المبحث الأول: في التجربة التاريخية
إن مشكلة المصطلح الدخيل أو المنقول ليست من المشكلات الحديثة في الأمة بل كان ميلادها مع ميلاد هـذه الأمة، ونشأتها مع نشأتها، لتتقلب بعد ذلك في أقدار وأطوار تاريخية من حيث القوة والضعف في دمـج هـذا الدخـيل واستـيـعـابه والهيمنة عليه.
ففي تراثنا نجد أن مناقشة المصطلحات الدخيلة أو (لغات العجم) -كما يعبر اللغويون- قد تمت على أعلى مستوى؛ وهو وقوعها في القرآن الكريم، وللعلماء في ذلك تخريجات عديدة، يقولابن فارس : أما لغات العجم في القرآن، فإن الناس اختلفوا فيها: فروي عن ابن عباس وعن مجاهد وابن جبير وعكرمة وعطاء وغيرهم من أهل العلم، أنهم قالوا في أحرف كثيرة: إنها بلغات العجم. منها: طه، واليم، والطور، والربانيون. فيقال: إنها بالسريانية. ومنها قوله عز وجل ( كمشكاة ) و ( كفلين من رحمته ) ، يقال إنها بالحبشية. وقوله: ( هيت لك ) ، يقال إنها بالحورانية. فهذا قول أهل العلم من الفقهاء. وزعم أهل العربية أن القرآن ليس فيه من كلام العجم شيء، وأنه كله بلسان عربي، [ ص: 75 ] يتأولون قوله جل ثناؤه: ( إنا جعلناه قرآنا عربيا ) (الزخرف:3) ، وقوله: ( بلسان عربي مبين ) (الشعراء:195) .
قال أبو عبيد : والصواب من ذلك عندي -والله أعلم- مذهب فيه تصديق القولين جميعا؛ وذلك أن هـذه الحروف أصولها عجمية -كما قال الفقهاء- إلا أنه سقطت إلى العرب فأعربتها بألسنتها، وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية ثم نزل القرآن، وقد اختلطت هـذه الحروف بكلام العرب. فمن قال إنها: عربية، فهو صادق، ومن قال: عجمية، فهو صادق. [1] وذكر السيوطي عن الإمام فخر الديـن الـرازي وأتباعه أن: (ما وقع في القرآن من نحو: المشكاة، والقسطاس، والإستبرق، والسجيل. لا نسلم أنها غير عربية، بل غايته أن وضع العرب فيها وافق لغة أخرى كالصابون والتنور، فإن اللغات فيها متفقة.) [2] وعند الإمام الشافعي أن: (القرآن يدل على أن ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب.) [3] [ ص: 76 ]
فآخر النص الأول -كلام أبي عبيد - يطرح حلا توفيقيا حسنا لحسم الخلاف، ما دام تأثير هـذه الألفاظ منعدما، وأنه قد تم استيعابها ودمجها في اللغة العربية، تؤدي وظيفتها فيها بإحكام وإتقان كما في النص القرآني؛ سواء كانت الألفاظ عربية وافقت لغة أخرى، أو أجنبية تعربت.
