الاتصال وجماليات اللغة العربية

مادة الاتصال مادة فكرية، وليست اللغة إلا الأداة المعبرة عن الفكر، وبمقدار ما تحمله هـذه اللغة من أمانة جمالية يكون تمام التوصيل؛ لأنها وساطة بين المرسل والمستقبل، فإذا أدت تلك الوساطة دورها المنشود نجح الموقف الاتصالي.

ولقد أنعم الله علينا بلغة عبقرية في خصائصها الجمالية المختلفة، وحسبنا تشريفا أنها لغة القرآن الكريم منبع البيان العربي الخالد:

nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=2 ( إنا أنزلناه قرآنا عربيا ) (يوسف:2) .

وهي لغة تمتاز بقدرتها الفائقة على الإبانة، إذ نزلت على سيد البشر والمرسلين بلسان عربي مبين،

قال تعالى: nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=193 ( نزل به الروح الأمين nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=194على قلبك لتكون من المنذرين nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=195بلسان عربي مبين ) (الشعراء:193-195) . [ ص: 66 ] وأيا كانت مسـتويات التعبير وأغراضه، فاللغة العربية تمـتلك ما لا تمتلكه لغة أخرى من جاهزية ومرونة وخصب في مفرداتها وتراكيبها وأساليبها التي يحتاجها الناطق بـها لإنجاح عملية الاتصال أو التعبير. فهي لغة ثرية بالألفاظ، إذا قصر لفظ في توصيل المعنى تداعت لك ألفاظ أخرى تسعفك لتتخير منها ما يؤدي غرضك، حتى أنك تستطيع من اللفظة الواحدة اشتقاق ألفاظ أخرى، فهي مطواعة مستجيبة بقدر إلمامك بفنونها، لكأنها الأم الولود الودود، تأذن لك بتوليد مفردات ومصطلحات تتفق وحاجة موقفك وضرورة عصرك، وتسمح لك بتعريب اللفظ الأجنبي، وتستقبل اللفظ الدخيل بصدر رحب؛ لأنها واثقة من قوتها.

فإن شئت معنى عقليا أو منطقيا محددا تجلت لك المفردات المناسبة، وإن شئت دلالة إيحائية تلميحية أو رمزية خدمتك طبيعتها المجازية، وإذا رغبت في التعبير الشعري ساقت لك ما تنشده من تراكيب موسيقية وأوزان إيقاعية تعينك على بث انفعالاتك، فهي لغة شاعرة تختزن مفرداتها ميزات شفافة من كبرياء الشعر ومن جماليات الأنساق الصرفية والنحوية والبلاغية ومن أبنية الحروف واتساقها بسبب تناسق المخارج وسعة سلالمها الصوتية. [ ص: 67 ]

إن تنوع حقول الدلالات في ألفاظ العربية جعلها قادرة على تبني المصطلحات العلمية والتعبير عنها بكل دقة وملاءمة، فانظر إليها كيف تطوع نفسـها لتقبل كل مصطلح في عالم التقنية أو الاقتصاد أو السياسة أو العسكرية أو الأدب أو الفن أو سائر أشكال المعرفة، تجيز للعلماء بـها الاجتهاد في الإضـافة والتعديل، فأنى استجرت بها رأيتها مجيبة ملبية حاجات العصر، وحاجات العلوم الإنسانية على اختلاف فروعها. ذلك أنها لغة مطبوعة على الفصاحة وعلى التعبير الدقيق عن المحسوس أو المجرد بكفاية لا مثيل لها.

وإزاء كل هـذه المزايا والخصائص في لغتنا العربية ألا يجدر بك أن تعتز بها وتحبها؟ أليس من حقها عليك أن تتذوقها وتستمتع بجمالياتها؟ أو ما كان حريا بك تعرف أساليبها البيانية وخصائصها في خدمة طرائق التعبير مهما تباينت فنونها؟

إن معرفتك بخصائص اللغة العربية تعني احترامك لذاتك قبل اعتزازك بلغتك، فلغتك العربية الجميلة لا تطلب منك شكرانا لها على جمالياتها بل تناشدك –إن كنت تحبها حقا– أن تتدانى منها وتتعلم فنونها بإخـلاص، فأنت بذلك إنـما تصقل شخصيتك وتنميها وتعدها لشئون الحياة، وأنت بذلك كذلك تعتز بلغة خير أمة [ ص: 68 ] أخرجت للناس. فاللغة كبرياء وسمو وقوة، ولا أحسبك ممن تهون عليهم نفوسهم، ولا ممن يتعاجزون عن الوفاء لثقافتهم، ولا ممن يواجهون مستجدات الحياة بلا حياة في اللغة العربية تأخذ بأيديهم إلى أسباب الفلاح.

