خلق الله تعالى الإنسان تواقا إلى التواصل مع من حوله، والتفاعل مع بني جنسه، وعلمه الأسماء كلها ( وعلم آدم الأسماء كلها ) (البقرة:31) فإذا هـو يعتمد اللغة وسيلة لهذا التواصل، بحيث يكون الحديث أقوى المتع في هـذه الحياة؛ لأن الحياة بدون التفاعل مع الآخرين تبعث إلى السـئم والضجر، ولقد ذكر ابن السـراج فقال [1] : دخلنا على ابن الرومي في مرضه الذي قضى فيه فأنشدنا:
ولقـد سـئمت مآربي فكـان أطيبـها خبيـث إلا الحـديث فإنـه
مثـل اسـمه أبدا حـديث
[2] ، لشعور الناس باكتمال جوانب المعرفة وعدم حاجتهم إلى الإبداع والابتكار فيها.
وهناك سبب آخر لهذا التراجع الفكري، وهو انشغال العلماء بتدوين المعارف السابقة والقيام بتمحيصها وتعليلها، مما أبعدهم عن التفكير في أي شكل من أشكال الحوار الجديد، إضافة إلى الملل الذي أصاب النفوس من جراء الجدل والنقاش الذي ساد المجتمعات الإسلامية فترة طويلة من الزمن دون الوصول إلى حسم أي من مسائل الخلاف العقائدي أو المذهبي.
هذه الأسباب مجتمعة أدت إلى تراجع الحوار وعدم انتشاره وازدهاره كما كان عليه الأمر في القرون السابقة، وما وجد من حوارات ومناقشات علمية ومساجلات كلامية بعد القرن الرابع الهجري بقيت حبيسة المصنفات والكتب بسبب انتشار التدوين، وتوسع رقعة الدولة الإسلامية، وبعد المسافات، وعدم توفر المناخ العلمي القائم على أرضية مشتركة بين المفكرين.
وإذا كان الغرض من الحوار فيما سبق هـو الوصول إلى معرفة حكم من الأحكام أو تأصيل فكرة معينة، أو اسـتنباط قاعدة من قواعـد الشـرع، [ ص: 42 ] أو معرفة علل الأحكام، فإن الغرض منه في هـذه القرون المتأخرة هـو التنافس والتعصب أو نصرة مذهب على مذهب، أو تحقيق غاية شخصية، أو إرضاء نهمة التعصب، أو مغالطة الخصم ومغالبته.
[3]
واستمر الحال على ذلك طوال القرون اللاحقة حتى عصر النهضة الحديثة، وإن كان قد برز بين الحين والآخر علماء ومفكرون كانت لهم بصمات واضحـة في الثقافة والمعرفة وباع طويل في الحوار والمناقشة أمثال ابن تيمية وابن القيم والنووي وابن قدامة ، رحمهم الله، الذين قاموا بمناقشة الآراء والأفكار دون تعصب أو ميول شخصية، إذ تسوق مؤلفاتهم الفتاوى والأحـكام الواردة فيها بأدلتها وعللها من غير غمط للآخرين أو تجاوز على توجيهاتهم، وقد أدى هـذا المسلك من قبل أولئك النخبة إلى نشـر الود والسماحة بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم، واستئصال شأفة العداوة والبغضاء من نفوسـهم، وفي هـذا يقول الإمام النووي : «واعلم أن معرفة مذاهب السلف بأدلتها من أهم ما يحتاج إليه؛ لأن اختلافهم في الفروع رحمة، وبذكر مذاهبهم بأدلتها يعرف المتمكن المذاهب على وجهها والراجح من المرجوح ويتضح له ولغيره المشكلات، وتظهر له الفوائد النفيسات، ويتدرب الناظر فيها بالسؤال والجواب، ويتفتح ذهنه ويتميز عند ذوي البصائر والألباب، ويعرف الأحاديث الصحيحة من الضعيفة، والدلائل الراجحة من المرجوحة، ويقوم بالجمع بين الأحاديث المتعارضات، والمعمول بظاهرها من المؤولات، ولا يشكل عليه إلا أفراد من النادر».
[4] [ ص: 43 ] أما في عصر النهضة الحديثة الذي يمثل الفترة التاريخية التي تبدأ بالقرن الرابع عشر الميلادي وتمتد لتشمل القرون اللاحقة حتى العصر الحديث، فإن هـذا العصر يتميز بظهور حركات الاحتجاج ضد الكنيسة، والمطالبة بأن تكون الثقافة تحت إشراف السلطة المدنية، والتقليل من مدارس الأديرة، وظهور مبدأ الاختيار في نشر التعليم والثقافة.
