المبحث السابع : وسائل المقاصد
مبحث وسائل المقاصد يحظى بنفس الأهمية التي حظي بها مبحث المقاصد ذاته، وذلك لتوقف تلك المقاصد على وسائلها الموضوعة لها، وجودا وعدما [1]
مظان الوسائل
يظن وجود مادة الوسائل ومحتواها في المباحث التالية:
1- المقاصد: مبحث المقاصد -كما هو معلوم- هو المبحث الذي تتصل به مباشرة وبداهة مسألة الوسائل، إذ أن المقصد ووسيلته يتلازمان ويترابطان من حيث الوجود والعدم .. ( موارد الأحكام على قسمين: مقاصد وهي متضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل وهي الطرق المفضية إليها ) [2] ( لأن موارد الأحكام قسمان: مقاصد أساسية، ووسائل مفضية إليها ) [3]
2- الأحكام: الأحكام الشرعية وضعت لمقاصدها وأغراضها، فهي طرق ووسائل لتحقيق تلك المقاصد.. فالسبب والشرط والمانع مثلا لم توضع لذاتها ولم تكن مقصودة في نفسها، وإنما وضعت [ ص: 63 ] لتحصيل غيرها وتحقيق ما تفضي إليه من مصالح ومنافع، ومثال ذلك: اشتراط النية وسيلة لصحة الوضوء والغسل، ورؤية الهلال وسيلة لثبوت الشهر ووجوب الصوم .. ومثاله أيضا: موانع الأحكام على نحو: الإغماء والجنون والإكراه والحيض والنفاس والمرض وغيره.. فإن تلك الموانع عدها الشرع وسائل شرعية معتبرة نيطت بها مقاصدها المتمثلة في دفع المشقة والحرج، وتحقيق التيسير والتخفيف عن المكلفين.
3- الذرائع فتحا وسدا: تعد الذرائع فتحا وسدا وسائل للمقاصد، إذ ينظر إلى الذريعة وإلى وجوب سدها أو فتحها بحسب ما ستئول إليه أو بحسب الأثر المترتب عليها.
4- الحيل والاستحسان وغيرهما: مما يتعين وسيلة لمقصده بحسب الاعتبار الشرعي وعدمه.
تعريف الوسائل
إنه كما سبق منذ حين موارد الأحكام قسمان:
- المقاصد - الوسائل
والمقاصد هي المصالح المجتلبة والمفاسد المبتعدة.
أما الوسائل فهي الأمور التي تسبق المقاصد وتوصل إليها، أو هي الطرق المفضية إليها بحسب وضع الشرع واجتهاد العقل، وذلك على نحو: اشتراط الطهارة وسيلة لصحة الصلاة، وتعظيم الخالق وعبادته [ ص: 64 ] وسيلة لمقصد تمكين الأخلاق في النفس الإنسانية، ومنع البيع في الجمعة وسيلة لمقصد حرمة الصلاة وحضورها ... وبأن النية المقرونة بالقول أو الفعل المتعلق بالحج وسيلة لانعقاد الحج
وتشمل الوسائل الأحكام الشرعية: التكليف، الأسباب، الشروط، الموانع، الرخص [4] ، والذرائع المختلفة، وصيغ العقود والمعاملات، والأسماء والألفاظ الدالة على معانيها ومسمياتها، وغير ذلك.
فالوسائل إذن هي كل ما أوصل إلى المقاصد، وهي مرتبطة بها من حيث الحصول وعدمه، وحكمها هو حكم ما أفضت إليه من منع أو إيجاب أو تحريم أو تحليل وكما يجب النظر في المقاصد والالتفات إليها، يجب كذلك النظر في طرائقها التي تفضي إليها. ويسقط اعتبار الوسائل ومراعاتها عند سقوط المقاصد وزوالها [5]
أنواع الوسائل
أ- الوسائل الثابتة
وهي الوسائل التي حددها الشارع طرقا مضبوطة إلى مقاصدها التي لا تتحقق إلا بها، بحيث لو انخرمت الوسائل أو تغيرت، لانخرمت معها المقاصد واختلت وتغيرت [6] ، وهذا النوع من الوسائل [ ص: 65 ] موجود بكثرة في خطاب الشارع وتعاليمه، وهو يشمل جملة الأحكام الوضعية، وكيفيات وتفاصيل العبادات، وأصول الفضائل والمعاملات، وقواعد ومسائل الاعتقاد، وغير ذلك من الأمور التي جعلها الشارع وسائل لتحصيل مقاصدها.
