تقديم بقلم: عمر عبيد حسنة
الحمد الله الذي جعل غاية الرسالة الإسلامية، ومقصدها الأساس إلحاق الرحمة بالعالمين، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ( الأنبياء: 107 ) ،
وقال: ( الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمـات إلى النور بإذن ربهـم إلى صـراط العـزيز الحمـيد ) ( إبراهـيم: 1) .
وبذلك يصبح إلحاق الرحمة بالإنسان، بكل أبعادها ومعانيها، من خلال تشريعات الإسلام، وتنوير عقله بهدايات الوحي، هو المقصد والهدف لتعاليم الإسلام وأحكامه، والمعيار الضابط لحركة الاجتهاد والدعوة والتربية والتعليم والإعلام، وهو أساس المراجعة والتقويم والنقد للأداء، وتحديد مواطن القصور، ودراسة أسباب التقصير، وبيان مواقع الخلل، وسبيل إعادة اختبار الوسائل ومدى تحقيقها للمقاصد والأهداف، كما يصبح الارتباط بالهدف وتحقيق الغاية هو الموجه وضابط الإيقاع لحركة الإنسان المسلم وكسبه وأنشطته في الحياة كلها .
ولذلك جعل الإسلام النية، التي تعني تحديد الهدف وبعث العزيمة على الفعل، محور العمل، ومدار الحركة، ومناط الثواب، فقال رسول الله ( : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. ) ( متفق عليه من حديث عمر) ، [ ص: 9 ] فالنية من بعض الوجوه، هي الفكر قبل الفعل، والخطة قبل التنفيذ، والإرادة قبل القدرة، ورؤية الهدف، وعلم الطريق، واختيار الوسيلة الموصلة إلى الهدف، وهي العزيمة على الوصول قبل بدء الإقلاع.
والصلاة والسلام على المنقذ من الضلال، المبين سبب ابتعاثه وغايته بقوله: ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) ( رواه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، والحاكم، عن أبي هريرة ) ، الذي كانت سيرته أنموذجا للاقتداء والتأسي، وتجسيد معاني الإسلام وقيمه في حياة الإنسان، والذي جاءت رسالته وحياته تصويبا لقيم الدين وتصحيحا لمسالك التدين، وتبيينا لمقاصد الدين، وحلا للمعادلات الصعبة: بين هدايات الوحي، واجتهادات العقل .. بين الإيمان بالقدر، وممارسة الحرية وبين الإيمان بالمعجزات والسنن الخارقة المنوطة بقدرة الله، وبين السنن الجارية التي تشكل أقدار الله التي تعبد بها الإنسان .. بين مطالب النفس والروح والعقل، ومطالب الجسد وشهواته وغرائزه .
فالناظر في حياته عليه الصلاة والسلام، المتأمل لسيرته، في مجال التخطيط والإعداد والفحص والاختبار للوسائل وتعاطي الأسباب، والتعامل مع السنن الجارية، ومغالبة قدر بقدر -وهو النبي الموحى إليه، المؤيد من الله، المعصوم من الناس- قد يتوهم وكأنه لا صلة له بالسماء وسننها الخارقة، الأمر الذي يدل بوضوح على أن الإنجاز والتكليف الذي تعبدنا الله به إنما يتحقق من خلال عزمات البشر. [ ص: 10 ]
والناظر في شأن توكله واعتماده على الله، وطلبه المدد والعون منه، ودعائه والتجائه، وتبرئه من كل حول وطول وقوة إلا إلى الله، لتحقيق الأهداف، قد يتوهم وكأنه صلى الله عليه وسلم لا صلة له بالتعامل مع الأسباب.
إن حل هذه المعادلة التي كادت تبدو مستعصية في أهل التدين السابق عن الإسلام، والتي كانت وراء الكثير من التصدعات والنزاعات، هي التي جعلت القرآن مهيمنا على الكتب السابقة، وجعلت الرسالة الإسلامية جماع الرسالات السماوية، فكان الرسول هو الشاهد على الناس، وكانت الأمة المسلمة بما تحمل من قيم معيارية ومنجزات حضارية، شاهدة على مسيرة الأمم والحضارات،
قال تعالى: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) ( البقرة: 143 ) .
وبعد: فهذا كتاب الأمة الخامس والستون: ( الاجتهاد المقاصدي .. حجيته، ضوابطه، مجالاته ) للدكتور نور الدين بن مختار الخادمي ، في سلسلة ( كتاب الأمة ) ، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في إحياء وعي المسلم برسالته الإنسانية، ليمارس مهمته في إلحاق الرحمة بالعالمين، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتحقيق النقلة الغائبة عن الحياة الثقافية والعقلية التي تعيشها الأمة المسلمة اليوم، والتحول من حالة النقل والتلقين والمحاكاة والتقليد الجماعي والتراجع الحضاري، إلى مرحلة ممارسة [ ص: 11 ] التفكير والاجتهاد والتجديد والتغيير وتشكيل العقل المقاصدي الهادف، الذي صنعه الإسلام في ضوء هدايات الوحي.
إن العقل الإسلامي الذي بناه الوحي، هو عقل غائي تعليلي تحليلي برهاني استقرائي استنتاجي قائس مقاصدي، يدرك أن الله لم يخلقنا عبثا، وأنه ما من شيء في الوجود من المخلوقات - فضلا عن أحكام الشريعة وتنظيم الحياة - إلا وله علة وسبب، تحكم مسيره سنة وقانون، ويسير إلى هدف وغاية فلا مكان في العقل المسلم للمصادفة والعشوائية والخوارقية في هذا الوجود الكوني، ولا مجال لانتفاء الأسباب.
بل لقد جعل الله السنن والأسباب والنواميس والقوانين، مطردة وموصلة إلى تحقيق المقاصد والنتائج، وطلب من العقل المسلم استيعاب هذه السنن والأسباب بعد أن شرعها له، وخاطبه بها، وجعل التعامل معها هو غاية التكليف، ودلل على فاعليتها بالعبرة التاريخية، والحجة المنطقية، والبرهان المحس، وناط النجاح في الدنيا والفوز بالآخرة بالقدرة على استيعاب هذه الأسباب، وحسن تسخيرها، والتعامل معها، وعدم الركون والاستسلام للقدر، بل مدافعة قدر بقدر أحب إلى الله، وبذلك يبرأ المسلم من علل التدين التي لحقت بالأمم السابقة.