[5]
وبينما بدأت أوربا تنفض عن نفسها غبار قرون من التراجع الفكري تراكم على نشاطاتها المختلفة، كان الكسل يدب في أوصال الحضارة العربية، حيث هـبت جيوش من المغول والتتار تارة، وظهرت أعاصير من نزعات داخلية أصابت جسم الأمة بالتمزق والوهن، وراحت في نوم عميق لم تستفق منه إلا بعد فترة طويلة من الزمن.
إنه مع بروز الدعوة الإسلامية وانتشار حضارتها كانت كلمة الثقافة والعلم قرينة هـذه الدعوة، فغمرت العالم بالفكر والمعرفة. ولكنه مع تراجع الأمة العربية من جديد بفعل عدة عوامل، أشرنا إليها، صحا الأوربيون من نومهم ليبدأوا مع شروق شمس حضارتهم عصرا جديدا من المعرفة والعلم والثقافة، وهو ما أطلق عليه مؤرخو الفكر بـ «عصر النهضة» .
وقد تميز هـذا العصر بمجموعة من الخصائص كان من أبرزها الاهتمام الكبير بالتعليم والمدارس، مما نتج عنه مجموعة من النظريات التربوية والأفكار التعليمية كانت أساسا لبوادر النهضة المعاصرة التي يشهدها العالم اليوم.
[6] [ ص: 44 ] وكان أبرز الحركات التي ظهرت في عصر النهضة، هـي الحركة الإنسانية التي ترى أن التربية لا بد أن تعمل على تدريب وتنمية المواهب العقلية، ويرى فيرجيريو ، وفيتورينو وسيليفياس ، وهم إيطاليون من أنصار الحركة الإنسانية، أن التربية إنما هـي نتاج الفرد الذي يتمتع بثقافة واسعة وأخلاق راقية وشخصية متزنة متكاملة، إلا أن هـذه الأهداف التقدمية التي نادى بها أنصار الحركة الإنسانية سرعان ما أصبحت غير صالحة، حيث وصفها أنصار التقدمية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بالتخلف والجمود والقدم.
[7]
ورغم هـذا التقدم العلمي والثقافي الذي شهدته تلك الفترة التاريخية، فإن المفكرين فيها انكـفأوا على أنفسـهم، فلم يعيروا أهمية لحوار علمي أو مناظرة ثقافية؛ لأنهم انشغلوا بالرجوع إلى النظريات القديمة ومحاولة تحليلها والإضافة إليها، وبقي الأمر على ذلك حتى بداية معالم العصر الحديث وثقافته الشاملة.
أما العصر الحديث، فقد تميز بمجموعة من الخصائص، من أبرزها:
1 - ظهور المنهج التجريبي في المعرفة، هـذا المنهج الجديد الذي وسع دائرة المعرفة وأضاف إليها وسائل جديدة، وهو ما يعد ثورة في عالم المعرفة ميزت العصر الحديث عما قبله.
2 - اختراع الطباعة وانتشار التصنيف بشكل كبير، مما أدى إلى انتشار الثقافة وسهولة انتقالها بين شعوب العالم. [ ص: 45 ] 3- ظهور القوميات وتبلور فكرة القومية، بدلا من الإمبراطوريات التي كانت سمة العصور السابقة.
4- ظهور فكرة العالمية وإحساس الدول بارتباط مصيرها بالأجزاء الأخرى من العالم، وارتباط أفراد البشرية كلهم بمصالح مشتركة.
5- ظهور الأيدلوجيات الفكرية التي اعتمدت البعد المادي والقومي والديني، التي وظفت لخدمة أهداف سياسية واقتصادية واجتماعية.
6 - تطور وسائل الاتصال، مما أدى إلى سـهولة التواصل بين أجزاء العالم المختلفة.
7 - ظهور الصحافة وانتشارها في دول العالم، مما سهل نقل المعلومة والخبر بأسرع وقت، مقارنة بالعصور السابقة.
8 - انتشار وسائل الإعلام المختلفة ( المسموعة والمرئية ) وظهور القنوات الفضائية المتعددة والمختلفة الأغراض، وتوسع دائرة الشبكة المعلوماتية العالمية «الإنترنيت»، مما كان لها الأثر الواسع والكبير في جعل العالم اليوم أشبه ما يكون بقرية صغيرة.
هذه العوامل مجتمعة عملت على توسيع دائرة المعارف وانتشار الثقافة والفكر على أوسع مدى، مما جعل الحوار والمناظرة ضرورة ملحة أملتها ظروف التقدم الحضاري والعلمي بين شعوب العالم المختلفة، من أجل تزاوج الأفكار وتلاقح الرؤى والتصورات عن الكون والإنسان، حتى أصبح من المحتم وضع ضوابط وشروط وآداب للحوار والمناقشة لتحديد شكل المحاورة وطبيعتها بما يتلائم والتقدم العلمي والثقافي الذي يمر به العالم اليوم، وهو ما سنعرض له في الفصل الأول. [ ص: 46 ]