أولا: أدبيات الكلام
الكلام صفة المتكلم، فبمقدار ما يكون الكلام محتويا على شروطه الموضوعية والأخلاقية، فإنك بالغ هـدفك منه، ومحقق نجاحا لائقا يكسب شخصيتك تأثيرا جميلا في الآخرين.
فالكلام أوسع طرائق الاتصال الأربع التي ينبغي للمرء أن يتقنها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فإن أتقنها غدت مهارة يمتاز بها، وفنا رفيعا يمهد سبل النجاح لصاحبه، ويعينه على إنجاز علاقات وثيقة وفاعلة مع الآخرين، فالكلام نظام لغوي مكتسب، وبمقدار مهارة الشخص في استخدام الكلام في الموقف اللغوي تكون فاعلية الاتصال، «فالنظام اللغوي وطريقة اكتساب اللغة يحددان بدورهما السلوك اللغوي للفرد في مجتمعه ومن ثم السلوك الاجتماعي في ذاته. ومن هـنا نجد أنه كلما ازداد الفرد توغلا في عضويته في المجتمع يزداد دور اللغة، لا في حياته الاجتماعية حسب، بل في سلوكه وإحساسه وتفكيره، بل إن عضوية الفرد الفاعلة في مجتمعه تعتمد اعتمادا مباشرا على قدرته على الاتصال بأفراد مجتمعه، وهو الدور الأساسي الذي تقوم به اللغة» .
[1] [ ص: 95 ] لا بد والحـالة هـذه من تعرف أدبيات الكـلام، التي نجملها في ما يأتي:
1- هـيئة المتكلم يندرج تحتها:
- ملاءمة اللباس لمقتضى الحال والمناسبة، فالمظهر اللائق ينبئ عن شخصية ذات حس جمالي يؤثر في مـدى تقبل المستمع للكلام، ويشير إلى احترامك لمقامه.
- أن يكون الوقوف أو الجلوس في أثناء الكلام مناسبا، يدل على اهتمامك بالمتلقي، فالإقبال بالوجه، واعتدال القامة، والاسـتخدام السـليم لملامح الوجـه وإشـارات اليد، ومواجهة المستمعين من المكان المناسب، تعد شروطا أخلاقية مهمة من الضرورة مراعاتها. [ ص: 96 ]
2 - صوت المتكلم ويقع تحته ما يأتي :
- وضوح الصـوت، وذلك بإخراج الحروف من مخارجـها لئلا تتشابك في الكلمة الواحدة أو الكلمتين المتتاليتين.
- ملاءمة المستوى النبري الصوتي؛ أي أن يكون ارتفاع الصوت أو خفضـه مناسبا لطبيعة اتساع المكان، وضيقه، وعدد المستمعين، وهو ما يعرف باللباقة النطقية الشخصية للصوت.
- التلوين الصوتي، وذلك باسـتخدام الضغط على بعض الحروف أو الإطالة فيها أو مدها، أو الإبطاء أو الإسراع في نطق العبارة حسب أهميتها في مضمون الكلام، بمعنى الانتباه إلى الإيقاعات الصوتية اللازمة من تفخيم وترقيق وغنة.
3 - طبيعة الكلام أول أهداف الكلام هـو الإفصاح والإبانة عن فكرة ما، بأفضل أسلـوب كلامي مناسب، ولذلك ينبغي مراعاة ما يأتي :
- مناسبـة الكلام لطبيعة الموقف أو الموضوع قيد الكلام.
- مناسبة الكلام للمستويات الاجتماعية والمعرفية عند المتلقين؛ فليس من السلامة أن يتحدث عالم لجاهل بكلام عالي المستوى في [ ص: 97 ] لفظه ومعناه فيحدث سوء التفاهم والفهم، أو أن يتحدث مرشد اجتماعي -على سبيل المثال– مع طبقة اجتماعية شعـبية بمصطلحات لا يفهمونها، فكلما ناسب الكلام مستوى المتلقي كان أنجع وأقوى تأثيرا.
- دقة إفصاح الكلام عن معانيه الظاهرة أو الخفية.
- الإيجاز من غير إخلال بالمعاني؛ لأن الإطالة والتكرار يذهبان برونق الكلام ويدعوان المستمع للملل والعزوف عن السماع.