لقد كان الإنسان أو العقل الإنساني في الأمم السابقة محلا للصراع والتمزق بين الوحي والعقل، وبين القدر والحرية، وبين المعجزة ( السنة الخارقة ) ، وبين السبب ( السنة الجارية ) ، وغاب عنه الإدراك الكامل أن [ ص: 12 ] المعجزة ( السنة الخارقة ) هي من بعض الوجوه تأكيد على اطراد السنن الجارية، ذلك أن المعجزة وهي في أبسط تعريفاتها الأمر الخارق للعادة، للقانون، للسنن الجارية، تؤكد أن الله الذي خلق السنن والأسباب هو وحده -وليس الإنسان- القادر على خرقها، وتحقيق النتائج بدون حصول مقدماتها، وأن الله هو الذي أراد جعل الأسباب والقوانين وسائل موصلة إلى تحقيق نتائجها، وتعبد الإنسان بكيفية التعامل معها في ضوء منهج الله، ورتب على حسن هذا التعامل الثواب والعقاب.
لذلك فإن تعاملنا مع الأسباب وإقدامنا على الانضباط بها، هو من إرادة الله وتكليفه لنا، وليس ضد إرادته، فهو الذي كلفنا وأراد لنا أن نريد وأرشدنا إليها، وناط التغيير بفعلنا وإرادتنا في ضوء السنن الجارية، وطلب إلينا النفرة إلى الاجتهاد والفقه الميداني، وإعمال الفكر، وجعل لنا أجرا على اجتهادنا حتى ولو أخطأنا، فالمهم ابتداء أن نحرك عقولنا، ونبذل جهدنا، ونخلص نوايانا .. وقدم لنا أمثلة ونماذج تدريبية على الاجتهاد في الكتاب والسنة، ذلك أن الله لم يثب على الخطأ في شيء، وإنما كانت غاية فضله التجاوز عنه بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليـه ) ( رواه ابن ماجه عن أبي ذر ) ، إلا في حالة إعمال الفكر والاجتهاد، فلم يتجاوز عن الخطأ فحسب وإنما أثاب عليه، لأن الخطأ في الاجتهاد هو من طبيعة الإنسان، وهو سبيل الصواب ودليل الصواب الراد إليه. [ ص: 13 ]
ولعل من الأمور الملفتة في هذا السياق، أن المعجزة الإسلامية ( القرآن ) ، تميزت عن سائر المعجزات السماوية بأنها معجزة عقلية، تخاطب العقل، وتشحذ همته، وتقوده للاجتهاد والتفكير والإيمان.
ولعل أيضا من أبرز معالم أو معطيات العقل المقاصدي الذي بناه الوحي، هو امتلاك القدرة على التفريق وعدم الخلط بين المقدس المعصوم المطلق، وبين البشري الاجتهادي النسبي المحدود، الذي يجري عليه الخطأ والصواب .. بين القيم المعصومة الثابتة الخالدة في الكتاب والسنة، وبين الفكر البشري أو الاجتهاد.
فالاجتهاد وبذل الجهد لاستخراج الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، والنظر في علل النصوص ومقاصدها، ودراسة توفر الشروط والعلل في محل تنزيل الحكم الشرعي، الذي هو محاولة عقلية فكرية لتنزيل النص على واقع الناس، هو جهد بشري، قد يخطئ وقد يصيب، أو بمعنى آخر يجري عليه الخطأ والصواب، كما لخص ذلك الإمام مالك رحمه الله بقوله: ( كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر عليه الصلاة والسلام ) .
وفي ضوء ذلك، فالاجتهاد وهو فعل فكري بشري يمارسه العقل في ضوء الشرع، قابل للخطأ والصواب، وهذا يعني أنه دائما في عصره وفي سائر العصور، محل للتقويم والمراجعة والنقد والفحص والاختبار، والتعديل والإلغاء، والإضافة والحذف، وهو محل للفعل الفكري، وهذا [ ص: 14 ] بالطبع لا ينال من قدسية القيم في الكتاب والسنة وعصمتها، وإنما يؤكد قدسيتها وعصمتها، وأن القيم تبقى هي المرجعية والمعيار الضابط لكل اجتهاد.
من هنا نقول: إن صوابية الاجتهاد في زمان معين ولمجتمع معين، له مشكلاته وأفكاره وإصاباته وقضاياه، لا تعني أو تقتضي بالضرورة صوابية هذا الاجتهاد لكل زمان ومكان، حتى لو تغيرت ظروف الحال ومشكلات الناس، ونوازلهم .. ولو كانت صوابية الاجتهاد لعصر تعني الصوابية لكل عصر، لما كان هناك حاجة للاجتهاد والتجديد أصلا، ولاكتفى الناس باجتهاد عصر الصحابة، ولما كانت الشريعة تتمتع بالخلود والتجرد عن قيود الزمان والمكان، ولكان إقفال باب الاجتهاد من خصائص الشريعة ومستلزماتها، ولما كان هناك داع لحض الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة على الاجتهاد، وخطاب القرآن لهم بالنفرة ليتفقهوا في الدين، على الرغم من وجود النصوص في الكتاب والسنة .. وقد تكون المشكلة في التوهم بأن خلود قيم الشريعة وخلود النصوص في الكتاب والسنة وعصمتها، يقتضي الخلود والعصمة للاجتهاد البشري المتولد عنهما، وإن تخطئة الاجتهاد يعني تخطئة الشريعة، وأن حملة الشريعة يستمدون قدسيتهم من قداستها !
وقد يكون من الإصابات القاتلة التي نعاني منها اليوم، أننا نحاول التعامل مع المتغيرات المجتمعية المتسارعة بنفس الوسائل التي كنا نتعامل [ ص: 15 ] بها مع مرحلة سابقة، فتصاب وسائلنا بالعقم ونفوسنا بالإحباط، حيث تتغير الدنيا من حولنا ولا تتغير اجتهاداتنا ووسائلنا في التعامل معها، وهذا مؤشر خطير على غياب العقل المقاصدي، الغائي التعليلي، المفكر غير المقلد.
لذلك نقول: إن الفقه المقاصدي أو الاجتهاد المقاصدي، مبطن بأبعاد على غاية من الأهمية في تشكيل العقل المسلم بشكل عام، وإعادة بنائه، وتفعيل حراكه الاجتماعي، وتأصيل التفكير الاستراتيجي الذي يهتم بالتخطيط والفكر قبل الفعل، ويفحص المقدمات بدقة، ويدرس النتائج والتداعيات المترتبة عليها، ويمتلك القدرة والمرونة على المتابعة في الرحلة الفكرية والمراجعة للنواتج والاكتشاف لمواطن الخلل، ويحدد أسباب القصور عن إدراك النتائج ومواطن التقصير.
