، وذلك ممكن.
رابعا: أجيب بأن إنكار الصحابة على ابن عباس فيما ذهب إليه، لم يكن بناء على أنه خالف ما اعتبر إجماعا، فالإجماع لم يتحقق، وإنما ذلك لأمر آخر، وهو أن ما ذهب إليه ابن عباس في موضوع الربا والمتعة مخالف لما رواه الصحابة من الأخبار الدالة على تحريم ربا الفضل، ونسخ المتعة، ولذا صح عن ابن عباس أنه رجع لما سمع ما رووه له، وقـال: حفظتم عن رسـول الله صلى الله عليه وسلم ما لم أحفظ.. وأما قول ابن عباس: بعدم العول، فهو بناء على ما جرت به عادة المجتهدين في مناظراتهم، حتى يظهر لهم المأخذ من جانب المخالف، ولذا قال ابن عباس رضي الله عنه من شاء باهلته، إن الذي أحصى رمل عالج عددا ما جعل في الفريضة نصفا ونصفا وثلثا، هـذان نصفان ذهبا بالمال، فأين موضع الثلث؟ وقال آخرون: ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا، ولا يجعل أب الأب أبا.. وليس ذلك لأن العود إلى قولهم واجب على من خالفه، بل بمعنى طلب الكشف عن مأخذ المخالفة، ولذا أخذ بقوله بعض المتأخرين عنه [7] . [ ص: 97 ]