ثانيا: آراء الدكتور أبي زيد
عرض الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه «دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة» [1] مجموعة من الأفكار التي تمس اللغة العربية، وسنحاول تلخيص أفكاره تلك، في كتابه السالف الذكر [2] . إن الأسماء الأعجمية، مثل: بوش، وإبراهيم، تمنع من الصرف. من جهة أخرى يطلق اسم العجم والأعاجم على غير العرب- بما يحمل من [ ص: 38 ] دلالة عدم القدرة على النطق التي تعد صفة من صفات الحيوانات «العجماوات» – هـو من قبيل التصـنيف القيمي الذي يعطي العرب مكانة التفوق، كما يعطي للغتهم مكانة «اللغة» بألف ولام العهد، كأن ما سواها من اللغات ليس كذلك، وكأن من يتحدثون بلغة غيرها هـم بمثابة العجماوات التي لا تبين ولا تنطق.
هـذا التمييز بين العربي وغير العربي على مستوى بنية اللغة وعلى مستوى دلالتها ينبع منه تمييز آخر بين «المذكر» و «المؤنث» في الأسماء العربية. وهو تمييز يجعل من الاسم العربي المؤنث مساويا للاسم الأعجمي من حيث القيمة التصنيفية. فبالإضافة إلى «تاء التأنيث» التي تميز بين المذكر والمؤنث على مستوى البنية الصرفية، يمنع التنوين من اسم العلم المؤنث كما يمنع عن اسم العلم الأعجمي سواء بسواء. في هـذه التسوية بين المؤنث العربي والمذكر الأعجمي نلاحظ أن اللغة تمارس نوعا من الطائفية العنصرية لا ضد الأجانب فقط، بل ضد الأنثى من نفس الجنس كذلك. وهذا أمر سنلاحظ امتدادا له على مستوى الخطاب السائد المعاصر، حيث تعامل المرأة معاملة الأقليات من حيث الإصرار على حاجتها الدخول تحت «حماية» أو نفوذ «الرجل».
لا تقف آيديولوجية اللغة عند حدود التمييز المشار إليه، بل تمتد لتشكل العالم بكل مفرداته من خلال ثنائية المذكر/ المؤنث. فكل أسماء [ ص: 39 ] اللغة إما مذكر أو مؤنث، ولا مجال في اللغة العربية لما يسمى الأسماء المحايدة، أي: التي ليست مذكرا ولا مؤنثا، كما هـو الحال في بعض اللغات الأخرى كالألمانية مثلا. صحيح أن علماء اللغة يميزون بين المؤنث الحقيقي والمؤنث المجازي، لكن هـذا التمييز لا يعفي المؤنث المجازي من الخضوع لكل آليات التصنيف التي يخضع لها المؤنث الحقيقي [3] ، هـذا من جهة، ومن جهة أخرى لا نجد التمييز الحقيقي بين مذكر حقيقي ومذكر مجازي. وهو أمر يكشف عن تصور أن «التذكير» هـو الأصل الفاعل والمؤنث فرع لا فاعلية له. وبحكم هـذه الفاعلية للمذكر من حيث هـو الأصل، تصر اللغة العربية على أن يعامل الجمع اللغوي معاملة «جمع المذكر» حتى لو كان المشار إليه بالصيغة جمعا من النساء، بشرط أن يكون بين الجمع رجل واحد. وهكذا يلغي وجود رجل واحد مجتمعا من النساء، فيشار إليه بصيغة جمع المذكر، لا بصيغة جمع المؤنث.
