المبحث الثالث: تكوين الرأي العـام الجماهيـري
لقد تنبه أعداء الأمة إلى هذه الوسيلة النافعة، وإلى هذا النوع من العمل الإعلامي والدعوي في توجيه الرأي العام لدى شعوبهم وأممهم، لترسيخ ما يحبون ويبتغون، ولصد وتسفيه ما لا يبتغون ولا يريدن. واستطاعوا اختزال الأزمنة الممتدة فى أوقات قصيرة، وتوفير الجهود المضنية المتلاحقة في القليل المرضي، بآثار هذا المشروع الذي لا يزال كثير من أصحاب الأمر وأولي النظر في قضايا الأمة من دعاتنا ورعاتنا في غفلة عن نفعها، مع أن القرآن نبه إليه بأسلوب حكمته البالغة في إنزال الأحكام وتقرير الأخلاق وغرسها فاضلة، وفي توجيه الآراء راشدة ناصحة. [ ص: 139 ]
فلو تلونا كتاب الله الهادي المبين لوقفنا على نفع هذه الوسيلة (تكوين وتوجيه الرأي العام الجماهيري) من خلال ما اتخذها القرآن واستعملها تأكيدا لنفعها ومشروعيتها.
ويمكننا أن نستعرض بعضا من القضايا التي أراد القرآن أن يكون لها رأيا عاما لدى أمته، ومن ذلك مثلا:
أ- خلق الكذب
نجد القرآن الكريم يصور الكذب في أبشع صوره، يدق على القلب بقوة نافرة ينفر بذلك عن الاتصاف به وعن أصحابه حتى يكون هذا الخلق منبوذا منفورا منه.
فمثلا يكرر الويل للمكذبين في سورة صغيرة كالمرسلات عشر مرات، في كل مـرة يؤكد الويل السابق ويزيده رهبة، كأنه عـز وجـل يقسم ويتوعد الكاذبين، وما أقسى ذلك ومـا أرهـبه، لا سيما وأن الويل كرر نكرة مما يجعل الويل التالي مغايرا للسابق، دلالة على أن التوعد بعدد التكرار زيادة في التنفير.
والقرآن ينبه مجتمع الناس إلى شر الكذب، فيجعل الكاذب أظلم الناس، المفتري على الله، الذي لا تناله الهداية، [ ص: 140 ] فيقول تعالى: ( ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين ) (الصف:7) .
والقرآن يقبح عاقبة الاتصاف بالكذب، وأن الكاذبين مغضوب عليهم من رب العزة، يبرئ مجتمع المؤمنين منهم، يقول عز وجل : ( ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون ) (المجادلة:14) .
والقرآن كذلك يطارد الكذب وأهل الكذب، يصفهم بأرذل الصفات، ليكونوا منبوذين ولينظر إليهم باحتقار، وها هو ينفي الفلاح عنهم بعد أن جعلهم مفترين،
قال تعالى: ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ) (النحل:116) .
وقال تعالى: ( قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ) (يونس:69) .
ويؤكد القرآن هنا أنه لا يجتمع إيمان بالله وافتراء الكذب،
حيث يقول: ( إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ) (النحل:105) . [ ص: 141 ]
ويجرد القرآن الكاذبين من كل حسنى، ويحكم عليهم أنهم لا مكان لهم بين أهل الخير والصلاح ولا مقام لهم في جنات الله، وإنمـا مكانهم النار واستحقـاقهم لظى والسعير ولا جـرم، لأن ألسنتهم لا تصف إلا الكذب، إذ ساقهم ذلك إلى أن يجعلوا لله ما يكرهـون ولآلهـتهم من الشهوة أو أهل الجـاه أو السلاطين ما يحبون -ونعوذ بالله أن نكون من الكاذبين-
فيقول تعالى: ( ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ) (النحل:62) .
وهكذا يستمر القرآن في التنفير من خلق الكذب ليتعافى مجتمع المسلمين مـن الـكاذبين، فيـجردهـم هـنا عـن خـلـق كـريم هـو فضيلة الشكر
فيقول سبحانه: ( وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون ) (يونس:60) .
وهنا جعل الكاذبين جهالا لا عقل لهم، فيقول تعالى: ( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ) (المائدة:103) . [ ص: 142 ]
وهـنا يذمهم أشد الذم حين يضع الكذب إثما مبـينا يتـبيـنه كل ناظر بطرف باصر أو بصير،
فيقول تعالى: ( انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا ) (النساء:50) .