إن العقل المقاصدي، حقق التحول من عقلية التلقين والتلقي إلى عقلية التفكير والاستنتاج والاستدلال والاستقراء والتحليل والنقد والموازنة والاستشراف المستقبلي، وعدم القبول لأي فكر أو اجتهاد بغير سلطان أو بغير برهان تحت شعار ( هاتوا برهانكم ) ، ويمتلك أدوات البحث والمعرفة، وإمكانية النظر في المآلات والعواقب، ويصبح عقلا مستبينا يحسن التعامل مع الأسباب والمقدمات والتسخير للسنن، ويمتلك ناصية سنة المدافعة فيستطيع مدافعة قدر بقدر أحب إلى الله، [ ص: 16 ] كما يقول ابن القيم رحمه الله: ( ليس المسلم الذي يستسلم للقدر، ولكن المسلم هو الذي يدفع القدر بقدر أحب إلى الله ) .
وأستطيع أن أقول: إن بناء العقل المقاصدي يحدث تغييرا استراتيجيا في الثقافة، ونقلة فكرية نوعية في الحياة العقلية والذهنية، ويعيد للوحي عطاءه المتجدد على يد البشر، وإعادة النظر فيما وضعوا من آليات مجردة للتعامل معه وتنزيله على الواقع، بعيدا عن مصالح الناس.
وهنا حقيقة قد يكون من المفيد طرحها لمزيد من المناقشة والمثاقفة والمفاكرة، أو على الأقل فتح ملفها واستدعائها إلى ساحة الاهتمام الفكري والفقهي على حد سواء، وهي: أن الاجتهاد المقاصدي أو بناء الفقه المقاصدي الذي نريد، ليس مقتصرا على الاجتهاد الفقهي أو التشريعي أو ما اصطلح على تسميته فقه آيات وأحاديث الأحكام، وغيابه عن باقي الآيات والأحاديث التي تعرض لجوانب الحياة وأنظمتها، أو غيابه عن شعب المعرفة الأخرى، أو عن فلسفة العلوم بشكل عام وضبط أهدافها بمصالح الخلق.
فالاتجاه المقاصدي في الاجتهاد واستنباط الأحكام إنما استدعته مقتضيات تحقيق خلود الشريعة والامتداد بأحكامها، وبسطها على جميع جوانب الحياة، والتدليل على رعايتها لمصالح العباد، وتخليص الفقه، وعلى الأخص في عصور التقليد والجمود والركود العقلي، من النظرة الجزئية والصورة الآلية المجردة، البعيدة عن فقه الواقع، حيث انتهى [ ص: 17 ] الأمر إلى قواعد مجردة وقوالب بعيدة عن الارتباط بالغايات الأصلية، التي قد يكون انتهى إليها، إلى درجة قد تفوت المصلحة، وإعادة توجيهه صوب تحقيق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، وهي الغاية التي من أجلها جاءت الشريعة وكانت الرسالة، ومعالجة مشكلات المجتمع والتعامل مع قضاياه وحاجاته .
إن اقتصار الاجتهاد المقاصدي على المجال الفقهي التشريعي فقط، واحتجابه في هذه الزاوية -على أهميتها- وامتدادها في عمق المجتمعات البشرية، يحمل الكثير من الخلل والمضاعفات، ويورث الكثير من التخلف والعجز والحياة العبثية في المجالات المتعددة، والضلال عن تحديد الأهداف، ومن ثم انعدام المسئولية وغياب ذهنية المراجعة والنقد والتقويم.
صحيح قد يكون الاجتهاد المقاصدي في الفقه والتشريع، هو الموقع الأهم والأخص، لكن قد تكون المشكلة المطروحة التي نعاني منها تكمن في غياب العقل المقاصدي والتفكير المقاصدي والسلوك المقاصدي الهادف، الذي ينعكس على الأنشطة والمسالك البشرية في جميع حقولها الفكرية والمعرفية والسلوكية.
ذلك أن الأصل في العقل المقاصدي أن يكتشف الطاقات، ويضع لها الخطة والهندسة المناسبة، ويؤصل المنطلقات، ويحدد الأهداف المرحلية والاستراتيجية، ويضع البرامج، ويبتكر الوسائل، ويحدد المسئوليات، ويبصر بمواطن القصور والخلل، ويكتشف أسباب التقصير، [ ص: 18 ] ويدفع للمراجعة والتقويم واغتنام الطاقة، والتقاط الفرصة التاريخية، والإفادة من التجربة، ويكسب العقل القدرة على التحليل والتعليل والاستنتاج والقياس، واستشراف المستقبل في ضوء رؤية الماضي، ويحمي من الإحباط والخلط بين الإمكانيات والأمنيات .. وبمعنى آخر، إن بناء العقل المقاصدي الغائي ينعكس عطاؤه على جميع جوانب الحياة الفردية والاجتماعية، ويحقق الانسجام بين قوانين الكون ونواميس الطبيعة وسنن الله في الأنفس، وامتلاك القدرة للتعرف على الأسباب الموصلة إلى النتائج، وإمكانية المداخلة والتسخير المطلوب شرعا.
إن العقل المقاصدي الذي بناه القرآن والسنة، انطلق من الوحي، وارتكز على التفكير، وتوجه صوب الفطرة الإنسانية، واستخدم الأسلوب البياني والبرهاني، ووثق طروحاته بشهادة الواقع، وأفاد من عبرة التاريخ ومصائر الأمم بسبب فساد تعاطيها للأسباب، وعرض مشاهد لواقعها في العقيدة والعبادة والسياسة والتشريع والفكر والثقافة والعادات والأخلاق والموروث الاجتماعي.
لذلك نجد معظم فقهاء الإصلاح والتجديد، بدأت مشروعاتهم في التغيير من إعادة الاعتبار للفقه المقاصدي، بحيث ربطوه بمصالح الناس، وانتشلوا فكر الأمة وفعلها من الوهدة التي سقطت فيها، وحاولوا ردم فجوة التخلف، وإعادة الاعتزاز بالشريعة والالتزام بأحكامها، وخلصوا الاجتهاد من الآلية الميكانيكية والقواعد المجردة، ربطوا اجتهادهم بقضية [ ص: 19 ] المقاصد .. وقد تعرض الإمام الغزالي رحمه الله لبعض ما يتعلق بالاجتهاد المقاصدي، خاصة في كتابه: ( شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل ) ، كما اشتمل كتابه: ( إحياء علوم الدين ) ، على ذكر كثير من العلل والحكم التي تتعلق بها الأحكام .. كما كتب الإمام عز الدين بن عبد السلام قواعده الكبرى والقواعد الصغرى باسم: ( قواعد الأحكام في مصالح الأنام ) .. وكتب أبو إسحاق الشاطبي كتابه: ( الموافقات في أصول الشريعة ) ، ويعتبر هذا الكتاب بحثا في المقاصد .. كما تعتبر جهود الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله في كتابه: ( مقاصد الشريعة) من أهم الكتب التي بلورت الجهود السابقة .