كان هـذا محفزا للعلماء للاعتناء بالمصطلحات المعربة أو الدخيلة، المنقولة عن العجم، وعلى وضع مقاييس وضوابط للنقل والتعريب، ومستويات في التعامل. فالسيوطي يذكر في الفرق بين الألفاظ المتفقة بين اللغة العربية ولغة العجم وبين المعرب: (أن المعرب له اسم في لغة العرب غير اللفظ الأعجمي الذي استعملوه بخلاف هـذا.) [4] وذكر عن الجواليقي في المعرب، أنها: (عجمية باعتبار الأصل، عربية باعتبار الحال، ويطلق على المعرب : دخيل .) [5] ، وعن أبي حيان في: (الارتشاف) ، تمييزه في الأسماء الأعجمية بين ثلاثة أقسام: (قسم غيرته العرب وألحقته بكلامها، فحكم أبنيته في اعتبار الأصلي والزائد والوزن حكم أسماء [ ص: 77 ] الأبنية العربية الوضع. وقسم غيرته ولم تلحقـه بأبنـيـة كـلامها، لم يعد منها. وما ألحقوه بها عد منها.) [6] ومثل بعضهم للقسم الأول بـ: (درهم) ، الذي ألحقوه بـ: (هجرع) ، والدرهم أصله: (درم) ، فغير بزيادة الهاء إلحاقا له بصيغة (فعلل) ، وللقسم الثاني بـ: (آجر) ، وللثالث -الذي لم يغيروه ولم يلحقوه بأبنية كلامهم- بـ: (خراسان) ، فإنه لا يثبت به الوزن: (فعالان) . والـذي لم يغـيروه -وألـحقـوه بأبـنـية كلامهم- بـ: (خرم) ، ألـحقوه بـ: (سلم) ، و (كركم) ألحق بـ: (قمقم) . [7] . وهذه في الواقع مستويات من الدمج الكلي التام، ومن الدمج الجزئي غير التام، ولكل مستوى حكمه في التعامل.
وفرع ذلك السيوطي أكثر عندما عرض لسبعة وجوه تعرف بها عجمة الاسم [8] عندما نقل قول الثعالبي في (فقه اللغة) عن: [ ص: 78 ] (أسماء تفرد بها الفرس دون العرب فاضطرت العرب إلى تعريبها أو تركها كما هـي) ، وذكر في ذلك أسماء من الأواني والملابس والجواهر وغيرها [9] . ولا شك في أن انتشار الإسلام بسبب الفتوحات، واحتكاك العرب بالأعاجم عن طريق التجارة أو الترحال، ودخول غير العرب إلى الإسلام، وانتشار الترجمة فيما بعد، كلها عوامل ساعدت على دخول الألفاظ الأعجمية إلى العربية، وطرحت منذ وقت مبكر إشكالية التعامل مع المصطلح الوافد.
لم يبق الاهتمام بـ (اللسان الأعجمي) مبحثا لغويا، يعتني به اللغويون فقط، بل تعدى ذلك إلى سائر العلوم باعتبار تأثير ألفاظه فيها بشكل أو بآخر. وعلى العموم فإن الحرص على تقويم اللسان العربي وصيانته من أن يخترقه لحن العجمة كان هـاجس علماء الأمة عبر العصور. وأمامنا نص لابن تيمية يخرج فيه كلاما للإمام أحمد في تعلم لغة الأعاجم على ضربين، يمكن أن نقف من خلاله على صورة واضحة عن حضور هـذا الهاجس عند الفقهاء، كما هـو عند اللغويين، إمام في القرن الثالث الهجري، وإمام في القرن [ ص: 79 ] السابع والثامن الهجريين، وإن كان شيخ الإسلام ابن تيمية قد زاده توالي قرون الضعف والتحدي للأمة قدرة على النظر إلى المسألة من منظور ما تم التعبير عنه بـ: (الأفق الكلي) للإشكال أو للصراع، نظر يعتبر اللسان العربي (شعار الإسلام وأهله) ، بل يعتبر (اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب. فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .) [10] ومن هـاهنا تتوضح الصور الجزئية للمسألة كما يتم عرضها في مباحث اللغة والفقه والأصول والتفسير... باعتبارها روافد لهذا المنبع الكبير.
يقول عن الضرب الأول أو الوجه الأول في تعلم لغة الأعاجم: (إذا لم يعرف معنى الاسم جاز أن يكون محرما فلا ينطق المسلم بما لا يعرف معناه. ولهذا كرهت الرقى العجمية كالعبرانية والسريانية أو غيرها؛ خوفا من أن يكون فيها معان لا تجوز...) ، قال: (وإن جهل معناه فأحمد كرهه) . وهذا مستوى منهجي مهم في التعامل مع المصطلحات الدخيلة أو المنقولة، والتمكن منها [ ص: 80 ] بمعرفة معانيها ودلالاتها ومعرفة (مجالها التداولي) تنبه له علماء الأمة منذ وقت مبكر. وما يزال من الشروط الأولى المقررة -نظريا على الأقل- حتى في فكرنا المعاصر، كما سيتضح لنا بعد حين.