ولا يزال يستمر القرآن بهذا الطرح القوي، يجرد الكاذبين من كل خير وينفي عنهم كل صلاح، لينفر عن خلق الكذب الذميم كل أحد في مجتمع الإسلام، ليكون رأيا عاما فاضلا يقر الصدق وينفر من الكذب ويحتقر الكاذبين.
ب- تكوين الرأي العام الفاضل
واستعمل القرآن ذات الوسيلة في تكوين رأي عام فاضل يقلل في المجتمع الشرور، ويفشي الإحساس بالخير وتداول إحسان المعاملة وإحسان الظن بالمسلم، ويجتنب كثير من الظن الذي ينشر في المجتمع التحاسد ويولد العداوة والبغضاء.
للوصول إلى هذا المجتمع الفاضل اتخذ القرآن الأساليب الرشيدة في تكوين الرأي العام الفاضل، وأهم ما في ذلك الدق والطرق على سبيل التنفير من الأخلاق الرذيلة التي لا تشبه مجتمع المسلمين، والتكرار المرشد إلى الصواب والخير والفضيلة. [ ص: 143 ]
يريهم أن مجتمع المؤمنين أفراده لا يسارعون إلى تصديق الإشاعات في إخوانهم، ولا يتناقلونها بينهم أو يتخذونها مادة أنس بفري أعـراض النـاس، وإنما إذا سمعوا مقـالة سوء في مسلم أو مسلمة سارعوا إلى حسمها وإسكات الألسن الحداد الشحيحة على الخيـر، خاصة فيمن اشتـهر بالاستقـامة والسلامة، والأصل في المسلم السلامة لا الملامة،
يقول تعالى: ( ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ) (النور:16-17) .
يربي القرآن مجتمع الإسلام على إحسان الظن بأفـراده، وأن على المؤمنين والمؤمنات أن لا يظنوا بإخوانهم وأخواتهم إلا خيرا، وأن الماشين في الناس بالتشويه والإشانة والقذف والإفك عصبة آثـمة بـاغية لا يمكن أن يمثـلوا الغلبـة فيـهم ولا جمهورهم، بـل ولا كـثيـرا منهم، وإنما هم عصبة قليـلة يعدون على أصـابـع اليـد لا يبلغون أية نسبة فيهم، أما جماهير الناس وأغلب المسلمين فقد ظنوا خيرا وما صـدقوا الإفـك وما جاءوا ولا ساروا به، بل قالوا: هذا إفك مبين،
وصدق الله الذي قال: ( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من [ ص: 144 ] الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ) (النور:11-12) .
وليكون في مجتمع المؤمنين الرأي العام الفاضل، لا يقبل فيهم المحبين لإشاعة الرذيلة والفاحشة مقالا وحالا، فإن المطلوب الواجب المحتـوم تكوين الرأي العام الفاضل لا الرأي الفاحش:
( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) (النور:19) ،
مجيئا بالإفـك وسيرا به وإذاعة له، ومبالغة في الإعلام عن ممارسات الفجار للفاحشة [1]
وكوسيلة عملية لتربية الجماهير على إقامة الرأي العام الفاضل ينادي المؤمنين أن يردوا نبأ الفاسقين المعروفين بالفسق في [ ص: 145 ] أهل الاستقامة ومن لم يشتهر بالسوء، تبينا للحق، وقطعا لإشاعة الظن بالإثم، وتقليلا للأحوال الدنيئة، لتأنفها العقول الراسخات:
( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) (الحجرات:6) .
وكذلك السخرية ولمز الأنفس والتنابز بالألقاب وإساءة الظن والتجسس والغيبة وهتك الأعراض، وغير ذلك من أمراض المجتمعات وأخلاقها الرذيلات، فينخلع الناس عنها، لأن القرآن يأمر بخلافها وجوبا، وينهى عنها لزوما، ويرشد إلى أفضل منها تحبيبا، ويأمر باجتنابها حتما، ويذم فاعلها ويصفه بالشر والظلم، ويدعوه إلى التوبة والإحسان بعدما يناديه في كل آية بأشرف الألقاب وأحسن الصفات -صفة الإيمان- ليريه أنه لا يزال في المؤمنين فلا يليق به التردي إلى تلك الأحوال والصفات،
فيقول تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله [ ص: 146 ] إن الله تواب رحيم ) (الحجرات:11-12)
وهكذا..