- صحة البناء الكلامي، وتتضمن:
1 - سلامة اللغة نحوا وصرفا.
2 - تجنب العبارات والجمل الطويلة المشتتة لذهن المتلقي وتركيزه.
3 - تجنب الاستطراد والتفريع غير الضروري حرصا على محورية الفكرة.
4 - الإفصاح عن الأفكار بأسلوب رشيق غير ممل؛ وذلك بتزيين الكلام بالأمثال المؤثرة والأقوال المأثورة الموحية، بمعنى أن يكون الكلام بينا ودالا ولطيفا.
5 - استشعار الثقة بالنفس وامتلاك الشجاعة الأدبية في التعبير. [ ص: 98 ]
4 - أدبيات (المحادثة أو المحاورة) عندما يتكلم المتكلم إلى شخص آخر فإنما يكون مرسلا ومستقبلا في آن معا، فإرسـال الكلام واسـتقباله هـو ما يسمى «فن التخاطب»، وكي يكون التخـاطب ناجـحا يتعـين مراعاة ما يأتي:
- فهم الكلام من المتكلم، ولا يتحقق ذلك إلا إذا أحسنت الاستماع.
- الإقبال على المتكلم بوجه ينبئ عن اهتمامك بما تسمع، وأنك مصغ إلى محدثك بقلبك وعقلك وحواسك.
- تجنب مقاطعة محاورك قبل إتمام حديثه؛ لأن ذلك يبعث على استيائه ويشتت أفكاره.
- تجنب تكذيب المتكلم وتسـخيفه، فاحـترام وجهة نظره أمر توجبه حرية الرأي، لكنك تستطيع أن تدحض رأيه بلباقة دون أن تسيء له أو إليك.
- التأني قبل إطلاق التعميمات والأحكام، فالتلفت السريع إلى النتائج قبل تمحيصها يوقعك في الندم ويسبب لك الإحراج. [ ص: 99 ]
فكل من الحوار والنقاش والجدال والمناظرة والمحاضرة «يرسم صورة الشخصية في أذهان الآخرين، ومن يعجز عن التحكم في هـذه الملكة، التي حباها الله سبحانه وتعالى للإنسان، فإنها تكون مدعاة لفشله بل وقوعه في كثير من المزالق فقد جاء في الأثر أن مصرع الرجل بين فكيه، ( والرسول يقول: «إنما المرء بأصغريه ) أي بلسانه وقلبه
[2] .
وقال المهلب بن أبي صفرة : يعجبني أن أرى عقل الكريم زائدا على لسانه ولا يعجبني أن أرى لسانه زائدا على عقله.
[3] .
فإذا زاد اللسان على العقل ضعفت الحجة وقل التأثير، وسخر بك محاورك أو سامعك، وربما اضطررت إلى الجدل العابث الذي يسمونه الجدل البيزنطي والسفسطائي، وفي ذلك مضيعة للوقـت ولقيمة الموضوع قيد النقاش. فأنت عندما تتحدث إنما تكشف عن مداركك وطبيعة تفكيرك، فإما أن تشجـع (الآخر) على التواصل معك وإما أن يدعك وشأنك. [ ص: 100 ]
5- في فن التفاوض والتخاطب تستند حياتنا اليومية في تفاصيل وقائعها إلى الخطاب الحواري الشفوي استنادا كبيرا يفوق استنادنا إلى الخطاب المكتوب، فالنطق سبق الكتابة في أصل التكوين؛ لأن مهارة التعبير باللسان أقدم من مهارة الكتابة بالأصابع، فالأولى فطرية والثانية مكتسبة، وكذلك يظل التكلم أوسع انتشارا وفاعلية من الكتابة.
إن أحاديث الأفراد تحمل عادة الكثير من المعاني والانفعالات والاختلافات، وهذا يرجع إلى أن الفرد لا يعبر ليصوغ أفكارا حسب، بل إنه في الواقع يتكلم ليؤثر في غيره بانفعالاته إزاء موضوع معين، فالعبارات اللفظية هـي في الواقع ذات قيم انفعالية معينة، وهذا الشأن ملازم للفرد في شتى المواقف التي يقابلها في حياته.. فالجملة الواحدة يمكن أن تتميز بالعديد من انفعالات من ينطق بها في أثناء موقف ما
[4] .