وإذا كان من الممكن القول: بأن هـذا ليس شأن اللغة العربية وحدها، بل هـو شأن تشاركها فيه كثير من لغات الأرض، فإن هـذا القول لا ينفي الدلالات المستنبطة والظاهرة، بل لعله يؤكد تلك الدلالات على مستوى بنية الوعي الإنساني. وإذا كان الأمر كذلك على مستوى اللغة، فإنه ليس [ ص: 40 ]
كذلك دائما على مستوى وعي الجماعات التاريخية التي لا تكتفي بأن تكون حاملا سلبيا لوعي اللغة ولآيديولوجيتها. ففي بعض المجتمعات المعاصرة المتحدثة باللغة الإنجليزية، على سبيل المثال، ثمة وعي متزايد بآيديولوجية اللغة وبخطورة الخضوع لها، وثمة محاولات في التداول اللغوي لتجاوز هـذا الوعي بوعي مغاير. هـناك مثلا محاولات لتحاشي الإشارة للإنسان بشكل عام بضمير المذكر «he» وذلك باستخدام الضميرين على سبيل التبادل «she» or «he»، وهناك تحـاشي استخدام صيغة المذكر أو المؤنث في الإشارة إلى الوظائف، فلا يقال «chairman» بل يقال «chairperson». هـذا الوعي الجديد لا وجود له على مستوى الاستخدام المعاصر للغة العربية. ولعل في ذلك ما يؤكد أن مسألة غياب هـذا الوعي في الخطاب العربي هـو ما يعنينا هـنا أساسا، وهو غياب يمكن أن يفسره جزئيا التحول الذي أصاب آيديولوجية اللغة في بنيتها الأصلية، حيث صارت رؤية للعالم على مستوى الفكر.
إذا كانت اللغة تتعامل مع المرأة من منظور طائفي عنصري يساوي بينها وبين الأعاجم، فإنها إنما تعكس وعي الجماعة التي أبدعت تلك اللغة، ورغم أن الوعي لا يتطور بمعزل عن تطور وعي الناطقين بها، فإن لكل من نمطي الوعي تاريخه المستقل ومساره المتميز وأحيانا ما يتصادم الوعيان تصادما قد يؤدي إلى تغيير جوهري في بنية اللغة، وقد يفضي إلى انتصار بنية اللغة بوعيها التقليدي على الوعي الجديد. [ ص: 41 ]
أعترف للقارئ بأن هـناك صعوبة في رد أفكار هـذا الباحث، لا لأنها «صحيحة» أو «لا تدحض»، ولكن لأن هـناك ما يمكن تشبيهه بقفز الزانة عند الرياضيين. فالرجل يقفز من فكرة إلى فكرة أخرى، رابطا بين الاثنتين برباط سببـي وهمي. المسألة الثانية التي سنلاحظها هـو أن علينا أن نكيل بعشرين مكيالا كي نصل إلى هـدف حدده المؤلف مسبقا. فضلا عن هـذا، نجد اختصارا مخلا، وغير دقيق للجزئيات التي استند إليها.
فبالنسبة للمسألة الأولى، نود أن نشير إلى ما يأتي:
- الأسماء الأعجمية ليست ممنوعة من الصرف، بدليل أننا نقول: اشتريت تلفزيونا، ونظرت إلى تلفزيون، وهذا تلفزيون. والممنوع من الصرف هـو العلم الأعجمي، وليس مطلق الاسم، كما يوحي كلامه بذلك. أما إذا كان العلم الأجنبي مذكرا ثلاثيا ساكن الوسط، مثل: بوش، ونوح، وهود فعندئذ يصرف، خلافا لما ذكره الدكتور أبو زيد .
- أما ربط العربية بين الحيوان والأجنبي، مما سنناقشه، فأود أن أشير إلى أن اللغة اليونانية تعطي للأجنبي معنى: بربري [4] (هذا علاوة على معانيها الضمنية المعاصرة في الغرب!) . أما التفوق، فغريب حقا هـذا القول، لأننا نردد «ألا لا فضل لعربي على أعجمي ... إلا بالتقوى» [ ص: 42 ] [5]
وما شابه ذلك في الدلالة على المساواة، ولم نقل إننا شعب الله المختار، ولم يكن عندنا فلاسفة مثل هـيغل ، ونيتشة ...مهدوا لما ردده النازيون فيما بعد من أن « ألمـانيا فـوق الجميع»، وكانت غطرسـة الأمريكيين مدعـاة استهجان شارل ديغول الفرنسي، المسـيحي، الأبيض، وقس على هـذا الكثير مما لا يسعنا قوله.
