المبحث السادس: الاجتهاد المقاصدي عند عموم الفقهاء والأصوليين
مسيرة الاجتهاد المقاصدي، بعد العصور الأربعة المذكورة (عصر النبوة، الصحابة، التابعين، أئمة المـذاهب ) ، مسيرة طويلة جدا، ومدتها أكثر من ألف سنة، وأعلامها لا يحصون كثرة، وآثارهم كذلك، وهي متنوعة ومتفاوتة من حيث اتصالها بموضوع الحال، ومنها ما هو موجود ومنها ما هو مفقود، وتتبع مسيرة المقاصد لدى هؤلاء خلال هذه الفترة [ ص: 127 ] ليس بالأمر الهين، فهو مما لا بد فيه من تضافر الجهود الجماعية المنظمة والهادفة، بغية التعرف عليها وتجلية مظاهرها ونواحيها وصورها وسائر متعلقاتها، وبهدف استثمارها في خدمة موضوع المقاصد وتوظيفه في العمل الاجتهادي المعاصر.
وقد يكون من التهور والتسرع الإقدام على دراسة هذه المسيرة الطويلة في بعض الورقات والأسطر، لما سيوقع ذلك في التعسف والارتجال والضبابية، غير أن المقام قد يقتضي منا التعليق الموجز والبيان العام، حتى تكتمل الصورة حيال عرض تاريخ الاجتهاد المقاصدي منذ عصر النبوة إلى الآن، وعملا بالقاعدة المشهورة: ( ما لا يدرك كله لا يترك كله ) .
مظاهر الاجتهاد المقاصدي عند عموم الفقهاء والأصوليين
مظاهر ذلك كثيرة، وهي موزعة على مسالك اجتهادهم وعموم آثارهم، ويمكن أن نجملها بالاختصار الشديد فيما يلي:
- التصريح بالمقاصد الشرعية
يصرح علماء الفقه والأصول باعتماد المقاصد واعتبارها أمرا شرعيا يلتفت إليه ويعتمد عليه في الاستنباط والاجتهاد، قال ابن القيم: ( فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش [ ص: 128 ] والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل ) [1] .. ومن قبيل ذلك، تعبيراتهم بكلمات مقاصدية كثيرة على نحو مقصود الشرع، ومقاصد الشرع، والقصد، والغرض، والأغراض، ومحاسن الشريعة وأسرارها، والضروريات والحاجيات والتحسينيات، والمصالح والمفاسد، ونفي الضرر والمشقة، ودفع الأذى والعنت والشدة والتنطع، وجلب المنافع، والتيسير والتخفيف، والرحمة والسماحة، والرفق واللين، والتعليل والعلة والحكمة والباعث المؤثر، والمناسبة والملاءمة.. وغير ذلك كثير جدا، وهو مبسوط في كتب الأصول والفقه والقواعد والعقيدة وغيرها، وهو لا يقبل الحصر والجرد لكثرته الهائلة [2] ، وهو يدل [ ص: 129 ] صراحة على اعتمادهم الملحوظ على المقاصد والتعويل عليها في الاستنباط والاجتهاد.
الفروع الفقهية والأمثلة التطبيقية
وهي الجزئيات التي استحضر فيها العلماء المقاصد، واجتهدوا فيها بمقتضاها وبموجبها، ومن تلك الأمثلة ما كان امتدادا لعصر السلف، على نحو أمثلة الاستصناع، وأجرة الحمام، والطلاق الثلاث، وصلاة التراويح، وحد شارب الخمر، وغير ذلك من الأمثلة المذكورة سابقا، والتي تولى العلماء بيانها وتناقلها وزيادة شرحها والتعليق عليها وغير ذلك.
ومن الأمثلة ما كان ابتداء وتأسيسا دون سابق تنصيص أو إجماع، وهي جملة ما استجد من أوضاع ووقائع، وأدركه العلماء في عصورهم، واجتهدوا فيه على وفق اعتبار المقاصد ومراعاتها [3]
القواعد الشرعية
يعد الاشتغال بالقواعد الفقهية والأصولية وغيرها، من ضروب العمل المقاصدي، وذلك لأن من تلك القواعد ما هو من صميم المقاصد [ ص: 130 ] نفسها على نحو قاعدة المشقة تجلب التيسير، والضرر يزال، وجلب المصالح مقدم على درء المفاسد، والضرر الأخف يرتكب لدرء الضرر الأشد، وغير ذلك، ولأن فن التقعيد قصد به أساسا أمور مقاصدية كثيرة، على نحو خدمة الفقه وتيسير الرجوع إليه، وتحقيق مصالح الناس ومنافعهم في الامتثال والتكليف والتدين والتقاضي والتعامل [4]
مستثنيات القواعد
مستثنيات القواعد كالقواعد نفسها، من حيث مراعاة المقاصد والمصالح، إذ إن تطبيق القواعد على جميع الحالات دون مراعاة لما يستثنى منه، فيه تعطيل للمصلحة، وإيقاع في دائرة الضيق والعنت والمشقة، وليس أدل على ذلك من الاعتداد بالاستحسان، الذي هو عادة العدول الشرعي عن القياس والقواعد العامة والأدلة الكلية في مقابلة المصلحة الجزئية المستثناة [5] ، وكذلك خروج بعض الجزئيات التي لا تقدح في قواطع الكليات. [ ص: 131 ]
- مراعاة الخلاف وتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال
مراعاة الخلاف، والعمل بقاعدة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال، بسبب تغير العرف والمصلحة ومراعاة الضرورة [6] والعمل بالقرائن [7] وغير ذلك مما هو مبين في مظانه.
- الاعتداد بالمصادر التبعية
الاستصلاح، والاستحسان، والذرائع، ومنع الحيل، والقول بالعرف...
مشاهير المقاصد
عرف تاريخ الفقه أعلاما اشتهروا بالمقاصد، من حيث الإفراد بالتأليف وكثرة التدليل والاستشهاد والاستعمال، وغير ذلك، ومن هؤلاء العز بن عبد السلام، والقرافي، وابن تيمية، وابن القيم، والمقري المالكي، والشاطبي الذي عد بحق مبتكر علم المقاصد، ومؤسس عمارته الكبرى، ومرجع كل منشغل بهذا الفن الجليل [8] . [ ص: 132 ]