اللوم والمعاتبة للذات «النفس اللوامة»
النفس: هـي الجوهر اللطيف الحامل لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية، وسماها الحكيم الروح الحيوانية، فهي جوهر مشرق للبدن، فعند الموت ينقطع ضوءه من ظاهر البدن وباطنه، وأما وقت النوم فينقطع ضوءه عن ظاهره، فثبت أن القادر الحكيم دبر تعلق جوهر النفس بالبدن على ثلاثة أضرب. إن غلب ضوء النفس على جميع أجزاء البدن ظاهره وباطنه فهو اليقظة، وإن انقطع ضوءها عن ظاهره فقط فالنوم أو بالكلية فالموت.
[1]
وقد شرح الإمام أبو حامد الغزالي النفس فقال: إنه مشترك بين معان، ويتعلق بغرضنا منه معنيان، أحدهما: المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان، وهذا الاستعمال هـو الغالب على أهل التصوف؛ لأنهم يريدون بالنفس الأصل الجامع للصفات المذمومة من الإنسان، فيقولون لا بد من مجاهدة النفس وكسرها وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك»
[2] ، أما المعنى الثاني: فهي حقيقة نفس الإنسان وذاته، ولكنها توصف بأوصاف مختلفة بحسب أحوالها، فإن سكنت تحت الأمر وزايلها الاضطراب بسبب معـارضة الشـهوات سميت النفس المطمئنة، قـال تعالى في مثلها:
( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية ) [ ص: 104 ] (الفجر:27-28) وإذا لم يتم سكونها ولكنها صارت مدافعة للنفس الشهوانية ومعترضة عليها سميت النفس اللوامة؛ لأنها تلوم صاحبها عند تقصيره في عبادة مولاه،
قال الله تعالى: ( ولا أقسم بالنفس اللوامة ) (القيامة:2)
وإن تركت الاعتراض وأذعنت وأطاعت لمقتضى الشهوات ودواعي الشيطان سميت النفس الأمارة بالسوء، قال تعالى حكاية عن قصة يوسف :
( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ) (يوسف:53) ،
ويجوز أن يقال: المراد بالأمارة بالسوء: هـي النفس بالمعنى الأول.
[3]
ومن خلال ما تقدم، وبناء على مجمل الآيات القرآنية الواردة في النفس الإنسانية، يمكن تقسيم النفس إلى ثلاثة أقسام، هـي:
1 - النفس المطمئنة: وهي التي تنورت بنور القلب حتى انخلعت عن صفاتها الذميمة وتخلقت بأخلاقها الحميدة.
[4]
2 - النفس اللوامة: وهي النفس المتيقظة التقية الخائفة المتوجسة التي تحاسب نفسها، وتتلفت حولها، وتتبين حقيقة هـواها، وتحذر خداع ذاتها.
[5]
3 - النفس الأمارة بالسوء: وهي التي تميل إلى الطبيعة البدنية وتأمر باللذات والشهوات الحسية، وتجذب القلب إلى الجهة السفلية، فهي مأوى الشرور ومنبع الأخلاق الذميمة.
[6] [ ص: 105 ] والذي يعنينا من هـذه الأقسام الثلاثة هـو القسم الثاني الذي يمثل النفس اللوامة، فقد أقسم الله تعالى بها باعتبارها التواقة للمعالي، التي تندم على الشر: لم فعلته؟ وعلى الخير: لم لم تستكثر منه؟ فهي لم تزل لائمة وإن اجتهدت في الطاعة، قال الفراء : ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت على خير قالت هـلا ازددت، وإن كانت على سوء قالت ليتني لم أفعل، وعلى هـذا فهو مدح للنفس والقسم بها سائغ حسن.
[7]
وقد روي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه، ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر يمضي قدما ما يعاتب نفسه.
[8]
ومن خلال ما تقدم يتضح لنا أن النفس اللوامة تعد صيغة متقدمة من صيغ نقد الذات، حيث يدخل الإنسان في حوار كبير ومتعدد الجوانب مع نفسه عندما يريد الإقدام على عمل معين في جانب الخير أو جانب الشر، ويؤكد هـذا المعنى عدد من الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، منها ما روي عن أبي هـريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به )
[9] ، ومنها ما ( روى النواس بن سمعان الأنصاري ، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: البر حسن [ ص: 106 ] الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس )
[10] ومنها مارواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه في الحديث القدسي: ( يقول الله عز وجل : يا ابن آدم إن حدثت نفسك بحسنة فلم تعملها كتبتها لك حسنة، وإن عملتها كتبتها لك عشرا، وإن هـممت بسيئة فحجزك عنها هـيبتي كتبتها لك حسنة وإن عملتها كتبتها سيئة واحـدة هـذا )
[11] .. ومـنها ما ( روي عن وابصة ابن معبد ، «قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا سألته عنه وإذا عنده جمـع، فذهبت أتخطى الناس فقالوا: إليك يا وابصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك يا وابصة، فقلت: أنا وابصة دعوني أدنو منه فإنه من أحب الناس إلي أن أدنو مـنه، فقـال لي: ادن يا وابصة، ادن يا وابصة.. فدنوت منه حتى مست ركبتي ركبته، فقال: يا وابصة أخبرك ما جئت تسألني عنه أو تسألني؟ فقلت: يا رسول الله فأخبرني، قال: جئت تسألني عن البر والإثم.. قلت: نعم.. فجمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري ويقول: يا وابصة استفت نفسك، البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس.. قال سفيان : وأفتوك )
[12] .
فهذه النصوص من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تشير إلى أن النفس تحدث ذاتها دون أن تتكلم أو يجري على لسانها حديث: ( يا ابن آدم إن حدثت نفسك [ ص: 107 ] بحسنة فلم تعملها كتبتها لك حسنة ) ، كما أنها تدخل في صراع فكري ومبدئي عندما تريد الإقدام على فعل معين فيراودها التردد وعدم الرضا عن بعض التصرفات: ( البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر ) وهذا يعني أن النفس الإنسانية تحاور ذاتها وتدخل معها في صراع فكري قبل أن تقدم أو تحجم عن عمل ما.
إن جميع المعطيات التي أشرنا إليها تثبت بوضوح أن خلجات النفس اللوامة وأحاسيسها واحدة من أشكال الحوار الداخـلي، الذي يعمل على تصحيح المواقف والاستزادة من الخير، وهي بالتالي صيغة من صيغ الحوار مع الذات.