إنني أعجب ممن يقبلون لأنفسهم ما يحل بهم من عجمة ولعثمة وحيرة وتردد وفشل؛ بسبب عجزهم عن التعبير اللائق بالعربية الفصيحة الميسرة. لغتك العربية بين يديك، قديمها العريق الموروث وحديثها المعاصر المتجدد الغني، فما الذي يحول دون أن ترد المنهل العذب وأنت صاحبه؟

فكل ما تحتاجه ليس إلا هـمة عالية ونية صادقة ومثابرة أكيدة، لكي تتشرع لك الأبواب المغلقة التي تأمل أن يكون في يدك المفتاح المناسب لـها جميعا، ألا وهو مفـتاح اللغة، وهو مفتاح لا يصدأ ولا ينكسر ولا يخون، مفتاح جميل عجيب هـا هـو أمام ناظريك، ينادي عليك. ولا أقول لك إلا كما " قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري «خذ الناس بالعربية، فإنها تزيد في العقل، وتثبت المروءة» " . [ ص: 69 ]

إن نظرة تأملية فاحصة لهذه العبارة ترينا مدى معرفة الفاروق بفلسفة اللغة العربية وخصائصها لكأنها عندما قال: «إنها تزيد في العقل» كان يدرك أنها أداة للتفكير، بها تكبر المدارك وتستجير الحواس، وعني بقوله: «وتثبت المروءة» أنها تحلي الناطق بها بفضائل لا حصر لها، فتهذب لسانه وتقوي شخصيته وتذكي بديهته وتنير عتمة قلبه.

وعليه، فإن من أفضل طرق تعليم اللغة وأيسرها وأقربها إلى مسايرة الطبيعة هـي أن نستمع إليها فنطيل الاستماع، ونحاول التحدث بها فنكثر المحاولة... فلو استطعنا أن نصنع هـذه البيئة التي تنطلق فيها الألسن بلغة فصيحة صحيحة، نستمعها فتنطبع في نفوسنا، ونحاكيها فتجري بها ألسنتنا، إذا لملكنا اللغة من أيسر طرقها، ولمهد لنا كل صعب في طريقها.



^[1] [ ص: 70 ]

الاتصال وجماليات اللغة العربية

مادة الاتصال مادة فكرية، وليست اللغة إلا الأداة المعبرة عن الفكر، وبمقدار ما تحمله هـذه اللغة من أمانة جمالية يكون تمام التوصيل؛ لأنها وساطة بين المرسل والمستقبل، فإذا أدت تلك الوساطة دورها المنشود نجح الموقف الاتصالي.

ولقد أنعم الله علينا بلغة عبقرية في خصائصها الجمالية المختلفة، وحسبنا تشريفا أنها لغة القرآن الكريم منبع البيان العربي الخالد:

nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=2 ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) (يوسف:2) .

وهي لغة تمتاز بقدرتها الفائقة على الإبانة، إذ نزلت على سيد البشر والمرسلين بلسان عربي مبين،

قال تعالى: nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=193 ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=194عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=195بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) (الشعراء:193-195) . [ ص: 66 ] وأيا كانت مسـتويات التعبير وأغراضه، فاللغة العربية تمـتلك ما لا تمتلكه لغة أخرى من جاهزية ومرونة وخصب في مفرداتها وتراكيبها وأساليبها التي يحتاجها الناطق بـها لإنجاح عملية الاتصال أو التعبير. فهي لغة ثرية بالألفاظ، إذا قصّر لفظ في توصيل المعنى تداعت لك ألفاظ أخرى تسعفك لتتخير منها ما يؤدي غرضك، حتى أنك تستطيع من اللفظة الواحدة اشتقاق ألفاظ أخرى، فهي مطواعة مستجيبة بقدر إلمامك بفنونها، لكأنها الأم الولود الودود، تأذن لك بتوليد مفردات ومصطلحات تتفق وحاجة موقفك وضرورة عصرك، وتسمح لك بتعريب اللفظ الأجنبي، وتستقبل اللفظ الدخيل بصدر رحب؛ لأنها واثقة من قوتها.

