المبحث الثاني: بين المستويات اللغوية والاصطلاحية
وعلى العموم فقد (كانت العرب في جاهليتها على إرث من إرث آبائهم في لغاتهم وآدابهم ونسائكهم وقرابينهم، فلما جاء الله جل ثناؤه بالإسلام حالت أحوال، ونسخت ديانات، وأبطلت أمور، ونقلت من اللغة ألفاظ عن مواضع إلى مواضع أخر بزيادات زيدت وشرائع شرعت وشرائط شرطت، فعفى الأول الآخر.) [1] فكان مما جاء في الإسلام ذكر المؤمن والمسلم والكافر والمنافق، وأن العرب إنما عرفت المؤمن من الأمان والإيمان وهو التصديق، ثم زادت الشريعة شرائط وأوصافا بها سمي المؤمن بالإطلاق مؤمنا. وكذلك الإسلام والمسلم، إنما عرفت منه إسـلام الشيء، ثم جـاء [ ص: 47 ] في الشرع من أوصافه ما جاء، وكذلك كانت لا تعرف مـن الـكـفر إلا الغطاء والستر. فأما المنافق فاسم جاء به الإسلام لقوم أبطنوا عليه غير ما أظهروه، وكان الأصل من نافقاء اليربوع. ولم يعرفوا من الفسق إلا قولهم (فسقت الرطبة) إذا خرجت من قشرها، وجاء الشرع بأن الفسق : الإفحاش في الخروج عن طاعة الله جل ثناؤه... (وكذا الأمر في: الصلاة والصيام والحج والزكاة والعمرة والجهاد وسائر أبواب الفقه) [2] ، فالوجه في هـذا إذا سئل الإنسان أن يقول: في الصلاة اسمان؛ لغوي وشرعي. ويذكر ما كانت العرب تعرفه، ثم ما جاء الإسلام به. [3] الإشارة الأخيرة لابن فارس رحمه الله في ضرورة التمييز بين (الاسم اللغوي) و (الاسم الشرعي) غاية في الأهمية، وعلى ذلك درج البحث العلمي، كما هـو معروف. إلا أنه -كما سيأتي لاحقا- نجد الخلط والاضطراب؛ بسبب من العوامل الداخلية أو الخارجية كثير جدا بين المعاني الشرعية التي هـي من وضع الشارع، والمعاني العرفية الاصطلاحية المتأخرة عنه، والتي هـي من [ ص: 48 ] وضع المتخصصين في سائر العلوم، والمعاني اللغوية الأصلية التي وضعت بإزاء ألفاظها ابتداء.
ويقتضي هـذا الأمر التوقف هـنا قليلا لتبيان هـذه المعاني وحقائقها؛ فالوضع يطلق على أمرين: أحدهما جعل اللفظ دليلا على المعنى. الثاني: غلبة استعمال اللفظ على المعنى حتى يصير هـو المتبادر إلى الذهن حال التخاطب به، وذلك في العرف الشرعي والعرف العام والخاص:
- أما العرف الشرعي [4] : فكإطلاقهم الصلاة على الحركات المخصوصة، والصوم على الإمساك المخصوص، والزكاة على إخراج مخصوص، فإن الشرع لم يضع اللفظ لهذه المعاني، وإنما استعمله فيها من غير وضع، وتكرر الاستعمال فيها حتى صارت هـي المتبادرة إلى الذهن حال التخاطب.
- أما العرف العام: فكإطلاقهم الدابة على ذوات الأربع، أو على دابة مخصوصة عند قوم كالفرس والحمار، ومفهوم الدابة في اللغة لكل ذات دبت؛ سواء ذوات أربع أو غيرها. [ ص: 49 ]
- أما العرف الخاص: فكاصطلاح كل ذي علم على ألفاظ خصوصا بمعان مخالفة للمفهوم اللغوي، كاصطلاح المتكلم في الجوهر والعرض، واصطلاح الفقيه في الجمع والفرق... واصطلاح النحوي في الرفع والنصب. [5] ويطلق على العرف الخاص أيضا ( الاصطلاح ) بمعنى الاتفاق؛ اتفاق طائفة من أهل العلم على أمر مخصوص بينهم.
