استقلال المجمع
يجب أن ينشأ المجمع ويتكون مستقلا عن هـيمنة أي سلطة أو نظام إقليمي يوجه المجمع أو يدفعه للعمل فيما يخدم ذلك النظام، ولا بد أن يكون أعضاء المجمع أحرارا في اجتهادهم، فلا يخضعون لإرهاب سلطة أو ترغيبها، مستقلين كاستقلال القضاء.. ولا بد في هـذا المضمار من توضيح نقاط أربع، وهي: الاستقلال في التكوين للمجمع، الاستقلال في الموارد، العلاقة بأولي الأمر، التحرر من ضغط الواقع، وذلك على النحو الآتي:
1 - الاستقلال في التكوين
في هـذه المسألة يوجد اتجاهان، اتجاه يرى أن يتم تكوين المجمع من خلال الجهات الرسمية أو تحت مظلتها، واتجاه يرى أن يكون ذلك بعيدا عن الجهات الرسمية، وأن يتم بجهد شعبي خالص. [ ص: 131 ]
الاتجاه الأول: ذهب مجموعة من العلماء المعاصرين من أبرزهم الدكتور محمد سلام مدكور [1] الدكتور زكريا البري [2] إلى أنه يتم إنشاء المجمع من خلال دعم المؤسسات الحكومية وتحت مظلتها.. ولكن لكل من الرجلين تفصيله في القضية: فالدكتور مدكور يرى بأن على المسئولين في كل بلد إسلامي أن يجمعوا العلماء المتخصصين ويهيئوا لهم التفرغ الكامل لهذا العمل، ويهيئوا لهم الإمكانات اللازمة، دون أن يكون لأي أحد سلطان عليهم إلا سلطان الدين [3] ، وأن يقف النفوذ والسلطان بجانب العلماء مؤيدا لا مسخرا [4] أما الدكتور زكريا البري، فيرى أن يبدأ أولو الأمر بتحديد الشروط التي يجب تحققها في المجتهدين، ثم يكون الأمر في اختيار أعضاء المجمع موكولا لجماعة المجتهدين أنفسهم، وأن يأمر ولي الأمر بتنفيذ ما توصل إليه المجتهدون في المسائل الاجتماعية العامة، حتى تكون له الصفة الملزمة، وأنه إذا وقع خلاف بين العلماء فحكم الحاكم يرفع الخلاف [5] .
الاتجاه الثاني: ذهب مجموعة من العلماء من أبرزهم الشيخ مصطفى الزرقاء ، والدكتور يوسف القرضاوي إلى أن إنشاء المجمع يجب أن يتم بالجهد الشعبي، ويبعد عن الجهات الرسمية.. فالشيخ مصطفى الزرقاء يؤكد أن الطريق الصحيح لإنشاء المجمع هـو الطريق الشعبي الإسلامي، الذي [ ص: 132 ] يعتمد في تمويله وتنفيذه على الجهود الشعبية والعلمية غير الرسمية، لكي تبتعد هـذه المؤسسة العلمية الدينية العظمى عن شبهة الوقوع تحت نفوذ الحكام، (ولكي تشعر جماعة المسلمين بمسئوليتها عن هـذا الواجب الكفائي الكبير) [6] .
ويؤكد القرضاوي أنه: لا حرية لمجمع تعين أعضاءه حكومة إقليمية، على أرضها يقوم المجمع، ومن مالها ينفق عليه، أو على الأقل لا ضمان لهذه الحريـة، فالحكومـة عـادة لا تختـار إلا من يواليهـا، ولا تنفق على مؤسسـة لا تدور في فلكها، ولهذا يكون من الخير أن يجتمع علماء المسلمين أو صفوتهم من كل أقطار العالم، في صورة مؤتمر كبير يحدد زمانه ومكانه، ليختاروا هـم من بينهم من يرونه أحسن فقها، وأقوم خلقا، ليتكون منهم المجمع العلمي الذي ننشده. [7] .
ويرى الباحث: أنه لا بد لهذا المجمع من الطابعين الرسمـي والشعبي: أما الرسمي فيتمثل في الاعتراف به، واعتباره مؤسسة علمية ترجع إليها الأمـة والدولـة، ويلتـزم الجميـع بقراراتهـا، وأنه شخصيـة اعتباريـة مستقلـة لا سلطان عليها إلا الله، وأن على الجهات الرسميـة أن تقف بجانبـه مؤيـدة لا مسخرة له.. وبهذا فإن الاعتـراف الرسمـي بهـذه الكيفيـة لا بـد منـه، أما الطابع الشعبي الذي يجب أن يتوفر للمجمع فيتمثل في أن الانتساب إلى هـذا المجمع يكون مفتوحا لكل المجتهدين، وفق شروط موضوعية، ويشكل هـؤلاء الجمعية العمومية التي تنتخب الهيئة التنفيذية، وتسير [ ص: 133 ] أعمال المجمع حسب ما يقرره نظام المجمع.. ويضع النظام التأسيسي للمجمع اللجنة التنفيذية، وتقره الجمعية العمومية دون أي تدخـل من جهة رسمية.