فأنت تحاور طفلك في البيت لإقناعه بقـبول أمر ما، أو فعل شيء ما أو العدول عـن شيء ما، فتستخدم أسلوب حوار له سماته العاطفية والتربوية المعينة، وتستعمل في حوار زوجتك أسلوبا مناسبا [ ص: 101 ] ترى أنه الأفضل بحكم معرفتك بطبيعة فكرها، وكذلك تحاور والديك بطريقة وجدانية حميمة قائمة على صلتك الوثقى بهما وعلى تنفيذك لوصايا الباري – عز وجل – في برهما والتلطف في حديثك لهما:
( فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ) (الإسراء:23) .
فالله - سبحانه وتعالى – أرشدك بأسلوب النهي والأمر إلى أصول الاتصال بهما.
وأنت كذلك حين تحاور الآخرين وتفاوضهم، فإنما تنطلق في أساليب اتصالك بحسب صلتك بهم، وبحسب أهدافك من الاتصال، فيكون المستوى الفني لخطابك وحوارك ومفاوضتك متنوعا مرنا ذكيا حسب طبيعة المتلقي وطبيعة الموضوع.
الحوار نوعان:
الأول تلقائي فجائي، يأتي من خلال العلاقات اليومية، ولا يحتاج إلى تخطيط سابق، بل يتكئ على كفايتك الدائمـة من فن الاتصال وعلى خبراتك المكتسبة، وعلى طبعك الـذي فطرت عليه في حسن الاتصال.
والثاني حوار مخطط له، تكون قد أعددت نفسك له من قبل، فحددت أهدافك وأولوياتك ورسمت خطتك المقترحة في اتباع [ ص: 102 ] الأسلوب الملائم، الذي تتوقـع أن يأتي بأفضل النتائج. وهذا النوع من الحوار المدروس يحتاج إلى كفايات مكتسبة ورؤى مبرمجة إلى حد كبير.. ومن أشكال هـذا الحوار: الحوار الديني والتجاري والاقتصادي والسياسي والمعرفي الثقافي (العلمي والأدبي) وغير ذلك من الحوارات التي تتعدى حدود الأهداف الشخصية المحددة.
على أن كلا الحوارين، التلقائي البسيط والمبرمج المخطط له، ينبغي أن لا يتخلى عن السمة الإنسانية فيه، سمة احترام (الآخر) على الرغم من اختلاف الرأي. وقد ضرب أدب الحوار في صدر الإسلام مثالا مثاليا في ذلك، ومن أبرز الكتب الحديثة التي أنارت على أساليب المنهج الإسلامي في حوار (الآخر) كتاب «أدب الحوار في الإسلام»
[5] ، إذ أبان المؤلف مدى ارتباط المحاور المسلم بأخلاقيات العقيدة السمحة، فاتسمت حوارات الدعاة باللين الحازم حينا وبالحزم اللين حينا آخر، من غير حياد عن الهدف، ولا تخل عن أساسيات التعامـل البشري اللائق. إذ اقـتدى الدعـاة بمنهج سيد البشر صلى الله عليه وسلم فكانوا أسوة لمن تبعهم. [ ص: 103 ]
وفيما اطلعت عليه من مؤلفات قديمة وحديثة لعرب وأجانب في ميدان فن الحوار وتاريخه وأدبياته، فإن ما جاء فيها لم يتجاوز الأصول الإسلامية التي قعدت لهذه المهارة وأرست خطوطها العريضة، إلا ببعض الإضافات المرنة التي اقتضـتها ضرورة العصر الحديث على جميع الصعد ولا سيما السياسية والاقتصادية
[6] .
ومع أن العصر شهد أنواعا مثيرة من الحوارات السياسية والدينية إلا أن نظرية «الغاية تبرر الوسيلة» كان لها سيادة ملحوظة في كثير من الحوارات، التي اعتمدت مبدأ الخطاب الحواري المخاتل والمتخلي عن مبدأ الصدق وتقدير (الآخر) في أنانية مكشوفة، لكن في الغرب نفسه ثمة من يدعو إلى الحوار الأبيض ونفي مبدأ الهدف أولا والوسيلة أخيرا.