وفي (مباحث الحقيقة والمجاز) نجدهم يعرفون الحقيقة بأنها: (اللفظ المستعمل فيما وضع له) ، والمجاز بأنه: (اللفظ المستعمل في غير ما وضع له.) [6] وأن الحقيقة تطلق (ويراد بها ذات الشـيء ومـاهيته) ، (وتطـلق ويراد بـها المستعـمل في أصـل ما وضعت له في اللغة) . [7] ولهذا قسموا الحقيقة إلى لغوية وعرفية وشرعية؛ لأن الوضع المعتبر فيه إما وضع اللغة وهي اللغوية؛ كالأسد للحيوان المفترس أولا. وإما وضع الشارع وهي [ ص: 50 ] الشرعية؛ كالصلاة للأركان وقد كانت للدعاء أولا. [وإما وضع العرف] وهي العرفية المنقولة عن موضعها الأصلي إلى غيره بعرف الاستعمال. [8] وينبه الزركشي إلى أن: (اللغوية أصل الكل، فالعرف نقلها عن اللغة إلى العرف، والشرع نقلها عن اللغة والعرف.) [9] و (أن الوضع في اللغوية غير الوضع في الشرعية والعرفية، فإن اللغة تعليق اللفظ بإزاء معنى لم يعرف به غير ذلك الوضع. وأما في الشرعية والعرفية فبمعنى غلبة الاستعمال دون المعنى السابق، فإنه لم ينقل عن الشارع أنه وضع لفظ الصلاة والصوم بإزاء معانيها الشرعية، بل غلب استعمال الشارع لهذه الألفاظ بإزاء تلك المعاني حتى صارت الحقيقة اللغوية مهجورة، وكذلك العرف.) [10] (وأما العرفية فتنقسم إلى خاصة وعامة -كماتقدم- فإن كان الناقل طائفة مخصوصة سميت خاصة، وإن كان عامة الناس سميت عامة.) [11] وذكر الزركشي تخريجا لطيفا عن القاضي الحسين في علاقة ما هـو شرعي بما هـو لغوي، قال: الأسماء التي نقلها الشارع [ ص: 51 ] من اللغة إلى الشرع على ثلاثة أقسام:
-أحدهما: ما زاد فيه من كل وجه؛ كالصلاة، فإنها في اللغة: الدعاء، فأبقاها الشارع على معنى الدعاء وزاد: القراءة والركوع والسجود.
- الثاني: ما نقص من وجه؛ كالحج، فإنه في اللغة: القصد، وفي الشرع: القصد إلى بيته الحرام.
- الثالث: ما نقص فيه من وجه وزاد فيه من وجه؛ كالصوم، فإنه في اللغة: الإمساك، وفي الشرع: إمساك مخصوص مع شروط كالنية وغيرها. [12] وهذا قريب من كلام ابن فارس المتقدم. [13] وعند التهانوي أن الحقيقة اللغوية : (هي اللفظ المستعمل فيما وضع له في وضع به التخاطب، وهي قسمان: مفردة: وهي الكلمة المستعملة فيما وضعت له. ومركبة: وهي المركب المستعمل فيما وضع له.) [14] [ ص: 52 ]
وفي حديثه عن (الفرق بين الوضع والاستعمال والحمل) ذهب الإمام القرافي إلى: (أنها تلتبس على كثير من الناس؛ فالوضع يقال بالاشتراك على: جعل اللفظ دليلا على المعنى كتسمية الولد زيدا، وهذا هـو الوضع اللغوي. وعلى غلبة استعمال اللفظ في المعنى حتى يصير أشهر فيه من غيره، وهذا هـو وضع المنقولات الثلاثة: الشرعي نحو الصلاة، والعرفي العام نحو الدابة، والعرفي الخاص نحو الجوهر والعرض عند المتكلمين. والاستعمال : إطلاق اللفظ وإرادة مسماه بالحكم وهو الحقيقة ، أو غير مسماه لعلاقة بينهما وهو المجاز . والحمل : اعتقاد السامع مراد المتكلم من لفظه أو ما اشتمل على مراده، كاعتقاد المالكي أن الله تبارك وتعالى أراد بلفظ القرء الطهر، والحنفي أن الله تعالى أراد الحيض. والمشتمل : نحو حمل الشافعي اللفظ المشترك على جميع معانيه عند تجرده عن القرائن لاشتماله على مراد المتكلم احتياطا) .
