4- حرية الإنسان واختياره
يعيش الإنسان في دائرتين، دائرة لا حرية له فيها، وأخرى يملك التحرك فيها بحرية.. والقضية قديمة، فالإنسان يتساءل: هل هو مجبر أو مخير؟ والموضوع على قدمه كثر فيه الخائضون والخابطون، وبدلا من اتضاح القضية ظل يشوبها الغموض، نظرا لكثرة الخائضين. فإذا نظر الإنسان إلى ما حوله، فسيجد دائرة هو فيها مجبر غير مخير، فالإنسان يولد لأبوين لا خيار له فيهما، ويولد في بلد لم يكن له في خيار كذلك، كذلك لا خيار له في جماله وقبحه، ولا في كونه عصبيا أو هادئا، مريضا أو معافى، إلى كثير من أمثال ذلك.
وإلى جانب ذلك هناك دائرة أخرى، تخضع لتدبير الإنسان وتفكيره وقراره، وهي واسعة كبيرة.
الدائرة الأولى لا ثواب عليها ولا عقاب، لأن الإنسان لا دخل له في ذلك، والدائرة الثانية يثاب ويعاقب فيها، لأنه حر [ ص: 56 ] يختار ما يريد، فإذا فعل الخير جوزي بالثواب، وإذا فعل الشر جوزي بالعقاب، متى كان عاقلا مختارا غير مكره.
يقول سبحانه وتعالى : ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) ( الأعراف: 96) ، ويقول: ( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم ) (الأنفال: 53) ، ويقول تعالى: ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) ( الصف: 5) .
إن الإنسان يعمل وفق حريته وإرادته، وفي حدود خبراته وقدراته، ثم يرتب الله تعالى نتيجة منسجمة مع طبيعة عمل الإنسان.. ومثل ذلك الأمة، فمن يفعل خيرا يجز به، والأمة التي تعمل بجد وإخلاص تتقدم - ولو كانت كافرة - والأمة التي تهمل وتتكاسل تتأخر ولو كانت مؤمنة، فالله تعالى لا يحابي أحدا، ولا يداري أحدا، ومن يعتقد انه من شعب الله المختار، فهو في الحقيقة من شعب الله (المختال المخدوع ) .
إن الإنسان يملك حرية التخطيط والتنفيذ، كما يملك التصرف بالنتائج، وكذلك الأمة. [ ص: 57 ]
لكن هناك سننا عامة لا يملك الإنسان مغالبتها ولا القفز فوقها، وكذلك الأمم.. ومن هنا يجب معرفة تلك السنن، لأن من يجهلها قد يصطدم معها، وقد يحاول القفز فوقها، فلا يفلح.
وقد طرح (آلبان ) وهو من مفسري التاريخ، موقف القرآن الكريم من الجبر والاختيار، فقال [1] : "يدور جدل كثير حول مذهب الاختيار، وهل هو مما يعلمه القرآن أم لا يعلمه.. ينبغي أن لا يغيب عن أذهاننا أن القرآن كتاب دين، وليس كتابا يجمع مباحث نظرية فلسفية خاصة، فهو يحتوى على الاعتراف بكل من سيطرة الله، وحرية الاختيار عند البشر، ولكنه لا يبحث بطريقة تأملية: كيف يمكن الجمع فكريا بين هذين الآمرين؟
فهو يؤكد أن الله تعالى مسيطر على كل شيء، وقد نفخ في الروح سجيتها: ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ) (الشمس: 7-8) ..
والقرآن من أوله إلى لآخره يؤكد استخدام "الاختيار "، تأكيدا كبيرا، فليس الله بظلام للمذنبين ولكن أنفسهم يظلمون:
( ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ) (الجاثية: 22) . [ ص: 58 ]
والقرآن يشير في مواضع كثيرة إلى القرى التي ازدهرت أو هلكت، بما قدمت يداها من طاعة أو عصيان، للسنن الخلقية التي يعبر عنها القرآن ".
ومعلوم أن وصف عمل ما بأنه خير أو شر، يتوقف على حرية الإنسان في العمل، فإن كان مجبرا فلا خير ولا شر، هذا مثل ذاك ولا فرق بينهما، بعيدا عن الحرية.. كذلك يفقد الحساب والعقاب معناه، إذا كان الإنسان مجبرا، ويفهم جيدا مع الاختيار.
فالمسئولية تابعة للحرية، فإذا فقدت الحرية فلا مسئولية، وإذا صار الإنسان آلة بيد غيره ثم قام بجناية فالمسئولية على من أمره ، وليس على المنفذ ، كما يرى الفقهاء.. ومنذ أن استقر الإنسان على كوكب الأرض، راحت الرسل تترى، ومهمتهم جميعا دعوة البشر، والعمل من أجل هدايتهم، فلو كان الناس مجبرين غير مخيرين، فما جدوى بعث الرسل؟ وما قيمة ما يبذلونه من جهد ووقت؟
من أين يأتي الجبر؟
الله تعالى له علم محيط، كما له إرادة نافذة، علمه لا يخطىء، وإرادته لا ترد، فإذا وصف إنسانا بأنه "شقي " فلن يعيش سعيدا.. أما علم الإنسان فمحدود، وكذا إرادته، فإذا قال أستاذ: إن هذا [ ص: 59 ] الطالب سينجح، فقد ينجح أو يفشل، وإذا أراد شيئا فقد يستطيع إنفاذه وقد لا يستطيع.. والإنسان يتحرك في الحياة، وهو لا يعرف علم الله عز وجل ولا إرادته، لكنه مهما تحرك فلن يخرج عنها مطلقا، والمثال الجيد "الرزق "، فالإنسان لا ينال منه إلا ما كتب له، لا يزيد فيه ولا ينقص منه، ولا يعرف مقداره، كذلك الأجل.