ولعل من البشائر المستقبلية، توجه بعض الباحثين والدارسين في الدراسات العليا في رسائل الماجستير والدكتوراه إلى موضوعات تتعلق بالمقاصد، من أمثال الدكتور يوسف حامد العالم رحمه الله، والدكتور أحمد الريسوني وغيرهم.
وقضية الاجتهاد المقاصدي، لم تتوقف ولم تنقطع حقيقة، إلا أنها لم تتحقق بالبعد الفقهي والفكري المطلوب لانتشال العقل المسلم، بحيث تصبح صبغة ذهنية للعقلية المسلمة المعاصرة، ذلك أن المقاصد كانت مدار الاجتهاد في القرون المشهود لها بالخيرية، وكانت تتحقق وظيفتها دون أن تفرد لها التعريفات والتسميات التطبيقية، الأمر الذي نلحظه عند أي تتبع لاجتهادات الصحابة وسبب اختلافهم في تنزيل [ ص: 20 ] الأحكام على محالها، وسبب عدم تنزيل الأحكام عندما لا تتوفر الشروط أو تتعطل المصالح.
لقد تحول هذا الإدراك الفقهي ( للمقاصد ) إلى نوع من اليقين بذلك الترابط الدقيق بين المقاصد والأفعال، فالفعل يصبح ضربا من العبث إن خلا عن مقصد وغاية، والفعل لا يتحقق إن لم تتوفر أسبابه ومقدماته، والأمور مرتبطة بغاياتها من حيث الإثمار والإنتاج، بمقدماتها وأسبابها من حيث الوجود والتحقيق .
إن مدار المسئولية الإنسانية والتكليف والحرية، على مباشرة الأسباب وتسخير النواميس والقوانين الإلهية التي تحكم حركة الوجود واستيفاء آثارها ونتائجها، لتحقيق أمانة الاستخلاف وبناء العمران ( تصدير المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، تأليف الدكتور يوسف حامد العالم، طباعة المعهد العالمي للفكر الإسلامي ) .
إن الاجتهاد المقاصدي أو التفكير المقاصدي الذي ينتج الفقه المقاصدي -والمراد هنا بالفقه: ( الفقـه الحضاري ) بشكل عام، الذي يستغرق شعب المعرفة جميعا، ويمتد لآفاق الحياة جميعا، بحيث يستوعب الوحي كإطار مرجعي وضابط منهجي، ويستنفر العقل ويشحذ فاعليته كوسيلة لفهم الوحي وفهم المجتمع والواقع- هو القادر على توليد هذا الفقه المطلوب، لتهديف حركة الأمة في كل مرحلة حسب إمكاناتها واستطاعاتها، بحيث يتم الاستخدام الأفضل [ ص: 21 ] للإمكانات، وتصبح قاصدة بعيدة عن الهدر والضياع والضلال.
والضلال قد يعني، فيما يعني: القلق الحضاري، وعدم الاستقرار والرسو على يقين واطمئنان، واستمرار التيه، وعدم الوصول إلى الهدف المنشود .. هو في حقيقته توجه لاكتشاف الهدف، لاكتشاف الحق، ينتهي بصاحبه إلى الضياع وعدم الوصول، وهذا لا يعني بحال من الأحوال الركود والسكونية والاستنقاع، إنما يعني الضياع..الضائع هو المتحرك الباحث عن الهدف، الذي لم يهتد إليه بعد، لأن عقله لم يمتلك الأدوات المعرفية الموصلة، فيأتي الوحي، ليحدد الهدف، ويوفر الجهد، ويوجه الضال إلى الحق والله سبحانه وتعالى عندما وصف رسوله قبل البعثة بقوله: ( ووجدك ضالا فهدى ) ( الضحى: 7 ) ، فإن الضلال هنا لا يعني القبول بالواقع الوثني، ولا يعني القعود عن التطلع إلى الهدف والمثل الأعلى، وإنما يعني رحلة البحث والكشف والقلق المستمر وعدم الوصول، ويعني أيضا أن الضلال ملازم للعقل في بعض المجالات التي يفتقر فيها معرفيا للوحي، ولا يخلص من ضلاله بدونه.. فالوحي يحدد الأهداف، والعقل يتحرك ويبتكر الوسائل لتحقيقها.
فالاجتهاد المقاصدي أو الثقافة المقاصدية، إن صح التعبير، هو القدرة على تحديد الأهداف والمقاصد المرحلية والاستراتيجية.. وهو القدرة على الربط بين الاستطاعة والحكم الشرعي المناسب للحركة في هذه المرحلة، والهدف الممكن تحقيقه في ضوء هذه الاستطاعة، حتى ولو [ ص: 22 ] كان الهدف جزئيا شريطة أن يكون هذا الهدف الجزئي بعضا من كل، أي جزءا من الهدف الكلي، والرؤية الشاملة لمجال الحركة، بعيدا عن الرسم بالفراغ، والأماني والحماسات التي لم تورث إلا الإحباط، وبذلك يتحقق الفقه المطلوب لتنزيل الأحكام الشرعية على الواقع، ويحمى العمل الإسلامي من كثير من المجازفات والعشوائية، التي مايزال يقع فيها، ويخلص من الحفر وسوء التقدير وهدر التضحيات تحت الرايات العمية، التي لا تبصر أهدافها، ويمنح القدرة على التقويم والإفادة من التجربة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من قاتل تحت راية عمية يدعو إلى عصبية، أو يغضب لعصبية، فقتلته جاهلية ) ( رواه مسلم وابن ماجه واللفظ له، عن أبي هريرة ) ، لأن الموت في سبيل الله أو التضحية الإسلامية بشكل عام، هي التضحية المبصرة لأهدافها، الضابطة لحركتها، المقدرة لإمكاناتها، المستوعبة لظروفها، التي تنتصر للدين والحق، وتمقت التعصب للقوم والهوى، كما كان يفعل أهل الجاهلية .