- بالرغم من إشـارتنا في الفصـل الثالث إلى خطـورة افتراض وجود معـنى عام مشـترك بين معـاني الجذر الواحـد، نجد الجوهري في الصحاح يقول ما خـلاصته [6] «العجم، والعجم: خلاف العرب، وفي لسانه عجمة... والعجماء: البهيمة... وسميت عجماء؛ لأنها لا تتكلم. فكل من لا يقـدر على الكـلام أصلا فهو أعجـم ومستعجم. والأعجم أيضا: الذي لا يفصح ولا يبين كلامه، وإن كان من العرب... ومنه زياد الأعجـم الشاعر. والأعجـم أيضـا: الذي في لسانه عجمة، وإن أفصح بالعجمية... والأعجم من الموج: لا يسمع له صـوت، وصـلاة النهار عجماء، لأنه لا يجهر فيها بالقراءة... والعجم: النقط بالسواد، مثل التاء عليه نقطتان. يقال: أعجمت الحرف... واستعجم عليه الكلام: استبهم» . [ ص: 43 ]
نلاحظ مما سبق أن الخيط المشترك هـو عدم معرفة المراقب بما يسمع، يستوي في ذلك كلام الأجنبي، وعدم قدرة الحيوان على التعبير. والعكس من ذلك هـو الإيضاح الذي يتجلى في الإعجام الذي يزيل اللبس: فالحرف «ت»، بنقطتين، أزال احتمالات أخرى مثل الثاء، والباء..إلخ. ولو كان في هـذا الجذر إهانة لما وصفت صلاة النهار بأنها عجماء.
- أما اعتزاز العربي بلغته، فبودي أن أسأل: هـل هـناك أمة لا تعتز بلغتها؟ وهل المطلوب منا أن نخصص في حصصنا الدراسية مادة باسم رذائل العربية كي نكون أناسـا أسـوياء؟ وإذا كانت العربية لا يحـق لها ذلك، وهي بالمكانة التي عليها فعـلا، ودورها الحضاري العالمي، فما الموقف من لغات لما تكتب؟
أما بالنسبة للمسألة الثانية، وهي الربط القائم على النحو الآتي: الأعجم هـو الحيوان، والحيوان غير محترم، الأعجمي مشتق من الجذر نفسه، فالأعجمي غير محترم، ولأنه غير محترم، فهو ممنوع من الصرف، والمؤنث ممنوع من الصرف، إذا: المؤنث غير محترم. فهذا يشبه قولنا: هـناك حيوان يبدو أنه من الزواحـف، ومن ثم يحتمل أن يكون سـاما، وبما أن السحـلية من الزواحـف، فلا بد أن تكون هـي أيضـا سامة. ولا أدري أي منطق هـذا؟
فضلا عن ذلك، نود أن نشير إلى ما يأتي: [ ص: 44 ]
أ- المؤنث غير ممنوع من الصرف [7] على إطلاقه، كما قد يوحي كلامه. فنحن نقول: رأيت كتبا جميلة، ونظرت إلى وردة جميلة (إلا إذا كان الوزن مانعا له، مثل: حمراء) . أما الممنوع من الصرف من المؤنث فهو العلم المؤنث. والعلم جزء ضئيل من الأسماء. ومن ثم نقول: جميلة طالبة مجدة (فنمنع «جميلة» لأنها علم، ونصرف الصفتين بعدها، مع ملاحظة جواز صرف العلم المؤنث، إذا كان عربيا، ثلاثيا، ساكن الوسط، مثل: هـند، دعد) .
ب- الأسماء الممنوعة من الصرف متعددة، ومنها المذكر، وصفات المذكر (أحمر، جوعان...) ولا يمكن إيجاد رابط بينها في المعنى يجعلها ضمن الأسماء المحبذة أو المنبوذة عند العرب. ويكفي أن نشير في هـذه المسألة إلى ما يأتي:
- إن صيغة منتهى الجموع (وقد شرحناها في الفصل الثالث) كافية وحدها لمنع الصرف، بمعزل عن مضمون المجموع: مساجد، مزابل، أباطيل، أعاجيب (لاحظ الفرق في المعاني) .