يقول د. حسن وجيه : « لعلنا نشير إلى أن أحدث هـذه الأدبيات الصادرة عن جامعة (هارفارد) هـو كتاب بعنوان ما بعد ميكافيللي وهو كتاب مثل العديد من الكتب والدراسات ترى أن التفاوض دون أخلاقيات إنسانية رفيعة يعني أن الإنسانية تشرع في حفر قبرها» .
[7] [ ص: 104 ]
فللحوار إذا أدبيات عالمية تجسدت خير تجسيد في الحوارات الديبلوماسية، ولا سيما في المجالات الاقتصادية. أما الحوارات السياسية والمفاوضات وحوارات الأديان أحيانا فقد غلب عليها تحيز أحد الطرفين لدولته أو دينه تحيزا مغلقا، وبخاصـة الطرف القوي اقتصاديا وعسكريا، إذ يريد هـذا الطرف أن يملي أو يفرض، بصيغة أو بأخرى، مطالبه ومبادئه على الطرف الأضعف، طمعا في مكاسب خفية، فإما أن يصل المسار التفاوضي إلى طريق مسـدود، كمثل حوار الفلسطينيين مع الإسرائيليين، أو يتوقف الحوار عند نقطة يراجع فيها الطرف الأضعـف نفسه ويهيء ثوابته لقبول شروط (الآخر) كمثل ما يحدث الآن بين رواد (العولمة) ودول العالم الثالث .
وأتوقف قليلا عند أحدث كتاب اطلعت عليه في موضوع أدبيات الحوار والتفاوض وهو كتاب «المفاوض المثالي»
[8] لمؤلف بريطاني اجتهد في تقديم خلاصة تجربته وحياته مع فن التفاوض، فكان أبرز ما في الكتاب تقسيم عملية التفاوض إلى أربع مراحل هـي: الإعداد، والتحاور، والعرض، والتساوم.. وأكد أن ثمة مرونة بين المراحل الثانية والثالثة والرابعة بحيث يمكن أن تحل إحداها قبل [ ص: 105 ] الأخرى. ويتراءى لي أن الكتاب جيد في مجمله، ويمكن أن يفيد منه الناس، ولا سيما في مجال التفاصيل التي تحتوي عليها كل مرحلة من المراحل الأربع وخاصة مرحلة الإعداد؛ فلقد بين الكاتب ضرورة تفصيل أهداف المحاور وبيان الأولويات، والمراجعة المستمرة لحيثيات التفاوض، والتنبه إلى الأخطاء التي ينبغي تجنبها، وغير ذلك من الاحتياطات اللازمة لتقوية الرأي.
إلا أنني أختلف قليلا مع المؤلف حين جعل التحاور مرحلة ثانية والمساومة مرحلة رابعة، فكلاهما -فيما أتصور- مرحلة واحدة وهي مرحلة العرض. وبذلك يمكن أن تكون المراحل على النحو الآتي:
- مرحلة الإعداد.
- مرحلة العرض ( التحاور ) .
- مرحلة المراجعة ومناقشة النتائج، سواء أكانت المراجعة ذاتية من الطرف لنفسه أو ثنائية بين الطرفين.
كما أرى أن المستويات العليا من التفاوض والحوار يمكن أن يكون الإعداد لها بالإجابة المسبقة عن الأسئلة الآتية: [ ص: 106 ]
1- لماذا أفاوض؟ أي بيان أهداف المفاوضات.
2- من أفاوض؟ أي تحديد الجهة التي ستفاوضها واستقراء معلومات نافعة عنها.
3- متى أفـاوض؟ أي تحديد الزمن المناسب لبدء الحوار، فاختيار الوقت بدقة عامل أساسي من شأنه أن يحقق أهدافا لم يكن يتوقع تحقيقها، فالمحارب الذكي مثلا إذا شعر بأن الخصم يساويه في القوة وأن الاسـتمرار في الحرب سيؤدي إلى مزيد من الخسائر من غير فائدة، فإنه يعرض التفاوض على الخصـم بطريقة ذكية.. والمحارب الذكي أيضا إذا أحس بأنه لا محالة خاسر فيستطيع أن يوهم الخصم ويحتال عليه ويجره إلى طاولة المفاوضات، كي لا يتكبد خسائر أفدح.
كما يحسن بالمفاوض أن يتحرى بدقة وقت بدء المفـاوضات، ووقت إنهائها، في ضوء مراجعته لقوى الحجج والبراهين والمعطيات لدى الطرف (الآخر) .