والضرب أو الوجه الثاني: (كراهة أن يتعود الرجل النطق بغير العربية، فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون، ولهذا كان كثير من الفقهاء أو أكثرهم يكرهون في الأدعية التي في الصلاة والذكر: أن يدعى الله بغير العربية. وقد اختلف الفقهاء في أذكار الصلاة، هـل تقال بغير العربية؟ وهي ثلاث درجات: أعلاه القرآن، ثم الذكر الواجب غير القرآن... ثم الذكر غير الواجب من دعاء أو تسبيح أو تكبير وغير ذلك. فأما القرآن، فلا يقرؤه بغير العربية؛ سواء قدر عليها أو لم يقدر عند الجمهور، وهو الصواب الذي لا ريب فيه، بل قد قال غير واحد: إنه يمتنع أن يترجم سورة، أو ما يقوم به الإعجاز. واختلف أبو حنيفة وأصحابه في غير القادر على العربية.
وأما الأذكار الواجبة: فاختلف في منع ترجمة القرآن؛ هـل تترجم للعاجز عن العربية وعن تعلمها وفيه لأصحاب أحمد وجهان، أشبهها بكلام أحمد أنه لا يترجم، وهو قول مالك [ ص: 81 ] وإسحق . الثاني: يترجم وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي . وأما سائر الأذكار، فالمنصوص من الوجهين: أن لا يترجمها، ومتى فعل بطلت صلاته، وهو قول مالك وإسحق وبعض أصحاب الشافـعـي. والمنصوص عـن الـشافـعـي أنه يـكره ذلك بغـير الـعـربـيـة ولا يبطل. ومن أصحابنا من قال: له ذلك؛ إذا لم يحسن العربية...) [11] وقد (كره الشافعي لمن يعرف العربية أن يسمي بغيرها، وأن يتكلم بها خالطا لها بالعجمية. وهذا الذي ذكره، وقاله الأئمة، مأثور عن الصحابة والتابعين.) [12] " فقد نهى عمر عن رطانة الأعاجم، وقال: إنها خبث. " [13] ( وعن ابن عمر رضي الله عنهما قـال: قـال رسـول اللـه صلى الله عليه وسلم : " من يحسن أن يتـكلم بالـعربـية فـلا يتكلم بالعجمية، فإنه يورث النفاق. ) [14] [ ص: 82 ]
وفي الجملة فالكلمة بعد الكلمة من العجمية أمرها قريب، وأكثر ما كانوا يفعلون ذلك إما لكون المخاطب أعجميا، أو قد اعتاد العجمية، يريدون تقريب الأفهام عليه، كما ( قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص -وكانت صغيرة وقد ولدت بأرض الحبش لما هـاجر أبوها- فكساها النبي صلى الله عليه وسلم قميصا، وقال: يا أم خالد هـذا سنا. ) والسنا بالحبشية: الحسن [15] . " وروي عن أبي هـريرة رضي الله عنه أنه قال لمن أوجعه بطنه: اشكم بدرد... "
(وأما اعتياد الخطاب بغير العربية التي هـي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله، ولأهل الدار، وللرجل مع صاحبه، ولأهل السـوق، أو لأهل الديـوان، أو لأهل الفقه، فلا ريب أن هـذا مكروه، فإنه من التشبه بالأعاجم وهو مكروه. ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر ولغة أهلها رومية، وأرض العراق وخراسان ولغة أهلها فارسية، وأرض المغرب ولغة أهلها البربرية، عودوا أهل هـذه البلاد العربية حتى [ ص: 83 ] غلبت على هـذه الأمصار؛ مسلمهم وكافرهم...) واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرا قويا بينا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هـذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق.) [16]