- هـناك أعلام ممنوعة من الصرف تمثل أشخاصا ذوي قيمة خاصة عند العرب: عدنان، قحطان، يعرب، إسماعيل، مضر، عمر، عثمان... [ ص: 45 ]
وكما نرى، فقسـم من هـؤلاء أجـداد العرب. فضلا عن ذلك نجد معظم أسماء الأنبياء ( عيسى ، موسى ،...) والملائكة ( جبريل ...) ممنوعة من الصرف. - هـناك أسماء كثيرة بجمعين، أحدهما ممنوع من الصرف، والآخر مصروف فهل يحترم جمع، ولا يحترم آخر؟ مثال ذلك:
الاسم جمع مصروف جمع ممنوع من الصرف كريم كرام كرماء زنديق زنادقة زناديق سلطان سلاطنة سلاطين
- هـناك أسماء مصروفة، ولكنها تمنع من الصرف إذا سمينا بها أشخاصا، مثال ذلك: صفوان ( مصروف، ولكنه يمنع من الصرف إذا كان اسم شخص) ريحان (مصروف، ولكنه يمنع من الصرف إذا سمينا به شخصا) ، سلطان..هناك أسماء كثيرة مفردها مصروف، ولكن جمعها ممنوع من الصرف، مثال ذلك:أديب - أدباءصديق - أصدقاءمكتب - مكاتب [ ص: 46 ] - إن مضينا في هـذا المنطق، أي: الربط بين حرمان الممنوع من الصرف من الكسرة والتنوين من جهة، وقلة قيمته من جهة أخرى، فإن من شأن ذلك أن يجرنا إلى القول: بأن المبني أقل قيمة من الممنوع من الصرف، وأن المبني على حركة (هؤلاء، حيث...) أعلى قيمة من المبني على السكون (من، كم...) . وأعتقد أن هـذه النتيجة تقترب من السخف العقلي، لا غير.
أما بالنسبة للمسألة الثالثة، فأعتقد أن كلامه، في عمومه، صحيح في هـذا الاستقطاب في العربية: الاسم إما مذكر وإما مؤنث. أما كون الألمانية أكثر منطقية في احتوائها جنسا محايدا، علاوة على المذكر والمؤنث، فهذا واحد من الفخاخ التي يقع فيها المرء حينما يطلب من «منطق اللغة» أن يتطابق مع «منطق العقل». ولن أذهب بعيدا في ضرب الأمثلة، ولكن أين المنطق في تأنيث الأعداد من 3-9 مع المعدود المذكر في العربية، وتأنيثه مع المعـدود المذكر؟ ولماذا يبدأ الجمع عندنا بثـلاثة ولا يبدأ بخمسة، مثلا (وقل مثل ذلك عن اللغات الأوربية) ؟
إن ما يصطنعه باحثون من هـذا النمط هـو أنهم يصلتون سيوفهم باحثين عن «لا منطقية» العربية، وإعطاء تلك اللامنطقية أبعادا اجتماعية ونفسية. وبودي أن أسأل: أين المنطق في الألمـانية، التي أشار الدكتور أبو زيد إلى منطقيتها، حينما تعطي ثلاثة أجناس للمحيط أو البحر في الكلمات الآتية: [ ص: 47 ]
Der Ozean مذكر
Die see مؤنث
DasMeer محايد
أما إلغاء وجود المرأة، وجعل المذكر ينوب عنها في دلالته على العموم، فسنشير إلى أمر شائع في العربية والإنجليزية (ومن ثم لا داعي لذكر النص باللغة الإنجليزية [8] ) . ففي الجملة الآتية:
الكلب حيوان وفي
سنفهم من الجملة أن «الكلب» يشير إلى «عموم الكلب» بمعزل عن كونه ذكرا أم أنثى، بحيث يستطيع الجمع أن يحل محل المفرد، فيقال: الكلاب حيوانات وفية، من غير تغيير للمضمون. أما إذا قلنا: الكلبة حيوان وفي، فإن هـذا سيعني أن الكلب الذكر ليس كذلك. بعبارة أخرى: دل المذكر على العموم، بيد أن المؤنث لم يدل على العموم. ومثله في ذلك بقية الأسماء، مثل: شخص، إنسان،..إلخ.
وإن كنا نجد أحيانا العكس في العربية، أي: اتسام المؤنث لفظا بالعمـوم: مثل: أروية، ببغاء، بطة، حمامة، دجاجة...إلخ، حيث دل المؤنث اللفظي هـنا على المذكر والمؤنث، ولذلك نقول: بطة أنثى، وبطة ذكر، للتمييز. [ ص: 48 ]
وهاهنا قضية لا بد من التنبيه إليها: التذكير والتأنيث شكلان في العربية، وليسا مضمونين. فقد يتوهم من يقرأ كتابات الدكتور أبي زيد أن التذكير والتأنيث يمثلان مضمونين، وكل مضمون يحتل منـزلة محددة في ذهن العربي (احتراما أو امتهانا) ، ولكل مضمون شكل محدد يختلف عن شكل المضمون الثاني. بعبارة أخرى: يوحي كلامه بأن هـناك معاني غير محترمة تأخذ شكلا يرتبط هـو الآخر بعدم الاحترام، وهو التأنيث، وعكسه التذكير. وهذا غير صحيح. وسنذكر بعضا من مواضع التأنيث في العربية للدلالة على أن من الخطأ إصدار حكم عام على كل ما هـو مؤنث في العربية، وأن قسما من المؤنث في صيغته ليس مؤنثا في مضمونه. وسنشير إلى جانب من ذلك:
- تأتي التاء للمبالغة (علامة، نسابة، راوية...) .