وأيضا يتمثل الجانب الشعبي في تمويل المجمع، في أن يكون من خلال التبرعات التي تقدمها الجمعيات الخيرية أو شخصيات ثرية، ولا مانع من أن تسهم الدولة أو الدول بشيء من التمويل المالي على أن لا يكون مشـروطا أو موجها مصارفه، وبذلك يصير المجمع له كامل الحرية في التصرف وفق لائحته وأنظمته المالية التي يضعها ويقرها المجمع نفسه، فيكون المجمع مستقلا في قراره المالي، فلا توجهه دولة أو نظام سياسي.. وبهذه الطريقة يكون المجمع قويا، شعبيا ورسميا، ونؤكد أنه لا بد من السعي إلى إقناع حكومات الشعوب الإسلامية في الأخذ بمقررات المجمع واعتباره قانونا رسميا واجب التطبيق، وكذلك لا بد من العمل على إقناع الأفراد بالالتزام بمقررات المجمع باعتبارها تمثل أرجح الأقوال في القضايا المعروضة والتي يتطلع الناس إلى حكمها، وأن الالتزام بذلك يعتبر داخلا في عموم وجوب طاعـة ولي الأمـر [8] ، الذي أمـر الله بـه في قولـه: ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) (النساء : 59) .
2 - الاستقلال في الموارد والإمكانات
لا بد للمجمع لتسيير أعماله من أن يتوفر له الموارد المالية لتسيير نشاطه والإنفاق على أعضائه المتفرغين، وقد اتجه العلماء المعاصرون فيمن يمول المجمع إلى وجهتين: [ ص: 134 ]
أ - اتجاه يرى أنه لا بد من الدعم المالي الرسمي، شريطة أن لا يؤدي ذلك إلى فرض الجهات الرسمية سلطاتها على المجمع [9] .
ب - اتجاه يرى أن يتم تمويل المجمع تمويلا شعبيا خالصا من خلال مساهمات الجهات الخيرية أو التبرعات الشخصية، وأن يسعى إلى أن يكون له أوقاف كافية لتغذيته بالموارد الثابتة، (ويمكن أيضا تغذيته ببعض حصيلة زكاة الأموال باعتباره أحد وجوه: (في سبيل الله) على أحد رأيين معروفين لأئمة المذاهب وفقهائنا في مصارف الزكاة) [10] .
والذي أراه أن التمويل الشعبي أفضل بكثير من التمويل الرسمي، لأنه يجعل المجمع متحررا من هـيمنة وتوجيه الجهات الرسمية، إلا أنه لا مانع من أن تقدم الجهات الرسمية دعما ماليا للمجمع باعتباره تبرعا منها لجهة مستقلة عنها لا تابعة لها، وأن لا يكون هـذا التبرع مشروطا بأي شيء.
3 - التحرر من ضغط الواقع
ولا يستقيم استقلال المجمع إلا بتحرره من ضغوط الواقع الاجتماعي القائم في حياتنا المعاصـرة، ذلك الواقـع الذي لم يصنعه الإسلام بعقيدته وشريعته وأخلاقه، ولم يصنعه المسلمون بإرادتهم وعقولهم وأيديهم، إنما هـو واقع صنع لهم، وفرض عليهم في زمن غفلة وضعف وتفكك منهم، في حين كان عدوهم المستعمر في حالة قوة ويقظة، فغرس فيهم تلك الأوضاع الفاسدة، وتوارثها الأبنـاء عن الآبـاء، ولم يغيروها، فلا يجوز مجاراة ذلك الواقع باجتهادات تبرر ما به من فساد، واجتهادات تجر النصوص من تلابيبها بتفسير متعسف وتأويل فاسد لتبرير [ ص: 135 ] ذلك الواقع [11] .. ولا يجوز أن يكون الاجتهاد أداة لتبرير الواقع في دنيا الناس باسم المرونة أو التطور، وإعطاء هـذا الواقع سندا شرعيا بالاعتساف وسوء التأويل، فإن الله لم ينزل شريعته لتخضع لواقع الحياة، بل ليخضع لها واقع الحياة، فالشريعة هـي الميزان، وهي الحكم العدل [12] .
فيجب أن يتحرر المجمع من الضغط بكل ألوانه، سواء تمثل في ضغط الواقع الاجتماعي كما أسلفنا أو تمثل في الخوف من سلطات المتسلطين من الحكام، الذين يريدون فتاوى جاهزة تبرر تصرفاتهم، وتضفي الشرعية على أعمالهم، أو الخوف من سلطان الجامدين المقلدين، أو الخوف من العوام الذين يثيرهم المقلدون على كل رأي مخالف لما ألفوه [13] .