المطلوب تكوين الرأي العام حوله
والمطلوب تكوين الرأي العام الإسلامي حول أهم ما يهم المسلمين ويسدد الخطى ويوحد الصف ويشد العزائم، ويقيم العدل ويمشي بالإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر.. وأرجو أن أنبه إلى جوانب مهمة تلح على الطائفة القائمة بالحق السعي لتكوين الرأي العام الإسلامي الفاضل فيها، وهي:
1- تربية الجماهير على الاهتمام بأمر المسلمين
لا يقبل أي داعية إلى أي فـكر أو مذهب أو منهـج أو ديـن أو أي شيء أن يتشـاغل اتباع فكره ومذهبه ودينه كل بنـفسه، فلا يهتمون بإخوانهم ومن يوافقهم في الفكر والدين والمذهب، ولا بـأحـوال من اتبعـهـم بإحسـان أو بـإسـاءة، ولا يلقون بالا لـمـا يحدث لهم من التعذيب والتنكيل والاضطهاد والاستضعاف والاستعبـاد طـالما سلـموا هـم ونجـوا.. لا يقبل أحد يقوم بدعوة ما هذا الوضع في أتباعه، فكيف بالمسلم الذي دعاه دينه وألزمه بذلك، يوجب عليه الاهتمام بأمر أخيه المسلم، وحرم عليه أن يخذله أو يسلمه أو يخزيه، بل يجب عليه وجوبا حتميا أن ينصره وينتصر [ ص: 147 ] له ويدافع عنه، بعد أن يؤاخيه في الإيمان والإسلام ويواليه في الله؟! يجب عليه أن ينفي عنه الاضطهاد، ويجب عليه أن يقويه إذا استضعف، وأن يصلح ذات البين إذا خاصم، وأن يغنيـه إذا افتقر، ويسـد خلـته إذا احتـاج، وينـصره إذا ظـلم أو ظلم، ويرد الكيد عنه إذا كيد به، ويأمره بالمعروف إذا قصر، وينهاه عن المنكر إذا عصى،
قال تعالى: ( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ) (الحجرات:10) ،
وقال: ( وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ) (الأنفال:72)
وقال تـعالى: ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) (الحجرات:9) ،
وقال سبحانه وتعالى : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) (المائدة:2) .
( وقال النبي صلى الله عليه وسلم : مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) [2] [ ص: 148 ] ( وقال صلى الله عليه وسلم : المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ) [3]
( وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هـنا -ويشيـر إلى صـدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام; دمه وماله وعرضه ) [4] [ ص: 149 ] وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) [5]
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل أو طلبت إليه حاجة قال: ( اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء ) [6] ( وقال عليه الصلاة والسلام : إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه ) [7] [ ص: 150 ] ( وعن أم سلمة رضي الله عنه قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو يتوضأ في بيتي للظهر، وكان قد بعث ساعيا وكثر عنده المهاجرون وقد أهمه شأنهم، إذ ضرب الباب فخرج إليه فصلى الظهر، ثم جلس يقسم ما جاء به، قالت: فلم يزل كذلك حتى العصر، ثم دخل منزلي فصلى ركعتين ثم قال: شغلني أمر الساعي أن أصليهما بعد الظهر فصليتهما بعد العصر ) [8]
فها هو صلى الله عليه وسلم يترك السنن الرواتب انشغالا بأمر المسلمين واهتماما به، بعد أن وجدناه يرشد أمته ويأمرهم بالاهتمام بأمر إخوانهم المسلمين، بل إنه صلى الله عليه وسلم يصرح أن من أراد أن يصنف في المسلمين ويبقى فيهم مسلما عليه أن يهتم بأمرهم، وإلا فهو ليس منهم، ( فقال صلى الله عليه وسلم : من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يصبح ويمسي ناصحا لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم ) [9] إذن لا بد من تربية جماهير الأمة على الاهتمام بأمر إخوانهم [ ص: 151 ] المسلمين أينما كانوا، في الشرق أو في الغرب أو في الشمال أو في الجنوب، لأنهم إذا انشغلوا بإخوانهم واهتموا بأمرهم ما قطع الأعداء الأمة وما حزبوهم تحزيبا وتشييعا، ولتناصرت الأمة واستنصرت ببعضها، فأبقوا بذلك كيانهم موحدا، وجانبهم مهابا، ودعوتهم ماضية، وحقهم قائما، وشهادتهم على الأمم حاضرة.