- تأتي التاء مع بعض الأعلام الذكور (عنترة، معاوية، قتيبة...) .
- تأتي التاء لإعطاء مفرد لاسم الجنس (تمر- تمرة، تفاح - تفاحة، مع ملاحظة أن الجمع مذكر والمفرد مؤنث) .
- تؤنث معظم جموع التكسير، ويشمل ذلك ما كان مفرده مذكرا (كتاب - كتب، مسجد - مساجد) .
- تؤنث بعض الأسماء المذكرة عند جمعها جمع مؤنث سالما: جنرالات، رجالات، استشعارات... [ ص: 49 ]
- تأتي التاء مع المصدر الصناعي (إنسانية، عالمية، مشروعية...) .
ومع إكبار الدكتور أبي زيد للحياد ووصفه بالعقلانية، فإنه لم يلتفت إلى حيادية ألفاظ عربية تستخدم بصيغة واحدة للمذكر والمؤنث، مثل: من، وما، وأي في الموصول. ويقترب من ذلك الأوزان المحايدة التي تستخدم للمذكر والمؤنث من غير تغيير مثل: فعيل بمعنى مفعول (مثل: جريح بمعنى مجروح، فيقال: امرأة جريح، ورجل جريح ) ، وفعول بمعنى فاعل (مثل: صبور، بمعنى صابر) ، وغير ذلك من الأوزان التي يستوي فيها المذكر والمؤنث [9] .
ويلاحظ «هنري فليش» أن هـناك أسماء مذكرة لها مرادفات مؤنثة [10] ، مثال ذلك:
- دار (مؤنثة) بيت (مذكر)
- بلدة (مؤنثة) بلد (مذكر)
- سن (مؤنثة) ناب (مذكر)
يضاف إلى هـذه المسائل المذكورة هـو أننا نجد اسمين، مثل العين والأنف، كل منهما جزء من الوجه، وبالرغم من ذلك نجد العين مؤنثة [ ص: 50 ]
والأنف مذكرا [11] . ونجد في العربية الحديثة دخول الكثير من الألفاظ المؤنثة الدالة على المخترعات والمبتكرات الجديدة، بحيث وصلت نسبتها إلى 37.5% (مثل: طيارة، دبابة...) [12] . فأين عدم الاحترام؟
ولا بد أن نشير إلى أن الفرنسية تستقطب أيضا الأسماء، فالاسم، على العموم، إما مذكر وإما مؤنث. وتمضي الفرنسية إلى أبعد من العربية فتفرق في حرفي التعريف والتنكير بين المذكر والمؤنث. فنجد «le» لتعريف المذكر و «la» لتعريف المؤنث، و «un» لتنكير المذكر و «une» لتنكير المؤنث.
وإذا صح منطق الدكتور أبي زيد فلا ريب أن الفرنسيين أكثر تحيزا للمذكر من العرب.
وليست الإنجليزية بمنأى عن اتهامها بالتحيز لصالح التذكير، كما قد يتوهم. وقد مر بنا اعتبار المـذكر عاما يدل على الجنسين. فضلا عن ذلك، فالإنجـليزي يفترض في كلـمات مثل doctor ,professor, ... أن يكون صاحـبها رجلا، في حـين أنه يفترض في الوظائف الآتية nurse elementary school teacher ... أن يكون المقصود بها امرأة (ممـا يدل على ديمومـة النظرة التقـليدية إلى الفروق بين الجنسين) . [ ص: 51 ]
كما يلاحظ أن ألفاظ الشتائم الخاصة بشتم المرأة أكثر من ألفاظ الشتائم الخاصة بشتم الرجل. وكثير من الألفاظ العامة (مثل: رجل الشارع..) تستخدم بصيغة المذكر للدلالة على الجنسين. فضلا عن ذلك المرأة تتسمى باسم زوجها، ولا عكس. ونجد المذكر في عدد من الألفاظ خاليا من العلامة، أي: هـو الأصل، في حين يزاد على المؤنث زيادة لفظية، ومن أمثلة ذلك:
- Prince – princess (أمير - أميرة)
- Count- countess (كونت -كونتيسة)
- Host – hostess (مضيف - مضيفة)
وغير ذلك [13] .
