- الشيخ الرئيس ابن سينا
اعتنى ابن سينا بعلم النفس عناية لا نكاد نجد لها مثيلا لدى واحد من رجال التاريخ القديم والوسيط، فألم بمسائله المختلفة إلماما واسعا، واستقصى مشاكله، وتعمق فيها تعمقا كبيرا، وأكثر من التأليف فيه إلى درجة ملحوظة [1] .
ومع أن ابن سينا قد استعان كثيرا بآراء أرسطو إلا أنه قد أفاد أيضا من مصادر أخرى لم يستفد منها أرسطو، وعلى الأخص الدراسات الطبية والتشريحية لعلماء القرون التالية لعصر أرسطو. ومن هـنا نستطيع أن نفهم السبب في أن علم النفس السينوي يفوق في مواضع كثيرة علم النفس الأرسطي، الذي جرت العادة بين مؤرخي الفلسفة الأوروبية على اعتباره -تجاوزا أو خطأ- المثال الوحيد الكامل لعلم النفس القديم. والحق أن علم النفس السينوي هـو المثال الوحيد الكامل لعلم النفس القديم على العموم [2] .
ويعتبر ابن سينا [3] أول الفلاسفة القدماء الذين ربطوا وظائف الإحساسات والخيال والذاكرة بشروطها الفسيولوجية، كما أن له فضلا كبيرا في توضيح أوجه الشبه بين إدراك الحيوان وإدراك الإنسان. وإذا كان [ ص: 133 ] أرسطو قد سبقه إلى تصور النفس الحيوانية، لكن لم يسبق أحد ابن سينا في إلقاء الضوء الساطع على علم النفس الإنساني التجريبي. كما أدرك ابن سينا بوضوح تعقيد عملية الإدراك الحسي وتركيبها من عناصر متعددة متداخلة؛ إذ يبدأ الإدراك باستخدام الحواس، ثم الربط بين الأفكار الحسية المختلفة وكيفية إدراك المعاني التي ليست لها حواس خاصة كالشكل والحركة ونحوها، ولم يغفل دور الخيال والذاكرة في تكوين الإدراك الحسي.
ولعل أبرز ما يميز علم النفس السينوى ويجعله سابقا لعصره بشكل عجيب من جهة، كما يجعله من جهة أخرى يبدو عصريا إلى حد مذهل معالجته لمفهوم الوعي بالذات أو «الشعور بالذات» كما يسـميه هـو، فلم يسبقه أحد إلى هـذا المفهوم، حتى أرسطو نفسه الذي درس موضوع النفس البشرية باستفاضة كبيرة لم يشر إليه مجرد إشارة [4] .
ويتلاءم مذهب ابن سينا [5] مع النظرية السيكولوجية الحديثة الخاصة بالشعور وأقسامه، والتي يقبلها جمهرة المحدثين؛ حيث تجعل من الشعور قوة عاملة توحد الذات، وتجمع أطراف الشخصية، فيحس المرء أنه هـو في الماضي والحاضر والمستقبل. فيذهب ابن سينا إلى أن الشعور بالذات يصدر عن النفس بأسرها كوحدة مختلفة عن البدن متميزة عنه. وواضح أن هـذا [ ص: 134 ] «الشعور بالذات» يختلف تماما عن أي إدراك آخر، فالإدراك العادى قد يحدث وقد لا يحدث، أما «الشعور بالذات» فموجود دائما إلا أن صاحبه قد يكون واعيا به، وقد لا يكون «حتى أن النائم في نومـه والسـكران في سكره لا تغرب ذاته عن ذاتـه، وإن لم يثبت تمـثله لذاتـه في ذكره»كما يقول ابن سينا.
ويعترف عالم النفس الأمريكي « هـليجارد » صراحة بأن ابن سينا قد تعرف على ما يعرف اليوم باسم: الأمراض الوظيفية «Function Illnesses»، والتي تقال في مقابل الأمراض العضوية «Organic Illnesses». والأمراض الوظيفية : هـي أمراض نفسية الأسباب ونفسية النشأة «Psychogenesis»، وهي الأمراض التي لا ترجع إلى خلل أو أسـباب عضوية في جسد الإنسان أو جهازه العصبي أو الغدي؛ بمعنى أن المرض المنتج عن وجود تغيرات في الدماغ أو الجهاز العصبي المركزي يرتبط بهذا المرض قبل الإصابة. ولكن هـذه الأمراض الوظيفية تصيب وظيفة العضو وليس العضو ذاته كالتفكير بالنسبة للدماغ. ومن هـذه الأسباب الوظيفية أو النفسية الأزمات والكوارث، وخبرات الفشل، والإحباط، والحرمان، والقسوة، والخضوع لحالات من الضغط النفسي والاجتماعي، والتعرض للخبرات والصدمات النفسية.
وتشمل هـذه الأمراض الوظيفية كلا من الأمراض العقلية والنفسية؛ العقلية كالاكتئاب والفصام والهوس وجنون العظمة والاضطهاد. أما الأسباب العضوية للأمراض العقلية؛ فمنها إدمان الخمور أو المخدرات، ومنها [ ص: 135 ] الإصابات بمرض الزهري «Syphilis» والأورام، والإصابات الناجـمة عن الإصـابة بالأعـيرة أو الطلقات النارية. ومن المدهش أن يعترف عالم أمريكي من علماء النفس المعاصرين بفضل العلماء المسلمين، فيذكر أن الأمراض الوظيفية هـذه اكتشفها وأدركها وعرفها العلماء العرب، بل وعالجوها منذ أكثر من 900 عاما مضت، وخاصة الطبيب العربي الشيخ الرئيس ابن سينا [6] .