هذا من جانب، ومن جانب آخر نحسب أن الفقه المقاصدي، إذا أخذ سبيله إلى التشكيل الثقافي، سوف يخلص العقل المسلم من الفوضى وانفلات الفقه والمعيار في التعامل مع الأحكام الشرعية، ويمكنه من حسن اختيار وتقدير الموقع المناسب للاقتداء والتأسي من مسيرة النبوة والأحكام المناسبة للمرحلة والحالة التي عليها الاستطاعة، فلا يصاب بالخسران والخيبة والإحباط لعدم استكمال تنزيل جميع الأحكام على [ ص: 23 ] جميع المجالات، بل يطمئن إلى أنه يطبق كل الأحكام الشرعية المناسبة للحالة والواقع والإمكانات، فهو بذلك مطبق للشريعة، متق الله بقدر استطاعته .. وهذا التطبيق الجزئي بالنسبة لشمول الشريعة المستطاع، المتناسب مع الحالة والواقع بالنسبة للفرد، هو السبيل للتحضير والتنمية للإمكانات والاستطاعات للارتقاء من الحسن إلى الأحسن، ومن الممكن إلى الصعب الذي يصبح ممكنا، ومن الصعب إلى ما يمكن أن يبدو في مرحلة ما مستحيلا، بحيث يصبح صعبا.
ولعلنا نرى أن من أخطر المشكلات التي يعاني منها العمل الإسلامي اليوم، تتمثل في غياب الأهداف والمقاصد الواضحة للحركة والدعوة، ولا نعني بذلك المنطلقات الإسلامية أو الأهداف الكبرى التي وضحتها القيم الإسلامية في الكتاب والسنة، وإنما نعني الأهداف المحددة التي تتناسب مع الإمكانات المتوفرة والظروف المحيطة، وتشكل في النهاية مساحة أو مسافة في الطريق إلى تحقيق الأهداف الكبرى.
ذلك أن عدم تقدير الإمكانات ووضوح الأهداف بشكل دقيق، أدى إلى حالة من الفوضى الذهنية، والتضارب في الرؤية، وبعثرة الجهود، والعجز عن إبداع البرامج والوسائل المناسبة، وفقه الأحكام الشرعية المنزلة لكل حالة، إلى درجة قد تنقلب معها الوسائل إلى غايات، مما أوصل العمل إلى ضرب من الآلية والتكرار وغياب معايير التقويم وحسابات الزمن وتحديد الجدوى . [ ص: 24 ]
وهكذا تستمر الحراثة في البحر، والسير بدون بوصلة هادية، والسباحة بدون شواطئ، وتبديد الجهود وهدر الطاقات.. نتحرك ونقع بسبب الضلال عن الهدف، ونحن نظن أننا نحسن صنعا، فنصير أشبه بالأخسرين أعمالا، لعجزنا عن حسن التعامل مع الوحي الإلهي، واكتشاف منهجه في الدعوة والحركة والهدف لكل مرحلة من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث يقبع بعضنا عند مرحلة بدء الوحي: ( اقرأ ) ، ويتطاول الآخر بدون إمكانات لممارسة أحكام مرحلة الكمال: ( اليوم أكملت لكم دينكم ) ( المائدة: 3 ) ، فيخسر الأول طاقاته ويعطلها، ويتخاذل بدليل شرعي حسب وهمه، ويتهور الآخر ويهدر طاقاته في غير مواقعها، أيضا بما يتوهم من فقه شرعي واستدلال مغلوط.
ولا يزال العمل الإسلامي يمنى بهزائم متلاحقة، ويكرر أخطاءه .. وقد يكون الأمر المحزن حقا أن أعداء الإسلام أدركوا ذلك أكثر من العاملين للإسلام، فأحسنوا استثمار تضحيات المسلمين لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، لغفلتنا عما وراء الرايات العمية التي تصنع لنا ونسير وراءها، غافلين عن حكم الشريعة ومقاصدها وسنن الحركة التاريخية التي تحدد الأهداف والمقاصد في ضوء الاستطاعات التي يحكمها قوله تعالى: ( فاتقوا الله ما استطعتم ) ( التغابن: 16 ) ، ومعرفة الإمكانات بدقة، والمهارة في حسن توظيفها [ ص: 25 ]
وقد تكون المشكلة في شيوع فلسفات التخلف، والاختباء والاحتماء وراء شعارات التخلف وتفسيرات التخلف، التي تنعكس على فهم القيم في الكتاب والسنة، لأن أخطر ما في التدين من آفات، هو الفهوم المغشوشة والمعوجة لقيم الدين والتفتيش عن المسوغات والمشروعيات لواقعنا وأهوائنا ومسالكنا، فتنقلب المعادلة، فبدل أن يكون هوانا تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، نجعل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم تبعا لأهوائنا وفلسفاتنا، ونعيش تدينا معوجا، تسوده تحريفات الغالين، وانتحالات المبطلين، وتأويلات الجاهلين، واختراقات الأعداء الثقافية والأمنية، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به. ) ( رواه أبو نعيم في كتاب الأربعين، والخطيب البغداي في تاريخه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، انظر كتاب: جامع العلوم والحكم، الحديث الحادي والأربعون) ، فتغيب المقاصد والغايات، وتتعطل الإمكانات، ويسود الركود والتوقف، ويعلو صوت الإرجاء وفلسفة التخاذل، التي قد تعلو عليها في بعض الأحيان أصوات الحماس والتهور والمجازفة، التي تدفع إلى تحركات تمثل ردود الأفعال غير المدروسة التي تأتي ثمرة لليأس، فتزيد الطين بلة كما يقولون، فيضل العمل بفقدان رؤية مقصده وهدفه تماما، ويصاب بعدم إحكام وسائله بدقة، فنكون كالأخسرين أعمالا ونحن نظن أننا نحسن صنعا، وعندها تتحول القيم في الكتاب والسنة، في ضوء فهومنا المعوجة وتفسيراتنا المتخلفة [ ص: 26 ] ( بحيث يصبح لكل إنسان منا كتاب وسنة ) ، من وسيلة نهوض إلى مشكلة ومعوق .
من هنا نقول بأهمية الاستمساك بالمنهج النبوي في الكتاب والسنة، وتطبيقاته في السيرة وحقبة خير القرون، لأنه يشكل المرجعية للمنطلق والفهم، والضبط المنهجي لعلوم الطريق، والسبيل لتحقيق الهدف وحماية الطاقة، كما قال صلى الله عليه وسلم في موعظته البليغة التي وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون: ( أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) ( رواه أبو داود عن العرباض بن سارية ) .
في ضوء هذه الفلسفات المهزومة، وهذه الثقافة المغشوشة، وهذا التدين البئيس، الذي يميت حتى القلق السوي والمحرض الحضاري للنهوض، ويمنح الاطمئنان الديني الخادع، تتولد شعارات التخلف التي تعلن أنه ( ليس بالإمكان أفضل مما كان ) ! والذي يستمع إلى هذا الشعار، قد يتوهم أننا نعرف بالضبط الإمكان الذي نمتلكه، والأهداف التي يمكن أن يحققها، والنتائج التي انتهت إليها الأمورا!