والسؤال الكبير: كيف يعمل الإنسان منسجما ومتوافقا مع إرادة الله عز وجل ؟
سيد قطب والمشيئة
يقول سيد قطب يرحمه الله [2] : " الإسلام يثبت المشيئة الإلهية المطلقة ، ويثبت لها الفاعلية، التي لا فاعلية سواها ولا معها ،ـ في الوقت ذاته يثبت للمشيئة الإنسانية الإيجابية، ويجعل للإنسان الدور الأول في الأرض وخلافتها، وهو دور ضخم، يعطي الإنسان مركزا مختارا في نظام الكون كله، ويمنحه مجالا هائلا للعمل والفاعلية والتأثير، ولكن في توازن تام، مع الاعتقاد بطلاقة المشيئة، وتفردها بالفاعلية الحقيقة، من وراء الأسباب الظاهرة، وذلك باعتبار أن وجود الإنسان إبتداءا، وإرادته وحركته ونشاطه، داخل المشيئة الطليقة المحيطة بهذا الوجود، وما فيه ومن فيه، ويقرأ الإنسان في [ ص: 60 ] القرآن الكريم: ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) (التوبة: 51) .
لقد ضربت الفلسفات والعقائد المنحرفة في التيه، في هذه القضية، ولم تعد إلا بالحيرة والتخبط والتخليط.
في التصور الإسلامي ليست هناك مشكلة في الحقيقة، حين يواجه الأمر بمفهوم هذا التصور وإيحائه. إن قدر الله في الناس هو الذي ينشىء ويخلق كل ما ينشىء، وما يخلق من الأحداث والأشياء والأحياء، وهو الذي يصرف حياة الناس ويكفيها، شأنهم في هذا شأن هذا الوجود كله، كل شيء مخلوق فيه بقدر، وكل حركة تتم فيه بقدر، ولكن قدر الله تعالى في الناس يتحقق من خلال إرادة الناس وعملهم في ذات أنفسهم، وما يحدثونه فيها من تغييرات:
( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ( الرعد: 11) .
إن كيفيات فعل الله كلها، وكيفيات اتصال مشيئته بإرادة خلقه، وإنشائه كلها، ليس بمقدور العقل البشري إدراكها.. والتصور الإسلامي يشير بتركها للعلم المطلق، والتدبير المطلق، مع الطمأنينة إلى تقدير الله وعدله، ورحمته وفضله.. فالتفكير البشري المحدود الزماني والمكان، وبالتأثيرات الوقتية والذاتية، ليس هو الذي يدرك مثل [ ص: 61 ] هذه النسب، وهذه الكيفيات، وليس هو الذي يحكم في العلاقات والارتباطات بين المشيئة الإلهية والنشاط الإنساني، إنما هذا كله متروك للإرادة المدبرة المحيطة. والعلم المطلق الكامل، متروك لله الذي يعلم حقيقة الإنسان، وتركيب كينونته، وطاقات فطرته، وعمله الحقيقي، ومدى ما فيه من الاختيار، في نطاق المشيئة المحيطة، ومدى ما يترتب على هذا القدر من الاختيار من جزاء ".
الشيخ الكيلاني والقدر
لقد وجدت آراء جريئة في القدر للشيخ عبد القادر الكيلاني ، شيخ الحنابلة والصوفية ببغداد في القرن السادس الهجري، يقول فيها [3] : "إن كثيرا من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، إلا أنا، وصلت إليه، وفتح لي منه " روزنة "فأولجت فيها، ونازعت أقدار الحق بالحق للحق، فالرجل هو المنازع للقدر، لا الموافق له " .
ويعلق د. ماجد الكيلاني على فهم الشيخ للقدر قائلا [4] : استهدفت عقيدة القضاء والقدر - كما صاغها الشيخ الكيلاني - أن تكون حافزا لنصرة الخير، ومقارعة الشر، فإذا عظمت التضحيات، [ ص: 62 ] وطال أمد الجهاد، كانت هذه العقيدة سندا في لحظات اليأس وانسداد أبواب الحيلة، ومانعا من مهاوي القنوط والانهيار.
وانطلاقا من هذا الهدف، تحدد مفهوم القضاء والقدر فيما يلي: إن جميع الحوادث، خيرها وشرها، كائنة من الله، ولكن المؤمن مأمور أن يدفع ما يقدر من الشر، بما قدر من الخير، فيزيل الكفر بالإيمان، والبدعة بالسنة، والمعصية بالطاعة، والمرض بالدواء، والجهل بالمعرفة، والعدوان بالجهاد، والفقر بالعمل، وهكذا.
