- سكرة الحلبي
واشتهر أيضا من أطباء العرب في الطب النفسي ومعالجته، الطبيب « سكرة الحلبي »، نسبة إلى مدينة حلب بسوريا، كانت له دربة في العلاج، وتصرف في المداواة. ومن أمثلة معالجاته النفسية ما يلي [1] :
كان للملك العادل نور الدين محمود بن زنكي جارية في قلعة حلب، يحبها كثيرا، ومرضت مرضا صعبا. وتوجه الملك العادل إلى دمشق وبقي قلبه عندها، وكل وقت يسأل عنها، فتطاول مرضها، وكان يعالجها جماعة من أفاضل الأطباء، وأحضر إليها الحكيم « سكرة » فوجدها قليلة الأكل متغيرة المزاج، لم تزل جانبها إلى الأرض، فتردد إليها مع الجماعة، ثم استأذن في الحضور إليها، فأذنت له، فقال لها: يا ستي أنا أعالجك بعلاج تبرئي به في أسرع وقت إن شاء الله تعالى، وما تحتاجي معه إلى شيء آخر. فقالت: افعل. فقال: أشتهي أن مهما أسألك عنه تخبريني به ولا تخفيني. فقالت: نعم. وأخذ منها إذنا فقال: تعرفيني ما جنسك؟ فقالت: علانية (قبيلة فارسية كانت تدين بالنصرانية) . فقال: العلان في بلادهم نصارى، فعرفيني إيش كان أكـثر أكلك في بلدك؟ فقالت: لحم البقر. فقال: يا ستي، وما كنت تشربي من النبيذ الذي عندهم. فقالت: كذا كان. فقال: أبشري بالعافية. [ ص: 141 ] وراح إلى بيته واشترى عجلا وذبحه وطبخ منه، وجلب معه في زبدية منه قطع لحم مسلوق، وقد جعلها في لبن وثوم، وفوقها رغيف خبز، فأحضره بين يديها، وقال: كلي. فمالت نفسها إليه، وصارت تجعل اللحم في اللبن والثـوم وتأكل حتى شبعت. ثم بعد ذلك أخرج من كمه برنية صغيرة، وقال: يا ستي هـذا شراب ينفعك، فتناوليه. فشربته، وطلبت النوم، وغطيت فرجية فرو سـنجاب، فعرقـت عرقا كثيرا وأصبحت في عافية. وصار يأتي لها من ذلك الغذاء والشراب يومين آخرين، فتكاملت عافيتها فأنعمت عليه، وأعطته صينية مملوءة حليا. فقال: أريد مع هـذا أن تكتبي كتابا إلى السـلطان وتعرفيه ما كنت فيه من المرض وأنك تعافيت على يدي. فوعـدته بذلك وكتبت إلى السلطان تشكر منه، وتقول له فيه: إنها كانت قد أشـرفت على الموت، وأن فلانا عالجـني، وما وجدت العافية إلا على يديه، وجمـيع الأطباء الذين كانوا عـندي ما عرفوا مرضي. وطلبت منه أن يحسـن إليه. فلما قرأ الكتاب اسـتدعاه واحترمه، وقـال له: هـم شاكرون من مداواتك. فقال: يا مولانا كانت من الهالكين، وإنما الله عز وجل جعل عافيتها على يدي لبقية أجل كان لها. فاستحسن قوله، وأغدق عليه العطايا.
في ضوء علم النفس الحـديث نجد أن «سكرة الحلبي» في علاجه لمحظية «نور الدين محمود» قد اسـتخدم: « نظرية الذات »، التي قال بـها [ ص: 142 ] « كارل روجرز ، C.Rogers» وتسمى أيضا بنظرية: « العلاج المعقود على المريض »؛ حيث أجرى مقـابلته مع المريضة في جو طليق سمـح، ولم يقـدم لها تشخيصا أو حلا للمشكلة، وإنما أدلى لها بنصيحة وأصغى إلى إجابتها عن أسئلته. وهذه الطريقة تختلف عن التحليل النفسي في أنه ليس من الضروري أن يفهم المريض أصل مشكلته في الطفولة، فكل ما يفعله المعالج إطلاق الحرية للمريض وتهيئة الجو للتعبير عن متاعبه [2] .
وهذه الطريقة لا تحتاج لعدد كبير من الجلسات وتستخدم في الحالات التي لا تحتاج إلى بحث عميق في الماضي، والتي لا ترتبط بطفولة المريض أو حياته البعيدة [3] .
وتجدر الإشارة إلى أن تغيير النمط الغذائي قد لعب دورا في تحسين حالة الفتاة، حيث تعافت بعد رجوعها إلى النمط الغذائي الذي تعـودت عليه في بيئتها الأولى، ومن المعروف أن هـناك علاقة وطيدة بين «الذوق والسرور؛ حيث إن الفرد قد يتعرض عند تغيير غذائه لما يعرف بـ: « مقت الطعام Taste - aversion»، وربما يستتبع ذلك فقدان الشهية وعدم السرور» [4] . [ ص: 143 ]