قال القرافي : (ويتلخص من هـذا الفصل أن الوضع سابق، والحمل لاحق، والاستعمال متوسط.) [15] [ ص: 53 ]
ولشيخ الإسلام ابن تيمية تخريج آخر يذهب فيه -من جهة- إلى تأكيد نفس المرجعية الثلاثية لمعرفة حد الأسماء (التي علق الله بها الأحكام في الكتاب والسنة) ، فـ (منها ما يعرف حده ومسماه بالشرع، فقد بينه الله ورسوله كاسم الصلاة والزكاة... والكفر والنفاق... ومنه ما يعرف حده باللغة؛ كالشمس والقمر والسماء والأرض... ومنه ما يرجع حده إلى عادة الناس وعرفهم فيتنوع بحسب عادتهم؛ كاسم البيع والنكاح والقبض والدرهم والدينار ونحو ذلك مـن الأسمـاء التي لم يحدها الشـارع بحد، ولا لها حد واحد يشترك فيه جميع اللغة.) [16] ولكن هـذه المرة -ومن جهة أخرى- دون ضرورة لالتماس علاقة استعمال معينة، أو معنى مشتركا بين الحد اللغوي -مثلا- والحد الشرعي.
فالاسم الشرعي معتبر بتعريف الشارع له؛ سواء وافق التعريف اللغوي أو لم يوافقه. فـ (الاسم إذا بين النبي صلى الله عليه وسلم حد مسماه، لم يلزم أن يكون قد نقله عن اللغة أو زاد فيه، بل المقصود أنه عرف مراده بتعريفه هـو صلى الله عليه وسلم كيف ما كان الأمر، فإن [ ص: 54 ] هـذا هـو المقصود؛ وهذا كاسم الخمر، فإنه قد بين أن كل مسكر خمر، فعرف المراد بالقرآن؛ وسواء كانت العرب قبل ذلك تطلق لفظ الخمر على كل مسكر، أو تخص به عصير العنب، لا يحتاج إلى ذلك؛ إذ المطلوب معرفة ما أراد الله ورسوله بهذا الاسم.) [17] والمراد من كلام ابن تيمية -دون شك- ما عرفه الشارع تعريفا كاملا، أو حده حدا كاملا، أو من كل وجه، بالشكل الذي تصبح فيه الحقيقة اللغوية مهجورة كما تقدم، فهذا المهم فيه معرفة الحد أو التعريف الشرعي. أما ما بقي مستصحبا معه وجوها من التعريف اللغوي، فهذا يرجع فيه بلا ريب إلى لسان العرب لمعرفة كافة معانيه ودلالاته.
إن هـذا الموقف لابن تيمية يحيلنا إلى مسألة غاية في الأهمية؛ وهي ضرورة اعتبار التعريف الشرعي دائما وتقديمه على ما سواه؛ تجنبا لأي خلط بينه وبين ما سواه من تعاريف لغوية، أو اصطلاحات عرفية متأخرة.
وهذا ما دعا كتابا آخرين إلى التمييز داخل الحقيقة الشرعية نفسها بين ماهو من (وضع الشارع) وما هـو من وضع (أهل الشرع) ، فعند الشوكاني مثلا أن: (الشرعية هـي [ ص: 55 ] اللفظ المستعمل فيما وضع له بوضع الشارع لا بوضع أهل الشرع... فذهب الجمهور إلى إثباتها؛ وذلك كالصلاة والزكاة والصوم... والمصلي والمزكي والصائم... فالجمهور جعلوها حقائق شرعية بوضع الشارع لها. [18] ونقل الزركشي عن المحاملي أن: (الاسم الشرعي كما يثبت بالتوقـيف يثـبت بالاجـتـهاد؛ لأن الحكم إذا ثبت تبعه الاسم، كما أن الشرع أثبت الربا في الأعيان الستة، ثم ألحق العلماء غيرها بها بالاجتهاد.) [19] إلا أنه قال في مكان آخر: (إن الشرعية تطلق على معنيين: ما في كلام الشارع، وما في كلام حملة الشرع من المتكلمين والفقهاء. وهذا الخلاف، إنما هـو بالنسبة إلى كلام الشارع، أما بالنسبة إلى المتشرعة فليست حقيقة شرعية، بل عرفية وليست محل النزاع في شيء.) [20] وإلى جانب الحقائق الشرعية أثبتت المعتزلة (حقائق دينية) ؛ إذ جعلوا الأسماء التي أجريت