فإن شئت معنى عقليا أو منطقيا محدّدا تجلت لك المفردات المناسبة، وإن شئت دلالة إيحائية تلميحية أو رمزية خدمتك طبيعتها المجازية، وإذا رغبت في التعبير الشعري ساقت لك ما تنشده من تراكيب موسيقية وأوزان إيقاعية تعينك على بث انفعالاتك، فهي لغة شاعرة تختزن مفرداتها ميزات شفافة من كبرياء الشعر ومن جماليات الأنساق الصرفية والنحوية والبلاغية ومن أبنية الحروف واتساقها بسبب تناسق المخارج وسعة سلالمها الصوتية. [ ص: 67 ]

إن تنوع حقول الدلالات في ألفاظ العربية جعلها قادرة على تبني المصطلحات العلمية والتعبير عنها بكل دقة وملاءمة، فانظر إليها كيف تطوّع نفسـها لتقبل كل مصطلح في عالم التقنية أو الاقتصاد أو السياسة أو العسكرية أو الأدب أو الفن أو سائر أشكال المعرفة، تجيز للعلماء بـها الاجتهاد في الإضـافة والتعديل، فأنّى استجرت بها رأيتها مجيبة ملبية حاجات العصر، وحاجات العلوم الإنسانية على اختلاف فروعها. ذلك أنها لغة مطبوعة على الفصاحة وعلى التعبير الدقيق عن المحسوس أو المجرد بكفاية لا مثيل لها.

وإزاء كل هـذه المزايا والخصائص في لغتنا العربية ألا يجدر بك أن تعتز بها وتحبها؟ أليس من حقّها عليك أن تتذوقها وتستمتع بجمالياتها؟ أو ما كان حريا بك تعرّف أساليبها البيانية وخصائصها في خدمة طرائق التعبير مهما تباينت فنونها؟

إن معرفتك بخصائص اللغة العربية تعني احترامك لذاتك قبل اعتزازك بلغتك، فلغتك العربية الجميلة لا تطلب منك شكرانا لها على جمالياتها بل تناشدك –إن كنت تحبها حقا– أن تتدانى منها وتتعلم فنونها بإخـلاص، فأنت بذلك إنـما تصقل شخصيتك وتنميها وتعدها لشئون الحياة، وأنت بذلك كذلك تعتز بلغة خير أمة [ ص: 68 ] أخرجت للناس. فاللغة كبرياء وسمو وقوة، ولا أحسبك ممن تهون عليهم نفوسهم، ولا ممن يتعاجزون عن الوفاء لثقافتهم، ولا ممن يواجهون مستجدات الحياة بلا حياة في اللغة العربية تأخذ بأيديهم إلى أسباب الفلاح.

إنني أعجب ممن يقبلون لأنفسهم ما يحل بهم من عجمة ولعثمة وحيرة وتردد وفشل؛ بسبب عجزهم عن التعبير اللائق بالعربية الفصيحة الميسرة. لغتك العربية بين يديك، قديمها العريق الموروث وحديثها المعاصر المتجدد الغني، فما الذي يحول دون أن تَرِدَ المنهل العذب وأنت صاحبه؟

فكل ما تحتاجه ليس إلا هـمة عالية ونية صادقة ومثابرة أكيدة، لكي تتشرع لك الأبواب المغلقة التي تأمل أن يكون في يدك المفتاح المناسب لـها جميعا، ألا وهو مفـتاح اللغة، وهو مفتاح لا يصدأ ولا ينكسر ولا يخون، مفتاح جميل عجيب هـا هـو أمام ناظريك، ينادي عليك. ولا أقول لك إلا كما " قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري «خذ الناس بالعربية، فإنها تزيد في العقل، وتثبت المروءة» " . [ ص: 69 ]

إن نظرة تأملية فاحصة لهذه العبارة ترينا مدى معرفة الفاروق بفلسفة اللغة العربية وخصائصها لكأنها عندما قال: «إنها تزيد في العقل» كان يدرك أنها أداة للتفكير، بها تكبر المدارك وتستجير الحواس، وعني بقوله: «وتثبت المروءة» أنها تحلّي الناطق بها بفضائل لا حصر لها، فتهذب لسانه وتقوي شخصيته وتذكي بديهته وتنير عتمة قلبه.

وعليه، فإن من أفضل طرق تعليم اللغة وأيسرها وأقربها إلى مسايرة الطبيعة هـي أن نستمع إليها فنطيل الاستماع، ونحاول التحدث بها فنكثر المحاولة... فلو استطعنا أن نصنع هـذه البيئة التي تنطلق فيها الألسن بلغة فصيحة صحيحة، نستمعها فتنطبع في نفوسنا، ونحاكيها فتجري بها ألسنتنا، إذا لملكنا اللغة من أيسر طرقها، ولمهد لنا كل صعب في طريقها.



^[1] [ ص: 70 ]