لذلك نقول: إنه شعار العجزة والمعطلين، الذين يحاولون إيجاد المسوغ لعطالتهم وسكونهم، ولا بأس عندهم، ومن خلال فهومهم [ ص: 27 ] المعوجة لقيم الدين ومسألة القدر والحرية، أن يلقوا بالتبعة على القدر وعلى إرادة الله لنا ذلك بالتخلف والعجز، من دون سائر الخلق حتى الكفار منهم !
علما بأن المستقرئ لخطاب الكتاب والسنة ولمرحلة النبوة ولتاريخ الأمم وللواقع في بعض تجلياته، يتيقن أنه بالإمكان دائما أفضل مما كان، وأن السبيل إلى ذلك هو في التعرف على الإمكانات ومحاولات حسن تسخيرها وسبل تطويرها، ومعرفة الأهداف التي يمكن تحقيقها من خلال هذه الإمكانات، وإدانة الواقع، هو سبيل النهوض والترقي، وهو منهاج النبوة وفهم خير القرون.. فالتغيير والتجديد، والإعداد والجهاد، والاجتهاد والفاعلية، والحركة والدعوة والهجرة، والمدافعة الحضارية، والفاعلية الدائبة، والضخ الإيماني لمواقع العمل، وإرادة الله لنا أن نريد ونتحرك، وشريعة السنن والدعوة إلى تسخيرها، والحرص الدائم على ما ينفعنا، وعدم العجز والسقوط والقبول بالأدنى، هو عطاء هذا الدين المنقذ.
وليس أقل من ذلك خطورة شيوع عقلية إلغاء السنن وقوانين الحركة التاريخية، وغياب فكرة السببية، وانهدام معايير التقويم والنقد والمراجعة، وتحديد مواطن الخلل، واكتشاف المسئولية التقصيرية عن الأداء، وإلغاء المقاصد والغايات من الفعل البشري، التي تعتبر المحرض الحضاري للحركة والتقدم، وطرح شعارات مضللة وإلباسها لبوس الدين بأنه علينا أن نعمل وليس علينا إدراك النتائج، والنظر إلى تلك المقولة الخطيرة بإطلاق، التي [ ص: 28 ] التبست فيها الأمور، وتداخلت المفهومات، وخلط الخطأ بالصواب، وغابت المقاصد وجمدت الوسائل، واعتمدت، سواء أنتجت أو لم تنتج، ذلك أن الأصل أن تربط الأسباب بمسبباتها والمقدمات بنتائجها، وأن السنن في ذلك مطردة كما قال تعالى: ( فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا ) ( فاطر: 43 ) ..
وهذا الاطراد لا يتوقف إلا إذا اختلت المقدمات أو اعترضها عارض، إذ من غير المقبول شرعا وعقلا وواقعا أن تكون حركة الإنسان عابثة وغير قاصدة، وأن يكون سيره غير موصل، وزراعته غير منتجة، وسعيه غير محقق النتائج، فهل من المقبول شرعا وعقلا أن يزرع القمح فيخرج له العلقم، ويزرع التفاح فيخرج له الشعير؟ وهكذا بهذا الفهم المعوج للتدين، تختل معادلات الحياة، وتنخرم العدالة في الكون.
وقد يكون من أسباب هذه الرؤية، العجز عن إبصار النتائج البعيدة، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرع ذلك ولم يمارسه، وجيل الصحابة خير القرون، لم يفهموا ذلك الفهم، وإنما كانوا دائما يفتشون عن جوانب القصور وأسباب التقصير، إذا تخلفت النتائج أو تخلف النصر.. وآيات القرآن والبيان النبوي وتطبيقات السيرة القاصدة كلها، تؤكد المسئولية التقصيرية عن العمل في حالة تخلف الأهداف وعدم تحقق النتائج، ولعل قوله تعالى في أعقاب أكبر هزيمة مني بها المسلمون في عصر القدوة ( في أحد ) ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ) ( آل عمران: 165 ) ، [ ص: 29 ] أحكم جواب على أن الإلقاء بالتبعة على القدر أو على إرادة الله، أو على الأسباب الخارجية لصناعة المبررات للتخلف والسقوط وضلال السعي، لون من التدين المغشوش والفهم المعوج لقضية القدر والحرية والإرادة في الإسلام .
ويكفي أن نقول: بأن قيم القرآن الكريم والسنة النبوية، أكدت على ربط النتائج بالمقدمات والأسباب بالمسببات، وصاغتها كمعادلات اجتماعية، ومنحتها من الدقة والصرامة أقدارا أشبه ما تكون بالمعادلات الرياضية الصارمة، لتكون فلسفة حياة، وتشكل دليل عمل، وتبين منهاج الطريق، وتحمي من التبعثر والعطالة .. وسوف نقتصر هنا على إيراد بعض النماذج، التي تشكل نوافذ وإضاءات فقط، بعيدا عن الاستقراء الكامل والإحاطة المطلوبة:
يقول الله تعالى: ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) ( محمد: 7 )
ويقول: ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا ) ( الأنفال: 65) .
ويقول: ( إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ) ( الأنفال: 29)
ويقول: ( فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى ) ( الليل: 5 -10) . [ ص: 30 ]
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من أحب أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره، فليصل رحمه ) ( متفق عليه من حديث أنس ) .
ويقول صلى الله عليه وسلم : ( من يكن في حاجة أخيه يكن الله في حاجته. ) ( متفق عليه من حديث ابن عمر ) .
ويقول: ( من يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ) ( رواه ابن ماجه من حديـث أبي هريرة ) .
ومن القضايا الجديرة بالتوقف أيضا في هذا النطاق، ما يمنحه الاجتهادي المقاصدي أو الثقافة المقاصدية من نقلة منهجية وأنظمة معرفية في المجال التربوي أو بناء العملية التربوية والتعليمية، وتربية العقل بشكل أخص.