وينصح ابن سينا بالتزاوج بين العقاقير والوسائل النفسية في معالجة الأمراض النفسية، إذ يقول: «يجب مراعاة أحوال النفس من الغضب والغم والفرح واللذة وغير ذلك، فإن الأغذية الحارة مع الغضب مضرة، وكذلك البارد مع الخوف الشديد، أو اللذة المفرطة مضرة» [7] . هـذا النص يشير إلى أن ابن سينا أدرك -متأثرا بالرازي في قوله: فمزاج الجسم تابع لأخـلاق النفس- أن صحة البدن تابعة لاعتدال المزاج.
ومن الجدير بالاعتبار أن واحدا من أكبر علماء النفس الأمريكيين المعاصرين، هـو « جيمـس كولمان ، James C.coleman » يضمـن كتابه: «Abnormal Psychology andModern life» حالة مرضية نفسية عالجها ابن سينا بطريقة مبتكرة، أفادت علم النفس الحديث، يقول «كولمان» [8] : [ ص: 136 ] أصيب أحد الأمراء بالمالنخوليا، وظهرت من أعراضها عليه أن تخيل نفسه «بقرة» يجب أن تذبح ويتغذى الناس من لحمها اللذيذ. وكان هـذا المريض يخرج صوتا كصوت البقرة (الخوار) ، ويصيح: اذبحوني... اذبحوني. ولذا امتنع عن الطعام، الأمر الذي أدى إلى ضعفه وهزاله. ولما تم إقناع ابن سينا بعلاج هـذا الأمير، بدأ علاجه بأن أرسل إليه رسالة يبلغه فيها بأنه ينبغي أن يكون في حالة نفسية جيدة، حيث سيقدم الجزار قريبا لذبحه، ففرح المريض بهذه الرسالة، وهيأ نفسه -نفسيا- للذبح. وبعد فترة دخل عليه ابن سينا غرفته شاهرا سكينا كبيرا، وقال: «أين هـذه البقرة التي سوف أذبحها؟» فأجابه المريض بإصدار خوار البقرة كي يعرفه، فأمر ابن سينا بأن يطرح أرضا، وتقيد أيديه وأرجله، وبعد إتمام هـذا الأمر، تحسس ابن سينا كل جسمه، ثم قال: إنها بقرة نحيفة جدا لا تصلح للذبح الآن، يجب أن تتغذى وتسمن أولا، ثم أمرهم بإطعام المريض بأطعمة جيدة ومناسبة، فاكتسب المريض حيوية وقوة، الأمر الذي جعله يتحرر مما اعتراه من أعراض وهذاءات، وتم له الشفاء التام.
تكشف معالجة هـذه الحالة وتشخيصها عن كثير من الحقائق الطبية التي سبق فيها ابن سينا أطباء الغرب، منها [9] : أنه استخدم التفكير العلمي الموضوعي، ولم يكن هـناك مجال للسحر أو الشعوذة أو الخرافة أو القول بتلبس الأرواح والشياطين لجسد المريض. كما أن معالجته اتسمت بالطابع الإنساني والعلمي، ولم يخضع المريض لكثير من وجوه التعذيب والقسوة [ ص: 137 ] والسحل والكي بالنار، والتي كانت سائدة في الغرب آنذاك، وعلى ذلك فإن أسلوب ابن سينا في العلاج لم يكن الأسلوب الشائع في وقته، وإنما كان أسلوبا فريدا مبتكرا يتفق مع ظروف كل حالة مرضية، والحالة التي عالجها هـي «المالنخوليا،Melancholia» بأعراضها المعروفة. كما أدرك ابن سينا المقصود بمصطلح: الهذاء ، أو « الضلالة Delusion»، وتعرف على مضمون هـذا المصطلح، وما يقابله من أعراض من حيث اكتشافه أن مريضه كان يعتقد اعتقادا خاطئا بأنه بقرة، وأنه كان يصدر خوار البقرة لإقناع الناس بأنه بالفعل بقرة. والهذاءات أو الضلالات أحد الأعراض المميزة للذهان العقلي «Psychosis» أو المرض العقلي المرادف للجنون.
وقد أشار ابن سينا إلى حالة فقدان الشهية التي غالبا ما تصاحب حالات مرض الاكتئاب الذي ينبغي أن يعالج بالتدرج، وهو ما فعله ابن سينا؛ حيث أرسل رسالة إلى المريض يخبره فيها بأن الجزار سوف يأتي كي يذبحه كما يرغب، وكي يقدم من لحمه وجبة شهية. وتعد هـذه الخطوة ضرورية لتمهيد ذهن المريض لخطوات المعالجة، وكي يتوقع ما يحدث له بعد ذلك من تأثيرات. وبعد فترة من هـذه الرسالة أقدم ابن سينا حاملا سكينه في يده، ودخل على المريض غرفته، ويمثل هـذا الدخول رعشة أو رجفة خوف في ذهن المريض تشبه حاليا الصدمات الكهربائية التي تعالج بها حالات الذهان العقلي أو ما يعرف بـ: « العلاج بالصدمات ، ShocK therapy»، ومن ذلك يكون ابن سينا أسبق في استخدام هـذا المنهج، أو على الأقل أفاد به في العلاج النفسي الحديث. [ ص: 138 ]