2- التركيز على ما يجمع ويضم الشمل
وجماهير الأمة يجب أن يركز لهم على ما يجمع شملهم ويوجد وحدتهم -تحصيلا وإبقاء- ليحمل الجميع هم العودة إلى ترصيص الصف وتوحيد الكلمة، ونفي التنازع والاختلاف بالاعتصام بحبل الله المتين وكتابه المبين وسنة نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم ، ليعلموا أن ما يجمع ويضم أكثر وأوسع مما يفرق ويشتت; الكتاب والسنة والعقيدة... فالأخوة الإسلامية فوق كل العصبيات أيا كان اسمها ونوعها [10] .. ويجب أن يتبرأ الجميع من كل العصبيات، وإلا فمن اتبع عصبية أو دعا إليها فقد خلع عن [ ص: 152 ] عنقه شارة الانتماء، وعن جسده وقلبه لباس الولاء للملة والأمة، ( يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية ) [11]
والقرآن من قبله يأمر بالتوحد وينهى عن التفرق،
ويذكر بنعمة التأليف والأخوة، فيقول سبحانه وتعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ) (آل عمران:103) ..
ثم يوصينا بوصية الأنبياء من قبل أن نقيم الدين بالتوحد به وعدم التفرق فيه،
فيقول سبحانه وتعالى : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) (الشورى:13) ..
ثم يحذرنا أن نكون كمن فرقوا دينهم وتشيعوا وتفرقوا وعندهم الكتاب الذي يمكنهم أن يستعصموا به وبهـداه وبينـاته،
فقـال تعـالى: ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ) (آل عمران:105) ..
ثم من بعد التحذير برأ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكون [ ص: 153 ] مـن الذيـن تفرقـوا واختـلفوا وصـاروا شيـعا وأحزابا، كـل حزب بما لديهم فرحون،
فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ) (الأنعام:159) .
فلا بد أن تتربى جماهير الأمة على الولاء وصدق الانتماء وترسيخ مفاهيم الأمة الربانية الواحدة، علما وعملا وحكما وممارسة وتطبيقا، وإلا فلينتظر فشل المسير وذهاب الريح والدولة،
ولهذا قال رب العزة: ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ) (الأنفال:46) .
ولعل السبيل إلى ذلك تأكيد قواعد مهمة في الفقه والدعوة، أهمها:
أ- يستحب ترك المستحب تأليفا للقلوب: فالمستحب ينقلب غير مستحب، وغير المستحب يصير مستحبا إن كان فيه جمع الكلمة وتوحيد الصف وضم الشمل [12] [ ص: 154 ]
ب- يستحب الخروج من الخلاف ومراعاته [13] : فينظر في الآراء المختلفة أقربها إلى استيعاب المذاهب والأقوال وما يتيح للجميع العمل به فيؤخذ به، ويتنازل عن الرأي الذي ترجح أولا إذا كان ذلك سيؤدي إلى الاختلاف والتنازع.
فمثلا مسح الرأس فيه قول باستيعاب جميع الرأس بالمسح، وأقوال بمسح بعض الرأس، فيكون الخروج من الخلاف ومراعاته بمسح الرأس جميعا، لأنه يستوعب الأقوال كلها ويتيح للجميع العمل به.
وإن كان لدى بعض العلماء والمذاهب يصح الاقتداء بالمتنفل ولا يصح عند بعضهم; فالخروج من الخلاف يكون بترك الاقتداء بالمتنفل، لأن ترك الجائز فيه متسع ولا حرج.
جـ- الاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله: لأنه لو جاز أن ينقض الاجتهاد الأول بالاجتهاد الثاني لجاز أن ينقض الاجتهاد الثاني باجتهاد ثـالـث، ولأنه ما من اجتهاد إلا ويجـوز أن [ ص: 155 ] يتـغـير، ولو جاز بنقض اجتهاد مثله لأدى ذلك إلى عدم استقرار الأحكام [14]
وهذا يجب أن ينشر ويذاع بين جماهير الأمة، حتى لا يظن مجتهد أن اجتهاده أولى من اجتهاد غيره، فيتعصب لرأيه، ويظـن بـرأي غيره البطـلان ابتـداء، ولئلا يعتقد مقلد أن رأي شيخه هو الصواب ورأي غيره ضلال يجب أن يبعد، ويردد مقولة المتعصبة من أتباع المذاهب: (القول ما قال أشياخنا، ومـن خـالف أشـياخنـا فـقد ضـل) .. فالاجتهاد لا ينقضه اجتهاد مثله، وإنما ينقض الاجتهاد إذا تبين الخطأ، ولا عبرة إلا بالخطأ البين.