حيث يتم من خلال استيعابها وتشربها ثقافيا، التحول من عملية التلقين والتلقي والقبول والتوارث الاجتماعي للتقليد، إلى عملية التفكير والفاعلية والمناقشة والفحص والاختبار والمراجعة والاستدلال والاستقراء والاستنتاج، وبناء العقل الفاعل الناقد والشخصية الاستقلالية، التي تمتلك المعايير والمفاتيح والمنهج الصحيح للنمو والترقي، تمتلك معايير القبول ومعايير الرفض، ومفاتيح البحث والنظر، وبذلك يكون العطاء التربوي والتعليمي من أبرز ما يميز نظرية المقاصد أو الاجتهاد المقاصدي، حيث ينقل الفرد من العطالة إلى الفاعلية ويمنح للعقل دليل التفكير، وللطاقات دليل التشغيل. [ ص: 31 ]
ولعل مقاصدية وحكمة التدرج التربوية، والسير بالناس إلى تحقيق مصالحهم وسعادتهم في المعاش، وفوزهم في المعاد، وأخذهم بأحكام التشريع شيئا فشيئا، ولبنة لبنة، حتى اكتمل وكمل الهدف الكبير، وتوجيه سعيهم إلى تحقيق الهدف الكبير من العمل الصالح للفوز بالجنة، واضحة كل الوضوح ..
كما أن الترتيب التوقيفي لآيات وسور القرآن الكريم على غير أزمنة النزول، له من المقاصد والحكم التربوية في كيفية التعامل مع المنهج القرآني والتعاطي مع الواقع البشري، ما لا يخفى على كل ذي نظر وعقل، ذلك أن هذا الترتيب في تجاور الآيات، رغم تباعد وتباين أزمنة نزولها، يمنح مساحات هائلة من المرونة والتحرك الطليق، والتعامل مع المنهج بكل محطاته ومراحله حسب الاستطاعات المتوفرة والمقاصد الملائمة لكل حالة، خاصة وأن أقدار التدين ترتفع وتنخفض، ولكل حالة ما يناسبها من الأحكام والاجتهاد .
فالإيمان كما هو مقرر شرعا وملحوظ واقعا، يزيد وينقص، كما أن الإمكانات تتطور، وبالتالي لا بد أن تتوافق المقاصد والأهداف المرجوة مع الإمكانات، فتنفتح بذلك أو بهذا الترتيب التوقيفي مجالات واسعة للاجتهاد لم تكن لتتحقق لو كان الترتيب مقولبا حسب أزمنة النزول .. فالقيم الإسلامية في الكتاب والسنة والفقه التطبيقي في السيرة، [ ص: 32 ] يشكلان الأنموذج الأكمل لكل أصول الحالات التي سوف تمر بها البشرية، والاجتهاد هو القدرة على تقدير موقع التأسي والاقتداء من مسيرة هذا الأنموذج، الذي يحقق مصالح العباد في كل مرحلة وكل حالة تكون عليها الأمة.
وعلى الرغم من الأهمية التي يمنحها الاجتهاد المقاصدي لبناء العقل النضيج، وتحقيق مقاصد الدين، وتطبيق أحكام الشريعة، وتقويم مسالك الناس بقيم الشرع، وتمكين الإيمان من النفس، والالتزام بمقتضياته في الواقع، والسير بالمجتمع نحو غاياته، وحماية طاقاته من العطالة والهدر، فإن هذا التوجه الاجتهادي لم يتحقق بالبعد المطلوب في مجال الكسب الإسلامي العلمي والعملي على حد سواء.
وهنا لا بد من التنبه إلى بعض المخاطر التي قد تصاحب الاجتهاد المقاصدي، ذلك أن قضية المقاصد أو التوسع بالرؤية والاجتهاد المقاصدي دون ضوابط منهجية وثوابت شرعية، يمكن أن تشكل منزلقا خطيرا ينتهي بصاحبه إلى التحلل من أحكام الشريعة، أو تعطيل أحكامها باسم المصالح، ومحاصرة النصوص باسم المصالح، واختلاط مفهوم المصالح بمفهوم الضرورات، في محاولة لإباحة المحظورات، فتوقف الأحكام الشرعية تارة باسم الضرورة، وتارة باسم تحقيق المصلحة، وتارة تحت عنوان النزوع إلى تطبيق روح الشريعة لتحقيق المصلحة، فيستباح الحرام، وتوهن القيم، وتغير الأحكام وتعطل، ويبدأ الاجتهاد من خارج [ ص: 33 ] النصوص، ومن ثم يبرز التفسير المتعسف للنصوص من هذا الاجتهاد الخارجي، وكأن النصوص في الكتاب والسنة التي ما شرعت إلا لتحقيق المصالح، وكانت الدليل والسبيل لبناء الاجتهاد المقاصدي، إذ بها تتحول لتصبح هي العقبة أمام تحقيق المصالح، وأن تعطيل المصالح كان بسبب تطبيقها، لذلك لا بد من إيقافها والخروج عليها في محاولة لفصل العقل عن مرجعية الوحي، واستقلاله بتقدير المصالح والمفاسد، والتحسين والتقبيح، بحيث يصبح مقابلا للوحي، بدل أن يكون قسيما له، مهتديا به، منطلقا منه .
وفي تقديري أن التعسف في الاجتهاد المقاصدي أو غير المقاصدي، والمنزلقات التي يمكن أن يقع فيها، لا يجوز أن تقود إلى إلغاء الاجتهاد بحال من الأحوال أو إلى إغلاق باب الاجتهاد، ذلك أن التطبيق الخاطئ للوسيلة لا يجوز أن يلغي الوسيلة ويوصد الأبواب، وإنما يقتضي تصويب التطبيق ليؤتي ثماره المرجوة .. ويبقى الأصلح والأصوب، فتح الباب والممارسة حتى لو كانت تحتمل الخطأ والصواب، فالحوار والمناقشة هما الكفيلان ببلورة الحقيقة والخلوص إليها، لأن البقاء للأصلح، والبقاء للأصوب، والعاقبة للتقوى .. ومن الطبيعي أن يجري الخطأ والصواب على الإنسان، لكن تبقى القيم في الكتاب والسنة، أو معرفة الوحي بشكل أدق، هي المعايير الضابطة والموجهة والإطار المرجعي للمسيرة، والحامية من السقوط، بحيث يصير الخطأ هو أحد الأدلة والموجهات إلى الصواب. [ ص: 34 ]
وهذا التدافع الطبيعي، هو الذي سوف يؤدي إلى النمو وحصحصة الحق، الذي كان ولا يزال موجودا وممتدا منذ عصر الصحابة والتابعين، حتى يرث الله الأرض ومن عليها طالما أن هناك فوارق فردية في المواهب والقابليات، ومساحات متفاوتة في الكسب المعرفي، والتحصيل العلمي بشكل عام.