وحينما قويت الحركة النسوية في أوربا ، أخذت بتقصي مظاهر التحيز ضد المرأة في ميادين عدة (العمل، الأدب..) وكانت اللغة ضمن تلك الميادين [14] . ونتيجة لضغط تلك الحركة بدأ بعض الكتاب يتجنبون استخدام بعض الكلمات الإنسانية المذكرة للدلالة على الجنسين (لا كلها، [ ص: 52 ]
كما رأينا) ، مثل استخدام الضمير المذكر «he» للدلالة على الإنسان عموما. ولذا اتبعوا أساليب مثل «He/she» أو «s/he». ومن ثم ليس كلام الدكتور أبي زيد دقيقا في إيحائه أن اللغة الإنجليزية تغيرت لتعبر عن هـذا التغيير في الرؤية إلى المرأة. وأطلب منه، بكل احترام، أن يأتي بنص إنجليزي مكتوب في النصف الأول من القرن العشرين أو قبله، لا يستخدم الضمائر المذكرة للدلالة على الجنسين.
المسـألة التي لا بد أن نأخذها بعـين الاعتبار هـو بروز الوجود الفعلي للنسـاء في مراكز معينة (كأن تكون في سـلك الشرطة مثلا) فلـم يعـد بالإمـكان تسمـية المرأة في الشرطة بـ policeman وإنما policewoman. وبما أن هـناك احتمال عدم معرفتنا بجنس الشخص، أو عدم اهتمامنا بجنسه – من جهة، وتوفير اللغة الإنجليزية لآلاف الكلمات التي تصلح للجنسين (مثلperson ) من جهة أخرى، فلا بأس من استخدام تلك الكلمـات المحـايدة، فنقول chairperson مما يصلح للجنسين، بحيث نأمن الخطأ، خاصة عندما لا نعرف جنس الشخص. (ومثل ذلك وجود صيغةms لمخاطبة المرأة المتزوجة وغير المتزوجة، مما يريح من لا يعرف الحالة الزوجية للمرأة) .
نخلص من هـذا العرض الموجـز إلى أن الإنجـليزية لم تفعل ما فعلته إلا بفعل التغير في الواقع الاجتماعي، وضغط الحركة النسوية. وقد اقتصر [ ص: 53 ] التأثير اللغوي للحركة النسوية في الألفاظ الإنسانية المذكرة (مثل he) للدلالة على الجنسين. وقد ساعد في ذلك طبيعة الإنجليزية أصلا، في حيادية ألفاظها، كما ذكرنا. فالتغيرات التي جرت في الإنجليزية لا تزيد على الاختيار، وليس التغيير في البنية، كما قد يظن. لكن هـذا التغيير الطفيف لم يلو عنق اللغة الإنجليزية في المجالات كلها (كما رأينا في كلمة كلب وما شابهها) ولا عنق اللغات الأوربية الأخرى، بالرغم من انتماء الجميع إلى الثقافة الأوربية، وبالرغم من أن أكثر اللغات الأوربية، باستثناء الإنجليزية، تميز بين المذكر والمؤنث.
ويشير بعض علماء اللغة إلى أن تمييز الجـنس قد يصل في بعض لغات العالم إلى ثمانية أو عشرة أصناف. والأشيع بين لغات العالم هـو صنفان أو ثلاثة [15] .
ولا بد لنا أن نشير إلى أن هـذا الربط بين الوعي الاجتماعي والوعي اللغوي، وما بينهما من صراع، هـو -باختصار- كلام لا سند له من الواقع. فعمر اللغة الفرنسية يبلغ حدود 500 سنة، فهل بقي الوعي الاجتماعي كما هـو عبر القرون؟ وهل منع الوعي اللغوي الوعي الاجتماعي من التطور؟ وهل استطاع الوعي الاجتماعي الفرنسي لي عنق [ ص: 54 ]
اللغة الفرنسية؟ الجواب واضح. لقد تطور المجتمع، ولكن اللغة حافظت على جوانب معينة هـذا أحدها.