د- لا ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المجمع عليه [15] : فإن من فقه ذلك لم يؤد خلافه إلى اختلاف تنازع وتضاد وتبري، وإنمـا إلى اختلاف تنـوع وتوسـل وتوسـع، فالمختـلف فيـه مما يقبل الاجتهاد [ ص: 156 ] ويسع وجهات النظر ويحتمل الأقاويل والآراء، لو أنكر على أصحابه فيه لا تسع الخرق، وبعد الشقـاق، واشتد الخصام، وما سلم صاحب علم من الإنكار والمؤاخذة، بل ما سلم أحد منهم من التضليل والتفسيق والتجهيل وربما التكفير.
مع أن الصحابة رضوان الله عليهم اجتهدوا واختلفوا وأقر بعضهم بعضا على قوله، وسوغ له أن يعمل به وإن كان مخالفا لقوله ومؤدى اجتهاده، وسوغوا للعامة أن يقلدوا من شاءوا منهم، حتى قال القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه : كان اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مما نفع الله به، فما عملت مـنـه من عمل لم يدخـل نفسك مـنـه شـيء [16]
.. وقـال عمر ابن عبد العزيز : ما سرني لو أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم يكن رخصة [17] بل كان سفيان الثوري رحمـه الله تعـالى يقول عن نفسه: ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحدا من إخواني أن يأخذ به [18] .. [ ص: 157 ]
ويقول لغيره: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه [19]
ولأن معرفة المواضع التي اختلف العلماء فيها عن اجتهاد ونظر هو الطريق الموصل إلى الوقوف على مسائل الخلاف، ومن ثم عدم الإنكار فيها ليتحقق الاتحاد والترابط الإيماني ووحدة الصف مهما كثرت مسائل الخلاف; لأن معرفة مواضع الخلاف ومسائله ضرورية لهذا المقصد الضروري; نص كثير من شيوخ العلم وأئمة الفقه على اشتراط معرفة الخلاف والوقوف على مسائله لمن طلب الفقه وجلس للفـتيـا وسعى للاجتهاد وتطـلع إلى التـأهل إليـه، بل جعلوا العلم والفقه في معرفة الخلاف..
- قال قتادة : من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه.
- وقال عطاء : لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس، فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ماهو أوثق من الذي في يديه.
- وقال هشام بن عبد الله الرازي :من لم يعرف اختلاف الفقهاء ليس بفقيه. [ ص: 158 ]
- وقـال مالك بن أنس : (لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه) .
- وقـال يحـيى بـن سـلام : لا ينـبغي لمن لا يعـرف الاختلاف أن يفـتي، ولا يجـوز لـمن لا يعـلم الأقاويـل أن يقول هذا أحب إلي.
- وقال سعيد بن أبي عـروبـة : من لم يسمع الاختـلاف فلا تعده عالما.
- وقال قبيصة بن عقبة : لا يفلح من لا يعرف اختلاف الناس [20]
3- استغلال الأحداث لتوجيه الرأي العام
والدعاة يجب أن يكونوا على قدر الأحداث حين تقع للناس، فيجعلونها خيرا إن كانت شرا، ويوجهوا الناس باستغلالها إلى تكوين الرأي العام الفاضل الذي يصلح الأمة ولا يفسد، ويرسخ الفضائل وينفي الخبائث والرذائل. [ ص: 159 ]
ولقـد هدانـا القرآن إلى استغلال الأحداث، وإن كانت شرا في ظاهرها، لتوجيه الرأي العام وتكوينه، حين جعل من حادثة الإفـك خيـرا لا شـرا، ليبني عليها مجتمع الحق والفضيلة، وأحكام الإشاعات والعبر والعظات،
واسمع إلى قوله تعالى بتدبر: ( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم ) (النور:11) ،
ليفصل من بعد ذلك تصور مجتمع المؤمنين والمؤمنات من إحسان الظن بأنفسهم والمنتمين إليهم، والالتزام بالشهادات والبينات دون التصديق ابتداء، والتحرز والاحتياط من تلقي الإشاعات والأخبار بالألسنة لهتك الأعراض، كل ذلك في سياق وعظي يرغب ويرهب.. فهلا اهتدينا إلى هدي القرآن، والقرآن يهدي للتي هي أقوم؟؟
4- توحيد الخطاب في القضايا الكبرى
إن قضايا الأمة الكبرى لا بد للرؤى أن تتوحد فيها، وللآراء أن تتحد حولها، ولا بد للأحكام أن تتفق عليها، ويجب أن ننزهها عـن الاختلاف، ونبتـعد بها عن التـنازع والتصارع فيما بيننا، وإلا فعلى أي شيء سنتفق؟ وحول أي قضية سنتوحد؟ [ ص: 160 ] لا بد من تربية الجماهير على التوحد والاتفاق فيما يهم الأمة كلها أو جلها، والتوالي على ثوابتها، وإلا فلو أننا لا نزال نختلف في كل شيء فلن نزال نضعف ونتراجع ونتقهقر حتى لا يبقى لنا أمر نلتف حوله، أو وشيجة نرتبط بها، أو حتى بقعة أرض نتعبد بها ربها وربنا.