على الأفعال كالصلاة والصوم والزكاة... حقائق شرعية، والأسماء التي أجريت على الفاعلين [ ص: 56 ] كالمؤمن والكافر والفاسق ونحو ذلك (حقائق دينية) . قال الشوكاني : (والكل على السواء في أنه عرف شرعي.) [21] . وقال الزركشي بعد مناقشة المسألة: (والصواب أن يقال: إنها عملية وهي الشرعية، أو اعتقادية وهي الدينية.) [22] ولم يتوقف البحث اللغوي الأصولي عند هـذا الحد، بل بحث العلماء أيضا (دلالة الألفاظ على المعاني) من ثلاثة وجوه: (المطابقة، والتضمن، والالتزام) . وبيان (رتبة الألفاظ من مراتب الوجود) في (الأعيان وفي الأذهان وفي الألفاظ ثم في الكتابة) . (فالكتابة دالة على اللفظ، واللفظ دال على المعنى الذي في النفس، والذي في النفس هـو مثال الموجود في الأعيان) . و (نسبة الألفاظ إلى المعاني) (المشتركة والمتواطئة والمترادفة والمتزايلة أو المتباينة) [23] وغير ذلك مما هـو مبسوط عندهم في مباحث الألفاظ والدلالة، والحقيقة والمجاز. [24] [ ص: 57 ]
إلى جانب المصطلح الأصولي، الذي كان معبرا بحق عن خصوصية الأمة الحضارية، كما تدل على ذلك ألفاظ الأدلة، والأحكام الشرعية، والقواعد الأصولية واللغوية... وغيرها، والتي كان كتاب (الرسالة) للإمام الشافعي وما يزال فاتحة عهد لها؛ تنظيما وترتيبا، احتجاجا واستدلالا، كان المصطلح الحديثي أيضا علما من العلوم التي انفـردت بـها هـذه الأمـة؛ مـنهجا وموضوعا؛ ما تعلق منها بالراوي، وما تعلق منها بالمروي؛ حيث وضعوا للأول مصطلحات خاصة في الجرح والتعديل، وللثاني مصطلحات خاصة في التصحيح والتضعيف، ومصطلحات أخرى خاصة بالتحمل والأداء... وغيرها.
وقد كان كتاب (علوم الحديث) ، المشتهر بـ: مقدمة ابن الصلاح، أبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري (ت 643) بالنسبة للحديث ككتاب الرسالة للشافعي بالنسبة لأصول الفقه؛ إذ حاول فيه ابن الصلاح جمع ونظم المدونات السابقة عليه في هـذا الفن. وكذلك كتاب (نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر) للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852) [ ص: 58 ] بشرحه له في (نزهة النظر) محطة ثانية للمصطلح الحديثي -وإن كانت مبنية على الأولى- اكتمل فيها واشتد، وصار أكثر استقرارا، ولم تكد تخرج كل الكتابات بعدهما عن طوق الشرح والنظم والاختصار، وأحيانا قليلة الاعتراض.
نخلص من هـذا إلى أن التمييز بين المستوى الشرعي والمستوى الاصطلاحي غدا من الأمور الضرورية والملحة في فكرنا الراهن؛ وذلك للخلط الذي ورثناه بينهما، والذي شوه كثيرا من المعاني بل المعالم الدينية، وأعطى تنزيها وقدسية لكثير من المعاني والمفاهيم التراثية. فـ (مع تغير الزمان وتبدل المكان وتطور الإنسان تصبح الشقة بعيدة بين المدلول الشرعي الأصلي للفظ والمدلول العرفي أو الاصطلاحي الحادث المتأخر، وهنا ينشأ الغلط وسوء الفهم غير المقصود، كما ينشأ الانحراف والتحريف المتعمد. وهو ما حذر منه الجهابذة والمحققون من علماء الأمة، أن تنزل الألفاظ الشرعية على المصطلحات المستحدثة علـى مـر العصـور، ومـن لم يراع هـذا الضابط يقع في أخطاء كثيرة كما نرى في عصرنا.) [25] [ ص: 59 ]