بعد أن ناقشنا قول الدكتور أبي زيد بخصوص اللغة الإنجليزية، وإشارتنا إلى وجود التذكير والتأنيث في معظم اللغات الأوربية، يبقى السؤال عن علاقة وجود التذكير والتأنيث باللغة بالموقف من المرأة. فنحن بإزاء واحدة من اثنتين: إما أن تكون هـناك علاقة بين وجود التذكير والتأنيث في اللغة وموقف المجتمع المعني من المرأة، وإما أن لا تكون. فإذا كانت هـناك علاقة، فهل نجعل وجود التذكير والتأنيث في اللغة دلالة على اضطهاد المرأة أم عدم اضطهادها؟ وكيف نفسر تقارب الثقافة واختلاف اللغة (كالذي رأيناه من اختلاف الإنجليزية عن لغات أوربية أخرى، ولكنها متماثلة معها ثقافة) ؟ وهل التطرف في التمييز اللغوي (كما وجدنا في الفرنسية) يدل على موقف حضاري من المرأة أم لا؟ وإذا دل، فهل يدل على موقف معاد للمرأة أم مؤيد لها؟ إن المؤلف يريد منا أن ننتقل من معيار إلى آخر، كما يفعل الرياضـيون في قفز الموانـع، كي نصـل إلى ما يريده هـو، لا إلى الحقيقة. ففي كلامه الأخير يحاول أن يستدرك على لغات ذوات ثقافة غربية من جهة، وتميز لغويا بين المذكر والمؤنث من جهة أخرى. إن هـذه الطريقة في المحاكمة تريد أن تقول شيئا موجودا أصلا في رأس الشخص، ثم يعمل على التقاط ما يمكن أن يعد دليلا، فإذا [ ص: 55 ] كان الدليل نفسه يمكن استخدامه بما ينقض الدعوى، قيل لنا: إن ذلك الدليل ليس قاطعا، كي يمكن استخدامه باتجاه واحد فقط.
ومن الغريب حقا أن يتجاهل هـذا النوع من المنطق أشياء كثيرة معروفة. فاللغة العربية لم تتكون قبل خمسين سنة، وإنما انحدرت من لغة سامية يرجح أنها هـي الأخرى عرفت التذكير والتأنيث (بدليل وجود التذكير والتأنيث في العبرية والسريانية وغيرهما) . فإذا دخل قالب التذكير والتأنيث إلى اللغة فلن يتركها إلا بعد تطور هـائل تبدو حتى القرون قليلة أحيانا في احتساب الزمن الذي يستغرقه. ويبقى السؤال: لماذا أنثت اللغة السامية الأم الأرض والشمس والسماء...وذكرت أسماء أخرى؟ إن معرفتنا بالجواب المؤكد لن يفيدنا إلا في معرفة الفكر الذي كان يحكم ويبطن أصحاب اللغة الأصليين، لا فكرنا نحن الآن. فنحن ورثة اللغة، ولسنا صناعها. وهذا الفكر القديم الذي شكل اللغة قد يتبدل، ولكن اللغة نفسها قد تحافظ على ما عندها [16] .
ويبقى احترام المرأة، الذي أشير إليه، مفهوما غير موضح، بحيث إن مناقشته قد تنتهي إلى أن نكتشف أننا نتحدث عن لفظ «الاحترام» والمراد به أشياء أخرى. فنحن لا نعرف، بالدقة، ما يقصد بالموقف من المرأة، وما معايير احترامها، فيكتفى بالعموميات من غير تحديد. [ ص: 56 ]
وقد سكت عن مناقشة مسألة احترام الغرب للمرأة، وعدم احترام الشرق لها؛ لأن الكتاب مكرس للغة وحـدها. ولكن حبذا لو انتبهنا إلى ما أشرنا إليه وهو كثرة ألفاظ الشتائم الموجهة للمرأة قياسا بالموجهة للرجل، علاوة على المظالم الحقيقية (وليس الصبغ الإعلامي) التي تواجه المرأة الغربية (في مقابل الاحترام الشكلي) .