التطور الدلالي لمفهوم الحاكمية
المبحث الأول: تفكيك مفهوم الحاكمية لغويا
لمعرفة حقيقة هـذا المفهوم والدلالات التي يحملها لابد من تفكيكه على عدة مستويات: اللغة، القرآن، السنة، كي يتأتى للباحث الخروج ببعض النتائج التي تساعد على فهم أدق لمعاني الحاكمية .
المستوى الأول: معاني الحاكمية في اللغة
الحاكمية [1] مصدر صناعي يرجع لفهم دلالته اللغوية والمعاني التي [ ص: 31 ] يحملها في لسان العرب إلى جذره اللغوي (ح.ك.م) [2] .
والحكم في اللغة يأتي بعدة معاني وهي: [3]
1- القضاء: وذلك بضم حاء «الحكم» وجمعه أحكام، تقول حكم بينهم يحكم أي قضى، وحكم له وحكم عليه. وقال الأزهري : الحكم القضاء بالعدل. [ ص: 32 ]
2- المنع: يقال حكمت عليه بكذا إذا منعته من خلافه فلم يقدر على الخروج من ذلك، والعرب تقول: حكمت وأحكمت وحكمت بمعنى منعت، ومن هـذا قيل للحاكم بين الناس حاكم، لأنه يمنع الظالم، وجعل الراغب الأصفهاني أصل الحكم المنع لغرض الإصلاح. [4]
3- الرد والرجوع: تقول حكم فلان عن الأمر والشيء أي رجع، وأحكمته أنا أي رجعته، وأحكمه هـو عنه رجعه.
4- الفصل: تقول حكمت بين القوم إذا فصلت بينهم.
5- المحاكمة: المخاصمة إلى الحاكم، واحتكموا إلى الحاكم وتحاكموا بمعنى واحد. [5] [ ص: 33 ]
6- الإتقان: أحكمه أتقنه فاستحكم، وأحكم الأمر أتقنه، وكل شيء وثقت صنعته فقد أحكمته، ويقال للرجل إذا كان حكيما قد أحكمته التجارب. والحكيم: المتقن للأمور.
7- التفويض: حكمت الرجل، بالتشديد، فوضت الحكم إليه. وحكمت فلانا أي أطلقت يده فيما شاء.
8- الفعل حسب المراد: تقول تحكم فلان في كذا إذا فعل ما رآه.
9- الحكمة: (بالكسر) العدل والعلم والحلم والنبوة والقرآن والإنجيل. والحكمة بمعنى الحكم وهو العلم والفقه والقضاء بالعدل، وهي العلم بحقائق الأشياء على ما هـي عليه والعمل بمقتضاها، وضبط النفس والطبع عن هـيجان الغضب، وتطلق الحكمة على طاعة الله، والفقه في الدين والعمل به والفهم والخشية والورع والإصابة والتفكر في أمر الله واتباعه [6] .
المستوى الثاني: الجذر (ح.ك.م) في الشعر العربي
ورد (ح.ك.م) في الشعر العربي بمعاني مختلفة منها:
- قال النمر بن تولب :
وابغض بغيضك بغضا رويدا إذا أنت حاولت أن تحكما [7] [ ص: 34 ] - قال الأعشى :
وغريبة تأتي الملوك حكيمة قد قلتها ليقال من ذا قالها [8]
- وقال لبيد :احكـم الجـنثي من عوراتها كل حرباء إذا أكره صل [9]
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت إلى حمام سراع وارد الثمـد
فنحكم بالقـوافي من أردنا ونضرب حين تختلط الدماء
- الخلاصة
ومما سبق بيانه يتضح مدى غزارة مادة الجذر اللغوي (ح.ك.م) في لسان العرب، فهو يستعمل بدلالات متعددة، ومعاني متقاربة ومتفاوتة، وهذا من خصائص اللغة العربية حيث إن الكلمة تجد لها أصلا ثم تستعمل في أشياء كثيرة مقاربة ومجانسة، ولهذا قال أبو العباس المبرد : كلام العرب إذا تقاربت ألفاظه فبعضه آخذ برقاب بعض. [10] [ ص: 35 ] وإن لهذه المعاني أهمية بالغة في عملية التأصيل لمفهوم الحاكمية ، لأننا سوف نجد أن المعاني اللغوية تتأسس عليها الدلالات الشرعية في الأصول (القرآن والسنة) وتقوم عليها اصطلاحات أصحاب العلوم والفنون المختلفة، لأن هـناك علاقة بين المصطلح وبين المعنى اللغوي، حيث إن من شروط المصطلح وجود مناسبة بين المعنى الجديد والمعنى اللغوي [11] . ومنه فالحكم من كانت غايته أو مقصده الأساس المنع من الفساد بغية الإصلاح، ومن ثم فإنه لا بد أن يتسم بالإتقان وأن يؤسس على الحكمة وهي إصابة الحق، وأدواته النبوة والكتب السماوية، والجمع بين العمل والقضاء بالعدل [12] . فعند إطلاق هـذا المفهوم وتوظيف جذره اللغوي فإنه لا ينصرف إلى معنى بعينه، وإنما يبقى السياق هـو المحدد لطبيعة دلالته، ومعناه. [ ص: 36 ]