3- تكريم الإنسان
الإنسان مخلوق كرمه خالقه، صغيرا كان أم كبيرا، عالما أم جاهلا، إلا أنه لا يصير مكلفا حتى يجمع صفتين: العقل والبلوغ، لكنه مكرم قبل التكليف وبعده، حيا أم ميتا.
يقول الله تعالى: ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) ( الإسراء: 70) .
فالتكريم مرتبط بصفته من بني آدم، وقد اتخذ صورا كثيرة، منها:
أ - اتخاذ الرسل، وهم صفوة الخلق من البشر، وهي مهمة سامية لا تدانيها منزلة ولا وظيفة، وقد عرفت الإنسانية منهم أعدادا كبيرة، ذكر الله في كتابه منهم مجموعة، لكنه ذكر أيضا أنه بفضله وعدله لم يترك أمة دون أن يبعث فيها ولها نبي أو رسول. [ ص: 51 ]
وإلى جانب الأنبياء وقريبا منهم الشهداء، فهم الأقرب درجة، والأشبه سلوكا.
ب - تسخير الكون للإنسان: ( الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ) ( الجاثية: 12) ، وقوله: ( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض ) (لقمان: 20) . وبفضل هذا التسخير يعيش الإنسان سيدا في هذا الكون الواسع.
جـ- سجود الملائكة: أمر الله تعالى الملائكة أن تسجد لآدم عليه السلام ، سجود تقدير واحترام، لا سجود عبادة طبعا،
يقول الحق: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) ( الأعراف: 11) .
وقد استجابت الملائكة فسجدت: ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس ) (البقرة: 34) .
د- استخلاف آدم في الأرض، يقول الحق: ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) (البقرة: 30)
هذه المهمة الكبيرة نيطت بالإنسان كي يعمر الأرض، وينشر العدل، ويسير فهيا كما أمره من استخلفه، فلا يكون عنصر هدم أو تخريب.
هـ - خلق الانسان على صورة جميلة ,
.يقول الله تعالى: [ ص: 52 ] ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) ( التين: 4) ، ويقول سبحانه: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) (الأعراف: 11) .
والإنسان بشكل عام جميل الصورة، حسن المنظر، ولا يخرم القاعدة، وجود قلة ليس كذلك، إذ الحكم للأعم وليس للقلة، كما قد تشاركه -في هذه الصفة- مخلوقات أخرى، ولكن تبقى صورة الإنسان جميلة بشكل عام.
و- منع الاعتداء على الإنسان بالهمز أو اللمز أو الإهانة أو الضرب، حتى يسقط في اعتداء على غيره فيقتص منه، فهو برىء حتى تثبت إدانته، ولا يسمح بمعاقبته بأكثر من جرمه.
ز- لقد جعل الله للإنسان عقلا وإرادة، فهو يفكر ويدبر، ثم يتخذ القرار، فإن كان صوبا فله أجره، وإن كان خطأ فعليه وزره، فإذا كان الفعل غير إرادي فلا مسؤولية ولا عقاب، على حين تتحرك كائنات ومخلوقات أكبر من الإنسان، وفق سنن وقوانين، فلا تملك عشر حرية الإنسان.
إن الإنسان -عن طريق العقل- يستطيع أن يميز بين الحق والباطل، بين الحقيقة والوهم، وبفضل إرادته يمكنه أن يختار الخير [ ص: 53 ] أو الشر، وعن طرق "النطق " ثم الاتصال بين الألوهية والإنسان، وحيا وبلاغا من جهة، ودعاء وعبادة من جهة ثانية.
وهكذا يحصل الإنسان من التكريم ما يفوق غيره، فميزه خالقه بالعلم، حيث يولد ولا علم لديه، فلا يموت حتى يجمع جبالا من العلم.. كما منحه قوة في الفهم، وحرية في التحرك، فليس هو حيوان تتحكم به غرائزه، ولا مخلوقا مسيرا في كل شيء، تضبط حركته سنن عامة، وكل ذلك ليؤدي رسالته على هذا الكوكب، فيعبد الله تعالى كما أمر، ويعمر الأرض، ويشيع فيها الخير والعدل والسلام.. ولا يتحقق كل هذا وغيره إلا بالإيمان بالله تعالى والعمل الصالح، فإن التزم بهما، وحافظ على مرجعية "الوحي"، فسيظل وفيا لخالقه، جديرا بصفة "الخليفة المكرم " وإن ابتعد عن ذلك، وأدار ظهره لخالقه، وأهمل المنهج الذي أهدى له، ترك لحاله، وانتظر حتى يأتي على ربه يوم الحساب، فإما جنة أو نار.
إن الإنسان الرافض لمرجعية الوحي، المتمرد على خالقه، الضارب بأوامره ونواهيه عرض الحائط، سيترك في الدنيا لحاله، ولكن الحساب سيكون هناك، ومن ثم فقد يتقدم هذا "المتمرد " وقد يتسلم قيادة البشرية، لكن ذلك ليس بفضل كفره وتمرده، بل لإجادته التعامل مع الحياة، ومعرفة قوانينها، والتصارع والتدافع [ ص: 54 ] بقوة وجدارة، لذا سيتقدم غيره ولو كان مؤمنا، لأن المؤمن تخلف عن معرفة قوانين التحضر والتقدم، أو عرفها نظريا، لكنه لم يستعملها بصورة صحيحة.. فالكفر ليس هو سبب التقدم، والدليل أن هناك ملايين البشر لا يعرفون الله تعالى، ولا يعبدونه ولا يطيعونه، وهم في ذيل قافلة التقدم، بل يعيشون عالة على غيرهم، فالكفر ليس آلة للتقدم.. فكما قال "الغزالي" فإن الكافر المتقدم، عرف جيدا علوم الحياة، واستعملها الاستعمال الجيد، لكنه لا يعرف قوانين الآخرة، وليس له نصيب فيها.
والخير كل الخير، أن يعرف الإنسان قوانين الدنيا، وقواعد التحضر، ثم يعبد الله تعالى كما أمر، وللأسف فهذا النفر اليوم قلة قليلة، أما الكثرة الغامرة، فلا تعرف الله تعالى، ولا علوم الحياة "التحضر".. وهناك قلة تعرف جيدا علوم الحياة، لكنها لا تعرف الله تعالى حق المعرفة، ولا تعبده كما أمر.
والمطلوب، قديما وحديثا ومستقبلا، أن يعلم الإنسان علوم الحياة والتحضر، وأن يعبد الله كما أمر ، وهذا ما يفتقد اليوم.
الحاجة إلى دليل:
قد يكون الإنسان من أكبر علماء الفلك، أو الفيزياء أو الطب أو النبات، لكنه إذا أراد السفر، فقد يحتاج إلى دليل، ليس عنده [ ص: 55 ] إلا المعرفة الجيدة بالأرض والطرق.. والإنسان كذلك قد يكون من اكبر العلماء، لكنه يحتاج إلى دليل يدله إلى الله تعالى، وأكبر وأعظم الأدلاء هم الأنبياء، وأكبر وأعظم كتب الهداية ما جاء عن الله تعالى، وحفظه خالقه من العبث والتحريف والضياع.