إن من الخطأ أن ينظر الناس للأقدار نظرة جزئية، فإذا رأوا الشر ظنوا وجوب الاستسلام إليه، وعدم الحيلة لدفعه.. ولو أنهم نظروا في الأمر نظرة شاملة، لأدركوا أن الله سبحانه وتعالى يلقي بالخير والشر في ساحة الحياة، ثم يترك للعبد ثلاثة اختيارات:
أن يأخذ الشر.. أن يستسلم للشر.. أن يتناول الخير ليدفع به الشر.
والأخير هو المقصود، وهو الذي امتحنت به إرادة الإنسان ...
إن لكل حالة من أحوال الحياة، سعادة كانت أم شقاء، زمنا تحل فيه، وآخر تنتهي عنده، وأزمانها هذه لا تتقدم ولا تتأخر، ولذلك فالمطلوب من الإنسان أن يعالج هذه الأحوال بالوسائل المشروعة، مع الانتظار حتى تسفر الحالة عن ضدها، بمرور زمنها، وانقضاء أجلها، [ ص: 63 ] كما ينقضي الشتاء، فيسفر عن الصيف، وينقضي الليل فيسفر عن النهار، فمن طلب ضوء النهار بين العشائين، فلن يحصل عليه، بل إن ظلمة الليل تزاد حتى تبلغ نهايتها، ثم يطلع الفجر، ويحل النهار، ولو طلب إعادة الليل بعد حلول النهار لم تجب دعوته، لأنه طلب الشيء في غير وقته، فيبقى ساخطا.. ومن شأن هذا القلق والسخط، أن يقضي به إلى سوء الظن بالله تعالى، والتخبط في معالجة الأقدار، وهكذا تفضي الحالة السيئة، إلى ما هو أسوأ ".
طرح جريء قد نجد بعضه لدى الحسن البصري.
وقد وجدت سائلا يتوجه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية فيسأله رأيه فيما قاله الشيخ الكيلاني في القدر.
رأي شيخ الإسلام فيما ذكره الشيخ الكيلاني
لقد كتب الشيخ مقدمة ألخصها أولا، لأنتقل بعدها إلى رأيه الصريح فيما قاله الشيخ الكيلاني.. يرى شيخ الإسلام أن جميع الحوادث هي بقضاء الله وقدره، وقد أمر الله تعالى أن نزيل الشر بالخير، والكفر بالإيمان، والبدعة بالسنة، والمعصية بالطاعة، وكل من كفر أو عصى فعليه أن يتوب، وعلى الإنسان عدم ترك السعي فيما ينفعه الله به، متكلا ومحتجا بالقدر، كما عليه مدافعة الأعداء [ ص: 64 ] وجهادهم ومقاتلتهم.. ثم يقول بعد ذلك [5] : "فالذي ذكره الشيخ رحمه الله، هو الذي أمر الله به ورسوله.
والمقصود من ذلك: أن كثيرا من أهل السلوك والإرادة يشهدون ربوبية الرب، وما قدره من الأمور التي ينهى عنها، فيقفون عند شهود هذه الحقيقة الكونية، ويظنون أن هذا من باب الرضا بالقضاء والتسليم، وهذا جهل وضلال، قد يؤدي إلى الكفر والانسلاخ من الدين، فإن الله لم يأمرنا أن نرضى بما يقع من الكفر والفسوق والعصيان، بل أمرنا أن نكره ذلك وندفعه بحسب الإمكان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) [6] فالمؤمن إذا كان صبورا شكورا، يكون ما يقضى عليه من المصائب خيرا له، وإذا كان آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، مجاهدا في سبيله، كان ما قدر له من كفر، سببا للخير في حقه، وكذلك إذا دعاه الشيطان والهوى، كان ذلك سببا لما حصل له من الخير، فيكون ما يقدر من الشر - إذا نازعه ودافعه، كما أمره الله ورسوله – [ ص: 65 ] سببا لما يحصل له من البر والتقوى، وحصول الخير والثواب وارتفاع الدرجات ... . "
مفارقة في القدر
ثمة مفارقة في الموقف، فالإنسان إذا قام بمشروع فنجح يقول: خططت وفعلت وفعلت، فإذا أخفق أو فشل قال: هذا قدري.. وقد لا يكون كذلك، بل نتيجة تخطيط سيء، وتدبير فاشل.
وأقرب المسألة بمثال: فالطالب الذي تهرب من الدراسة ولا يذاكر كما ينبغي فإذا فشل في الامتحان فذلك ثمرة سلوكه، لكنه إذا استمر في حضوره، وذاكر أولا بأول، ثم حدث حادث في الطريق إلى الامتحان جعله يتخلف، فإذا اعتذر بالقدر قبل ذلك منه.. لكن الإنسان يحب أن ينسب لنفسه كل خير ونجاح، وكل فشل يرميه على القدر، وهنا المفارقة.