ويبقى باب الاجتهاد المقاصدي مطلوبا ومهما ومفتوحا طالما كانت حركة المجتمعات في تطور ونمو وامتداد، وتغير وتبدل في المصالح وطبيعة المشكلات.. فالاجتهاد، وعلى الأخص الاجتهاد المقاصدي، والتجديد والنمو التشريعي والامتداد، هو دليل خلود هذا الدين، وهو من طبيعة الخلود ولوازمه .. فإغلاقه بحجة التعسف في الاجتهاد وعدم وجود المؤهل، هو نوع من محاصرة النص الخالد، والحكم العملي بعدم صلاحيته لكل زمان ومكان، وهو حجر على فضل الله تعالى، الذي أنزل الشريعة خاتمة خالدة، الأمر الذي يقتضي إيجاد المؤهلين لحملها والامتداد بها، وبذلك نقع بالحفر نفسها التي حفرها أعداء الشريعة، وحكموا بتاريخيتها وعدم صلاحيتها للعصر الحاضر.
ولا شك أن الإمام الشاطبي رحمه الله، هو الذي أصل للاجتهاد المقاصدي في كتابه: ( الموافقات ) ، وبلور نظريته، ومن جاء بعد ما يزال يغترف من معينه، وإن كان الإمام المجدد ابن تيمية رحمه الله هو أحد رواد أو بناة الاجتهاد المقاصدي، وإن لم يفرد له كتابا أو بحثا خاصا به، حيث [ ص: 35 ] كانت له اجتهادات جريئة خالف فيها بعض الفقهاء، لأن تطبيق بعض الاجتهادات الفقهية النظرية المجردة السائدة في عصره، والتقليد المذهبي، بعيدا عن واقع الناس، فوت الكثير من المصالح، وتعارض مع مقصد الشارع في بناء الأسرة والمجتمع، بحيث كانت هناك فجوة تتسع بين بعض اجتهادات الفقهاء وقضايا المجتمع ومصالح العباد، إلى درجة يمكن أن نقول معها: إن اجتهاد الإمام ابن تيمية هو في الحقيقة اجتهاد مقاصدي، وإن استقراء المقاصد أو ( نظرية المقاصد ) عند شيخ الإسلام يحتاج إلى باحثين لإغناء الرؤية الاجتهادية بأصول فقهية مقاصدية على غاية من الأهمية.
ولئن كان الإمام الشاطبي رحمه الله استطاع، نتيجة لاستقراء تعاليم الشريعة في المجالات المتعددة، أن ينتهي إلى تحديد المقاصد بحماية الكليات الخمس والضرورات الخمس، التي هي: الدين والعقل والعرض والنفس والمال، فإن ذلك لا يعدو أن يكون اجتهادا.. ويبقى الباب مفتوحا لمزيد من الاجتهاد والاكتشاف لآفاق أخرى في المقاصد، في ضوء التطورات الاجتماعية وضمور أو غياب بعض المعاني، التي تقصد الشريعة إلى تحقيقها، حفظا لمصالح العباد، أو على الأقل محاولة إعادة قراءة هذه المقاصد في ضوء المصطلحات والمفهومات الجديدة، التي بدأت تشكل نقاط الارتكاز الحضاري والثقافي، على المستوى العالمي -وما جاءت الشريعة إلا لإلحاق الرحمة بالعالمين- كمسائل التنمية، والبيئة، والحرية، وحقوق الإنسان، والإنسانية، والعالمية... إلخ . [ ص: 36 ]
وهذا الكتاب .. يعتبر محاولة جادة لإعادة طرح موضوع الاجتهاد المقاصدي، واستدعائه إلى ساحة الاهتمام الفقهي والفكري، وفتح ملفه من جديد، وإن كان هذا الملف لم يغلق تماما، إلا أن الساحة الإسلامية بحاجة مستمرة إلى هذه الرؤية المقاصدية، أو الثقافة المقاصدية، التي تمنح العقل المسلم المعاصر أقدارا مهمة من ضرورة التقويم والنقد والمراجعة ودراسة الجدوى لطبيعة الأداء، كما تساهم إلى حد بعيد ببناء عقلية التخطيط وتحديد الأهداف والمقاصد في ضوء الإمكانات والاستطاعات المتوفرة والظروف المحيطة، ذلك أن بناء العقلية المقاصدية تخلص العمل الإسلامي من العشوائية والارتجال وعدم الإفادة من التجارب، والتعرف على مواطن الخلل، كما تحمي العاملين من الإحباط واليأس، الذي يجيئ ثمرة لاختلاط الأماني بالإمكانات، فيؤدي إلى مجازفات، كنا وما نزال ندفع تجاهها الأثمان الباهظة ولئن جاء الكتاب في الإطار الفقهي التشريعي، بحيث قد ينحصر خطابه في شريحة محدودة من المتخصصين تخصصا دقيقا، فإنه يساهم - فيما نرى - مساهمة واضحة في تشكيل الثقافة المقاصدية، بما ينضحه من رؤى فكرية وفقهية معا، قد لا تتوقف عند حدود الاستعراض التاريخي لمسيرة الاجتهاد المقاصدي، بحيث يمنح استشراف هذا التاريخ قدرا مهما من رؤية المستقبل واستشرافه، للامتداد بخلود هذا الدين، وبسط تعاليمه الإنسانية على المجتمعات البشرية. [ ص: 37 ]
وهنا لا بد من الاعتراف بأن الأزمة التي تعيشها الأمة المسلمة، هي في الحقيقة أزمة نخبة وقيادة، وليست أزمة أمة واستجابة، لأن الأمة المسلمة أثبتت في كل الظروف انتماءها للإسلام والتزامها بأحكامه، وأن الإصابات التي لحقت بالمسلمين في معظمها إصابات توضعت بالنخبة المثقفة فالعلمانية وعزل الحياة عن الدين، استطاعت أن تصيب النخبة وبعض أجهزة الدولة، التي خضعت في تربيتها وتعليمها وثقافتها ( للآخر) ، ولم تتحقق لها أقدار من الكسب المعرفي الإسلامي، ولم تصب الأمة .
لذلك فقدت الكثير من النخب العلمانية مشروعيتها وتأثيرها في الأمة، وأصبحت أشبه بجزر منعزلة وطوائف جديدة، تقرأ نفسها، وتفتن بفكرها، بعيدا عن معاناة الأمة ومعادلاتها الاجتماعية وتاريخها الحضاري.
ومن هنا فإن سبيل الخروج أو إعادة إخراج الأمة المسلمة:
( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) ( آل عمـران: 110 ) ، هو في إعادة بناء العقل المقاصدي للنخبة والقيادة، حتى تستطيع وضع الأوعية السليمة لحركة الأمة وكسبها، وحماية منجزاتها الحضارية، وإثارة الاقتداء لجمهور المسلمين، للقيام بمهمتها بالاستخلاف والعمران البشري.
والله المستعان . [ ص: 38 ]