4- كيف أفاوض؟ أي وضع الخطط الحوارية اللازمة لإقناع الطرف الثاني والتأثير فيه، وتقسيم مسار التحاور إلى مراحل وفق المستجدات والنتائج، ويدخل في ذلك استخدام الأساليب اللغوية [ ص: 107 ] المتنوعة والمجدية في المناورة والتقديم والتأخير والتريث، لذلك ينبغي على المفاوض والمحاور أن يتمتع بخبرة لغوية كافية في علم المنطق والكلام، واستخدام التراكيب اللغوية التي تعزز رأيه، أو تجعل الخصم حائرا فتفتح في صلابته ثغرة يمكن المرور منها إلى الهدف من مثل طرح السؤال التالي على الطرف الثاني: هـل تظن أنني لو وافقـت على طلبك الثالث بأنك ستوافق على طلبي الأول ( وفي هـذه الحالة يكون طـلبك الأول أهم الأولويات) ، فعبارة هـل تظن عبارة مفتوحة غير مجزومـة بدقـة، فقد توقـع الطرف الـثاني في التردد أو الموافقة.
ومما لا شك فيه أن تحـديد الكيفية التي ستفاوض بها سيكون مبنيا لا على أولوياتك حسب، بل على طريقة تفكير (الآخر) واهتمامه المعروف لك سلفا.
وأرى أن مرحلة التهيؤ للمفاوضات، أي مرحلة الإجابة عن سؤال لماذا أفاوض، هـي المرحلة التي سينبني عليها مسار التحاور، ولذلك لا بد من دراسة النتائج المتوقعة وغير المتوقعة، وعرض افتراضات كثيرة لما يمكن أن يستجد على مسار الحوار، ففي ذلك قوة احتياطية تحول دون الخسارة. [ ص: 108 ]
فوفق طبيعة الهدف من الحوار تكون طريقة الحوار، فالمرحلة الأولى في الدعوة إلى الإسلام كانت سرية، ثم تدرجت بالعلانية شخصا لشخص، ثم جماعة لجماعة، أي اتباع أسلوب (الخطوة خطوة) ، ولما قوي المد الإسلامي ووصل إلى ذروته اختلفت صيغة الحوار فارتفع منسـوب الصيغ الحازمة فيها «الإسلام أو الجزية»، على سبيل المثال، على طريقة الصفقـة الكامـلة التي أشار إليها كيفن كنيدي
[9] .
لهذا كله تحرص الدول على إعداد مفاوضين متميزين لكل مناسبة ولكل هـدف، وتقدم لهم دورات تدريبية مكثفة في فن الحوار والتفاوض وفي التمكن من الأساليب اللغوية، والصيغ التعبيرية واللغة الإشارية، وغـير ذلك من أدبيات تلزم المفـاوض، وفـوق هـذا وذاك تختار الشـخص الذي يمتلك موهبة وطـبعا قويا في فن الحوار ثم تكسبه المهارات الاتصـالية الأخرى في أسـاليب التفاوض، وتعززه بثقافة (الآخر) وطريقة تفكيره، وتمده بالمعلومات الضرورية عن الموضوع. [ ص: 109 ]
ولعلنا نستذكر عبارة «الانسحاب من أراض فلسطينية محتلة» وكيف استثمرها الإسرائيليون في مفاوضاتهم مع الفلسطينيين الذين فاوضوا على أساس «الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة»، فحذف (أل) التعريف من كلمة (أراض) أعطى الإسرائيليين فرصة التمسك بحرفية الصيغة الإنشائية للعبارة بعد تحريفها.
إن حذق المتحدث أو المحاور أو المفاوض بأساليب التعبير وبدلالات الكلمات، ظاهريا ومجازيا وباطنيا، يساعده في بلوغ مرامه، ولعلنا نذكر من تراثنا الاتصالي قصة تلك المرأة التي قتل أحد جنود هـارون الرشيد ولدها وسرق ماله، فدخلت المرأة على الخليفة بكامل هـدوئها وهي تكظم في سريرتها ثورة غضبها فقالت:
السلام عليك يا أمير المؤمـنين. «أقر الله عـينيك، وفرحـك بما أعطاك، لقد حكمت فقسطت».
