المطلب الأول: السلطة القضائية واستقلاليتها
يدل القضاء في اللغة على عدة معان، من ذلك أن القضاء: الفصل والحكم. ويطلق في اللغة على وجوه مرجعها انقطاع الشيء وتمامه. وكل ما أحـكم عمـله أو أتم أو ختـم أو أدى أداء أو وجب أو أعلم أو أنفذ أو أمضى فقد قضى [1] .
وبالجملة فإن للقضاء في اللغة معان كثيرة، وهي في جملتها تدور حول الإلزام وانقطاع الشيء وتمامه والفراغ منه [2] .
واختلف الفقهاء المسلمون في تعريف المفهوم الاصطلاحي للقضاء اختلافا يصعب علينا حصره في مثل هـذا البحث، لذلك نكتفي بما انتهى إليه المالكية من تعريف لما له من صلة بموضوعنا، وهو أن القضاء: «إخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام، لما فيه من فصل الخصومات وإقامة الحدود ونصرة المظلوم» [3] .
ويلاحظ أن هـذا التعريف يفيد أن وظيفة القاضي كشف الغطاء عن الحكم الشرعي للمتخاصمين وإلزامهم به، فتنقطع الخصومات فيما بينهم، ومن المعلوم أن وظيفة القاضي إخبار المتخاصمين بالحكم وإلزامهم به. [ ص: 157 ] فالقاضي اسـم لكل من قضى بين اثنين وحكم بينهما، سواء كان خليفة أو سلطانا أو نائبا أو واليا أو كان منصوبا ليقضي بالشرع أو نائبا له [4] .
السلطة القضائية
إذا ما نظرنا في النظام الإسلامي وجدنا تدرجا في الأخذ بنظام الولايات النوعية، ذلك أنه في أول العهد بالإسلام كان النبي صلى الله عليه وسلم هـو المشرع والمنفذ والقاضي، فلا يمكن التحدث عن سلطات ثلاث مميزة، إذ لا يتصور أن توجد سلطة أخرى مع سلطة النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار أنه يتلقى الوحي عن ربه.
ولعل مما يدل على هـذا، ( حديث أبي هـريرة وزيد بن خالد الجهني ، رضي الله عنهما ، أنهما قالا: إن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله.. فقال الخصم الآخر، وهو أفقه منه: نعم، فاقض بيننا بكتاب الله، وأذن لي.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل.. قال: إن ابني كان عسيفا (أي أجيرا) على هـذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هـذا الرجم.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله.. الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب [ ص: 158 ] عام.. واغد يا أنيس إلى امرأة هـذا فإن اعترفت فارجمها.. قال: فغدا عليها فاعترفت، فأمر بها رسول الله (فرجمت ) [5] . ومعنى هـذا، في اعتقادنا، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع في يده السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية.
والغرض من تأسيس السلطة القضائية هـو الاضطلاع بمسئولية تسوية الخلافات والفصل في النـزاعات الناشئة بين الناس. فقد يختلف الناس ويتنازعون فيما بينهم ليس فقط من منطلق عدواني ولكن أيضا بسبب الاختلاف في الرأي بين الأفراد، كل حسب فهمه ومنطقه الخاص فيما يتعلق بأمر معين [6] .
في هـذا الصدد نشير إلى أن ولاية القضاء تعتبر من أهم ولايات الدولة، وأنها تهدف إلى غاية سامية هـي إحقاق الحق وإعلاء كلمة العدل [7] ، ولهذا فإن القضاء بمفهوم الدفاع عن الحقوق المغتصبة أو المعتدى عليها أو الحكم في النـزاع بين طرفين متخاصمين يشكل فريضة إسلامية مهمة يجب إقامتها بغية الحفاظ على العدالة [8] ، وبناء عليه فإنه يجب على الحكومة [ ص: 159 ] تأسيس السلطة القضائية لأداء هـذه المهمة وتوفير الضمانات الكفيلة باستقلالها [9] . ( فعن أبي هـريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الإمام جنة ) [10] يقاتل من ورائه ويتقى به [11] [12] .
استقلال السلطة القضائية
من الضمانات الأساسية التي تحرص الدساتير والقوانين الحديثة على إثباتها، مبدأ استقلال القضاء عن سائر سلطات الدولة، ذلك لأجل تأمين ما يلزم لإحقاق الحق من نزاهة وتجرد وجرأة، وضمان تحقيق أقصى حد ممكن من التعاون أو الانسجام بين السلطات لخدمة الصالح العام، ولاشك في أن هـذا التعاون يمكن أن يتحقق بدرجة أكبر فيما لو تولى مقاليد الأمور حاكم عادل تقي ورع غير منحاز. إن مقدرة القاضي على تحقيق العدل وإمكانياته الفقهية بهذا الصدد تعتبر أمرا حيويا وأساسيا، لذا فإننا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يثني على ذلك القاضي الذي يقضي عن روية وعلم ويراعي العدالة [13] . [ ص: 160 ] مع ذلك، كان القاضي في الدولة الإسلامية مستقلا عن سلطات الحكم، ومع أنه كان معينا من قبل الخـليفة أو من قبل قاضي القضاة فإنه لم يكن للوالي أن يعزله، بل كان الخليفة نفسه يتردد كثيرا إذا حدثته نفسه بالإقدام على عزل القاضي العادل حتى لا يتعرض لسخط الجماهير [14] .
وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد أن يكون القاضي في حكمه أيضا مستقلا تماما ولا يحكم إلا بما تمليه عليه عقيدته وتعاليم الشريعة الإسلامية [15] ومقتضيات العدالة نفسها.
وهذا الاستقلال قد أقره الفقه الإسلامي [16] في جميع مذاهبه من دون استثـناء، وقد طبق في تاريخ القضاء الإسلامي بصورة فعلية مستمرة. وكان لمبادئ الدين والأخلاق أثر كبير في تقوية هـذا الاستقلال بما لها من سلطان على النفوس وبما تدعو إليه من التقوى وصحوة الضمير ومن أمر بالعدل وبالمحافظة على الحقوق والأنفس والأموال.
ومن الأمثلة الجيدة التي تدل على أرقى ما يمكن أن يصل إليه استقلال القضاء في أي زمان ومكان قضية وقعت للخليفة عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه .. وخلاصتها أن عمر أخذ فرسا من رجل على سوم النظر، أي على سبيل [ ص: 161 ] التجربة، فحمل عليه عمر وعطب الفرس. ولما خاصمه الرجل مطالبا إياه بالضمان، تحاكما لدى القاضي شريح العراقي، فحكم القاضي على الخليفة قائلا: «أخذته صحيحا سليما فأنت له ضامن حتى ترده صحيحا سليما» [17] .
عمر الفاروق، رضي الله عنه ، يتحاكم مع خصمه إلى القاضي، كأي شخص عادي، ثم يحكم عليه القاضي فيخضع لحكمه. فهذا بلا ريب مثال عملي صريح لاستقلال القضاء الصحيح. وعلى كل حال، فتعيين القضاة بوساطة السلطة التنفيذية أو اختيارهم بالانتخاب من الشعب أو من الهيئة التشريعية لا يؤثر في ضرورة وضع القواعد الكفيلة بضمان استقلالهم، لأن القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون والضمير، لا يجوز شرعا لأية سلطة التدخل في القضايا أو في شئون العدالة [18] .
لقد كان القضاة في الإسلام يتمتعون بمنـزلة رفيعة ومهابة عظيمة.