المقدمة
نتعرض، على نحو يكاد يكون يوميا، إلى الاحتلال، والتهجم، والانتقاد، والسخرية، والقضم الجغرافي، ومص الدم في مختلف الجبهات. وليست اللغة العربية بمنجى من هـذا الهجوم.
ولست أبالغ إذا ما قلت: إن العربية صارت ميدانا يتدرب بالهجوم عليه كل من أمسك بالقلم، غـير مبقين لها على حرمة، ولا مقدرين ما حملته وتحمله من ذخيرة، وما تكتنـزه من كنوز. والملاحظ أن كثيرا من الكلام الذي يقال في انتقادها يتضمن معلومات خاطئة، تهدف إلى تصوير العربية لغة شاذة مملوءة بالغرائب والأعاجيب التي يتوجب علينا أن نبترها، والتي تنتهي -في واقع الحال- إلى اغتيال العربية نفسها ووأدها. ووجدت أن من الواجب التصدي لهذه التحديات التي تظهر نفسها على أنها صادرة من حرص، ومن حداثة ورغبة في التطوير.
وقد قسمت هـذا الكتاب إلى ثلاثة فصول. [ ص: 25 ]
تناول الفصل الأول «العربية ونفسية العربي» الدعاوى التي تربط بين العربية من جهة، ونفسية العربي من جهة أخرى، وكيف أن القائلين بهذا الربط يصورون الموقف وكأننا بإزاء تلازم بين مرض وجرثومة. وقد عرضنا لهذه الأفكار وناقشناها في كل جزئية من جزئياتها.
أما الفصل الثاني فمكرس للـ «الدعوة إلى العامية» ذكرنا فيه الحجج التي استند إليها الداعون إلى العامية، والردود عليهم، وتقويمنا لتلك الدعوة، ونوع المغالطات والأخطاء التي وقع فيها الدعاة.
أما الفصل الثالث فقد ناقش «اللغة العربية ومواكبة الحضارة»، أي اتهام العربية بعجزها عن مواكبة العصر، وأنها إنما تصلح للناقة والسيف والحب والغزل، وليست مهيأة لاستيعاب هـذه الحضارة بمنجزاتها العلمية ومخترعاتها الكثيرة.
وقد خصصت الخاتمة لمناقشة الصورة الشاملة، وتقويمي العام للكلام الذي ناقشت جزئياته، والهدف الذي يريد هـؤلاء الربابنة أن يقودوا سفينتنا إليه.
وقد عمدت، باستثناء حالات قليلة، إلى مناقشة جزئيات تلك الدعاوى جزئية جزئية، مناقشة فنية، سعت جهدها أن تكون مناقشة منطقية ومستندة إلى معطيات علم اللغة الحديث، والنحو العربي، وعلم النفس، والفلسفة. [ ص: 26 ]
ولا بد من الإقرار بأنني لم أزعـم بأنني تنـاولت كل ما قيل من نقد للغة العربية، وإن كنت قد تناولت قضايا كثيرة في هـذا الكتاب الصغـير. ولكننـي عنيت عناية لا بأس بها بالـ «منطق» الذي يقف وراء تلك الدعـوات، و «الافتراضـات الضمنية» التي تبطنـها. ذلك أن هـذا المنطق، وهذه الافتراضات، هـي التي يمكن أن تولد دعاوى مماثلة لما عرضناه. وقد قيل: الحقيقة واحدة، ولكن الأخطاء لا تنتهي. وقد عمدت جاهدا أن أوضح «منطق» الأكذوبة، وزيف افتراءاتها، كي يدرك القارئ، إذا ما واجه دعاوى مماثلة لم نتطرق إليها، أين يكمن موطن الخطل والخلل فيها.
حـاولت في هـذا الكتاب أن أعرض المسـائل باختصار، وعدم التوقف عند المسائل المعروفة، وجهدت أن لا أجعل من هـذا الكتاب طلسما لا يعرف القارئ هـل الخلل في قدرته على الفهم، أم صعوبة الفكرة نفسها، أم عدم قدرة المؤلف على التعبير عن نفسه، أم عدم هـضم المؤلف للفكرة أصلا. وأزعم أن طالبا في الدراسة الجامعية الأولية يستطيع أن يستوعب ما جاء في صفحات هـذا الكتاب، بالرغم من تنوع الموضوعات التي فيه.
وربما يلاحـظ القارئ أن عناية الكتاب موجهة للفكرة، وللرأي، لا للشخص الذي نادى بـها؛ لأن مهاجمتي للشـخص، وترك الفكرة، [ ص: 27 ] قد تشفي غليل أناس، ولكنها لن تنقض الفكرة التي لها حياة منفصلة عن صاحبها، ونحن معنيون بها، لا به. فالشخص قد يموت، أو يتخلى عن فكرته، ولكن الفكرة نفسها قد تبقى حية، أو تموت، أو تبعث.
وأود أن أشكر الأستاذ مروان العطية ، والسيد لؤي عبدالله ، لتوفيرهما لي مصادر كنت بأمس الحاجة إليها.
وسـأكون شاكرا كل الشـكر لمن ينبهني إلى خطأ، أو معلومات فاتتني أو ما شابه، وسوف أكون ممتنا إذا ما تفضل فأرسل إلي على البريد الإلكتروني الآتي: talibarahman@yahoo.com
والله من وراء القصد. [ ص: 28 ]