فظن الحاضرون أن المرأة تدعو للخليفة بالخير والفلاح، غير أن الخليفة وحده أدرك المعاني الخفية المتوارية وراء ظاهر الكلام. فقال: ويحكـم إنها تدعو علي بالثبور والهلاك. قال الحاضـرون: كيف يا أمير المؤمنين؟ قال: [ ص: 110 ]
فأما قولها: أقر الله عينيك أي أسكنهما عن الحركة، فهي تدعو علي بالموت؛ وأما قولها: فرحك الله بما أعطاك فتعني به قوله تعالى:
( إن الله لا يحب الفرحين ) (القصص:76) ؛
وأما قولها: لقد حكمت فقسطت فتعني به قوله تعالى:
( وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ) (الجن:15) .
فلم يفطن أحـد من الحاضرين إلى المعنى المعني في كلام المرأة ولا سيما قولها لقد حكمت فقسـطت. فالفعل قسط يعني (ظلم) أما إذا زيد بحرف الألف في أوله فيصبح [أقسط] أي عدل،
يقول جل وعلا: ( إن الله يحب المقسطين ) (المائدة:42)
إن سـؤال كيف أفاوض هـو السـؤال (التكتيكي) الأهم في نجاح حـوارك، فحرصك على أن تكـون مقـبولا لدى الطـرف الثاني، ومرنا، ومديرا جيدا لاسـتجاباتـك وانفعالاتك خاصة إذا قوبلت بسخرية ما أو استفزاز ما أو ابتزاز معين.
إن الإنسـان بفطرته وطبعه يسـتطيع أن ينجـح في اتصـاله في مواقف معـينة لكن الطـبع وحـده لا يكـفي، لذلك تأتي ضرورة اكتساب مهارة الحوار بالتدريب والممارسة والتطبيق [ ص: 111 ] والإعداد الجيد بالثقافة اللازمة من علوم النفس والاجتماع واللغة والسياسة والاقتصاد وعادات الشعوب وتقاليدها، وأصول ( البريستيج والإيتيكيت ) المتبعة والمتعارف عليها عالميا.
ولما كان الاتصـال الكـلامي أكثر أشكال الاتصال شيوعا فإن الحاجة إلى الثروة اللغـوية، بما فيها من أساليب بيانية ومفردات ملائمة ومصطلحات متفق عليها، وعبارات تتناسب وطبيعة الشخص المقابل، تغـدو أمرا ضروريا ورئيسيا في اكتساب مهارة الاتصال الكلامي، فضلا عن سائر أدبيات الكلام المذكورة آنفا.
فالكلمة عنوان الشخصية ومفتاح لفكر (الآخر) ، وأداة اتصالية جماعية تمثل أسلوب حياة، ولعل الفلاسفة القدماء كانوا أول من تنبه إلى دور الكلمة في صنع الشخصية وإعدادها للحياة، لذلك «رجا سقراط أن يكون تأثير الكلمة والبيان دائما أقوى، أي الكلمة الذكية المنحوتة في روح الإنسان المتعلم، الكلمة التي تستطيع أن تدافع عن موقفها بنفسها، وتعرف متى تقال ومتى تبقى صامتة».
[10] [ ص: 112 ]
فمشكلة النطق والكلام قضية قديمة متجددة، يعانيها الإنسان ويكابدها كلما احتاج إلى التعبير عن حاجاته، واضطره الموقف إلى التلفظ بما يجول في خاطره، ومعاناتها كبيرة... تعددت مظاهرها في المجتمع العربي على اختلاف بيئاته منذ القديم ولما تزل، حتى أصبحت ظاهرة مرضية خطيرة يشعر الناطق بسببها بالإخفاق والعجز مما يعود عليه بالحرج والنبز
[11] .
ولما كانت الكـلمة حـلية وميزة وقوة، فمن الأحرى أن يسعى الإنسان إلى التقوي بأسـاليب الكـلام العربي الفصـيح، الذي يؤازر شخصـيته وينميها ويدفعها إلى النجـاح المنشود. فمهما قيل في أدبيات التكلم فإن مدار القـول لن يتعدى المقولة العربية القديمـة في تعريف البلاغـة الكـلامية وهي: «مطابقة الكلام لمقـتضى الحال»؛ أو ما يجـب لكل مقام من المقال، حسب بشر بن المعتمر. [ ص: 113 ]