وما أعظم ما كان يردده بعض شيوخنا من مقالة الحريص على أمته، يطرق بها الآذان ويلقي بها على من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، يعيها من حمل معه الهم، وألقاها على هامش الهم من تصمم، طالما كان يقول:
(ما زلـنا نتـجادل في مسح خف وغسل قدم، حتى أصبحنا لا نملك في الأرض موطأ قدم) .
فلا بد -إذن- من تربية الجماهير على التوحد والاتفاق ونفي التنازع والاختلاف حول قضايا الأمة.
وأعبد الطرق وأقواها إلى ذلك: توحيد الخطاب في قضايانا الكبرى، توحيده في محاوره [ ص: 161 ] وأوقاته وفي عرضه وأدائه.
ومن تلا القرآن بتدبر يقف على وحدة الخطاب الدعوي في قضايا الخلق الكبرى، وفي قضايا الأمة الكلية التي لا ينفك عن تعلقها أحد من أفرادها.
فالأنبياء -عليهم السلام- أجمعون جاءوا إلى أقوامهم بخطاب واحد، يقول كل منهم لأمته وقومه: ( اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) ..
نوح عليه السلام ، يقول الله سبحانه وتعالى عن خطابه لقومه: ( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) (المؤمنون:23) .
وهـود عليه السلام ، يخبـرنا تعالى عن دعـوته لقومه في قوله: ( وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) (الأعراف:65) .
وصالح عليه السلام كذلك جاء إلى قومه بذات الخطاب، كما قال تعالى: ( وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) (هود:61) .. [ ص: 162 ]
وكذلك شعيب عليه السلام ألقى على قومه ذات الخطاب الدعوي،
كما قال عز وجل : ( وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) (هود:84) ..
فنلاحظ أن خطاب الأنبياء لأقوامهم وأممهم واحد، في مضمونه وفي صيغته، مع اختلاف الشرائع والتفاصيل، ومع اختلاف ما عالجوه من علل وما سلكوه من منهاج، فهذا هديهم المقتدى ونهجهم المرتضى.
فإن ابتغينا الهدى فلنتبع سبيل النبيين نهتدي بهداهم: ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) (الأنعام:90) .
نوحد خطابنا لجماهير الأمة في قضاياها الكبرى، سعيا وراء تكوين رأي عام موحد تجاه قضايانا.
وإننا كثيرا ما نصلى سعير المفارقات في المواقف والرؤى وتقدير حجم المصائب والنوائب، والأمم من حولنا تسطو علينا تعيد وتكر التغالب والتواثب، تتخطف بلادنا وحرمنا، وتقتل أبناءنا، وتخرج أهلينا من ديارنا، وتعتدي على حرائرنا، فتذهب أنفس بالحسرات تسعى للنصرة في الدين، وتغشى قلوبا الغفلة [ ص: 163 ] فلا يبالون ولا يهتمون، ولربما سر بعضهم لبعد الغزو عنه والتقتيل، وإن حصد أبناء المسلمين وشرد الرجال والنساء والولدان ممـن نطق بشهـادة الحق وآمن بالله، يقول مقالة المنافق الخائن:
( قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ) (النساء:72) .
لهذا فإن توحيد الخطاب في القضايا الكبرى مطلب ضروري، لتتوحد الآراء وتتحد المواقف، وتلتقي أمة المؤمنين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
وإن من مقترح عملي: فما المانع أن يلتقي مشاهير خطبائنا وعلمائنا ودعاتنا ومفكرينا في فترات متقاربة، للوقوف على قضايا الأمة ووقائعها وما يحيط بها ويحاك لها، فيتفق على محاور محددة، ومضامين موحدة، وصيغ معبرة، في أزمنة معلومة.
حينئذ يعيش الكل هم الجميع، يتوثبون للنصرة في الدين، ويتوثقـون عـروة الـولاء، فيمضون على ثبات وقوة إلى مراد الله رب العالمين. [ ص: 164 ]