وعليه فإن من أمثلة هذا النوع: نجد اشتراط الطهارة، والنية، وستر العورة، واستقبال القبلة، وجملة الأقوال والأفعال التي تصح بها الصلاة.. ونجد كذلك اشتراط النصاب، وحولان الحول، وانتفاء الديون والحاجات الضرورية، والزيادة عن الحاجات الأصلية، وغير ذلك من مختلف الأمور، المجعولة وسائل وطرقا شرعية إلى تحقيق مقاصد الزكاة، المتعلقة جملة بتحقيق نماء المال وزيادته، وسد حاجة الفقير، وتعميق معاني الأخوة والتضامن والمحبة والمواساة، بين الغني والفقير، وبين مختلف أفراد المجتمع وفئاته.
كما نجد صيغة التراضي بين المتعاقدين سواء عن طريق التلفظ بالإيجاب والقبول أو عن طريق النية والقصد، وعن طريق ما يفهم منه أنه من قبيل صيغة التراضي، كما هو الحال في بيع المعاطاة عند المالكية وغيرهم، تلك الصيغة تعد وسيلة ثابتة إلى تحقيق مقصود البيع الذي يتصل بالانتفاع المتبادل بالثمن والمثمن، وتخليص المعاملة من الضرر والغبن والتغرير والتزييف وما أشبه ذلك.
ومن الأمثلة كذلك نجد الزواج المؤبد وعزم الزوجين على الاستمرار في الحياة الزوجية وعدم قطعها بموجب نكاح المتعة أو نكاح التحليل أو [ ص: 66 ] الغرر أو الإضرار وغيره ... فقد عد ذلك كله وسيلة ثابتة يقينية لتحقيق مقصود الزواج، المتصل بتلبية الرغبة الجنسية، وبناء الأسرة، وعمارة الأرض وغير ذلك، إذ إن العزم الابتدائي على توقيت الزواج وقطعه بعد مدة مناف لهذه المقاصد ومخل بها وهذا بخلاف الطلاق الذي يحصل بمقتضى ما يستجد أثناء الحياة الزوجية دون سبق إصرار وعزم على فعله، إذ يكون بسبب الضرر البين، أو التراضي المتبادل، فيحل عندئذ محل الزواج في تحقيق مصالح الزوجين ودفع الضرر والضيق والحرج عنهما، وبهذا يكون الطلاق وسيلة شرعية ثابتة إلى نفس تلك المقاصد.
ب - الوسائل المتغيرة
وهي الوسائل التي تتغير بتغير الحال والظرف، والتي تثبت صلاحيتها لمقاصدها عن طريق الاجتهاد، وهي تشمل سائر المجالات التشريعية الظنية والاحتمالية التي تعددت معانيها وصورها وكيفياتها، أو المجالات التي لم توجد نصوص وأحكام تجاهها.
وهي الطرق غير الثابتة والتي تتعين طرقا إلى مقاصدها بطريق الاجتهاد المضبوط حسب تغيرات الأوضاع، وطروء المستجدات، وطبيعة النصوص، وملكة الفقيه وأحواله.. ويكون دور المجتهد متمثلا في تحديد الوسائل إلى المقاصد، أو في تحديد أحسن الوسائل إذا تعددت وتداخلت وتعينت جميعها طرقا إلى مقصد واحد أو مقاصد كثيرة.
وهي تشمل عموما جملة الكيفيات والطرق التي تخدم الاعتقاد [ ص: 67 ] والعبادات والمعاملات، وسائر المسائل الاجتهادية الظنية التي تقبل التأويل والترجيح والنظر في جوانب الوسائل المفضية إلى مقاصدها [7]
وأمثلتها: النظر العقلي بمختلف صوره وأشكاله وسيلة لتعميق الإيمان في نفس الإنسان، ووسيلة لتمكين الأخلاق والفضائل.
- ترك البيع والشراء والكراء واللهو واللعب وسائر ما يشغل عن إدراك الجمعة... كل ذلك وسيلة إلى تحقيق مقاصد قداسة الجمعة واغتنام منافعها ( فكل أمر يشغل عن الجمعة من العقود كلها فهو حرام شرعا مفسوخ ردعا ) [8] - التعازير المختلفة التي يتخذها الحاكم بقصد الردع والزجر، هي وسائل اجتهادية إلى تحقيق ذلك المقصد، إذ يبحث الحاكم في تحديد أقوى الوسائل وأجداها في تحقيق المقصد وتثبيته.
-الإجراءات والتدابير التي يقيد بها الحاكم بعض المباحات بهدف تحقيق المصلحة، هي وسائل إلى إقرار تلك المصلحة.
وبذلك تكون الوسائل الاجتهادية موطنا رحبا لإعمال العقل والنظر، وبحث أنجع المسالك، وأقرب الطرائق، وأحسن الكيفيات إلى تحصيل المنافع والمصالح، ودرء المفاسد والمضار، وفق مقصود الشارع ومراده، إذ إن الوسائل قد شرعت لأن بها تحصيل أحكام أخرى، فينبغي حينئذ لزوم خدمتها للمقاصد وتدعيمها لها. [ ص: 68 ]