الفصل الثاني
النسق المعرفي والسياق التاريخي لمفهوم الحاكمية
المبحث الأول: فكرة الحاكمية في الفكر الإسلامي القديم
المطلب الأول: الخوارج وفكرة الحاكمية
الإطار النظري والمنهجي لفكرة الحاكمية عند الخوارج
ليس المراد من دراسة فرقة الخوارج بيان ما يتعلق بها من عقائد وأخبار وحوادث، ونقدها وبحثها على طريقة المتكلمين والباحثين في الفرق والملل والنحل، وإنما المراد من هـذه الدراسة هـو الكشف عن وجه الارتباط بين فكرة الحاكمية التي عليها مدار هـذا البحث وتحليل بعض الأحداث السياسية والوقائع التاريخية التي كانت الخوارج سببا في إحداثها.
كما أن دراسة هـذه الفرقة لا تكون دراسة تاريخية وصفية شاملة تبدأ من تاريخ نشأتها وتنسحب إلى فترات متأخرة من تاريخنا الإسلامي، مع استعراض الأحداث والوقائع، وبيان العقائد ومناقشتها، وإنما هـذه الدراسة تتركز على جزئية دقيقة في تاريخ هـذه الفرقة، وهي فترة الظهور التي ارتبطت بحادثة التحكيم، ولا يفهم من الحديث عن الخوارج ومفهوم الحاكمية ارتباط هـذا المفهوم شرعيا وتاريخيا بهذه الفرقة، مما قد يفهم منه إحداث تشويه في هـذا المصطلح من خلال ربطه بفرقة عرفت بالتشدد [ ص: 99 ] والغلو، ولكن الداعي من استحضار فكر هـذه الفرقة أنهم كانوا من أوائل من وظفوا الأصول الشرعية التي انبنت عليها فكرة الحاكمية في الفكر الإسلامي، واستطاعوا بذلك توجيه بعض الأحداث السياسية لصالحهم [1] .
كما تقف هـذه الدراسة على فرقة من فرق الخوارج، وهي المحكمة الأولى، لأنها أول الفرق ظهورا، وكان لها السبق في إثارة مفهوم الحاكمية ، على مفاهيمها الخاصة، وتصوراتها لقضية الحكم. وليس الغرض من وراء هـذا الربط بين مفهوم الحاكمية وبين واقعة تاريخية بعينها - كما يرى بعض [ ص: 100 ] الباحثين [2] - نفي أصالة المفهوم وشرعيته التي يستمدها من وروده في القرآن الكريم والسنة النبوية، ولكن الغرض من ذلك هـو بحث هـذا المفهوم في سياقه التاريخي، وفترة بروزه، وسط الظروف السياسية والاجتماعية التي نشأ في ظلها، باعتبار أن فرقة المحكمة من الخوارج أثارت هـذا المفهوم بصورة مشوهة، ووظفت أبعاده العقدية والسياسية التي فهمت على وجه غير صحيح، في توجيه معارضة سياسية مسلحة تطورت لاحقا في شكل اتجاه سياسي وفكري وفلسفي وديني «راديكالي» معارض.
- السياق التاريخي لظهور الخوارج
كان ظهور الخوارج مرتبطا بأحداث سياسية إثر الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما بسبب الخلاف حول مسألة سياسية وهي الخلافة أو الإمامة العظمى ، أو رئاسة الدولة. ويومئذ لم تكن للخوارج جماعة وإنما كانوا أفرادا يقاتلون في صف علي ، رضي الله عنه ضد معاوية ، ولكن ظهروا كجماعة لها كيانها السياسي، بعد حادثة التحكيم ، بعد توقف القتال في معركة صفين ، عندما رفع أهل الشام المصاحف على رءوس الرماح. [3] [ ص: 101 ] «ولما دخل علي ، رضي الله عنه الكوفة انحاز عنه اثنا عشر ألفا من القرآء وغيرهم - الخوارج - ولحقوا بحروراء - قرية من قرى الكوفة - وجعلوا عليهم شبيب بن ربعي التميمي (أميرا للقتال) ، وعلى صلاتهم عبد الله بن الكواء اليشكري بن بكر بن وائل ». [4] وجعلوا الأمر شورى بعد الفتح والبيعة لله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذلك ظهر تكتل الخوارج بوصفها جماعة معارضة لعلي ، رضي الله عنه .
سبب خروج الخوارج
كان خروج الخوارج يرتكز على سببين مهمين هـما:
الأول: تجويز الإمامة في غير قريش، وأن الذي يستحقها هـو من اتصف بالعدل وجانب الجور، فإن غير السيرة وعدل عن الحق وجب عزله أو قتله، وهم أشد الناس قولا بالقياس، وجوزوا أن لا يكون في العالم إمام أصلا، فإن احتيج إليه، فيجوز أن يتخذ من غير اشتراط للقرشية، فقد يكون [ ص: 102 ] عبدا أو حرا، نبطيا أو قرشيا. [5] وهذه النظرة مرتبطة بنظريتهم السياسية في الإمامة، التي تبلورت أكثر فأكثر بعوامل وظروف خارجية، حيث لم تكن لهم في البداية نظرة واضحة حول هـذه المسألة.
الثاني: تخطئتهم علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه في التحكيم، حيث حكم الرجال، ولا حكم إلا لله. [6] وهذا تفسير سياسي للآية القرآنية التي استدلوا بها في مسألة الخروج على علي ، رضي الله عنه وأسسوا عليها نظريتهم في مسألة الخروج على الحاكم، ويمكن اعتبار هـذه مسوغات ظاهرية للخروج، ولكن هـناك خلفيات أخرى، سنشير إليها.
النص القرآني ومبدأ الحاكمية وخلفيات الخروج
كان سند الخوارج في الخروج على علي ، رضي الله عنه قوله تعالى: ( إن الحكم إلا لله ) ، وهذه الآية أحد النصوص الشرعية التي تقوم عليها فكرة الحاكمية في الفكر الإسلامي، إلا أن تفسير الخوارج للآية كان تفسيرا سياسيا، وكان تأويلهم للآية خاطئا، وهذا ما جعل عليا ، رضي الله عنه يشك في حقيقة إيمانهم، " حيث سأل ابن عباس ، رضي الله عنهما لما رجع من مناظرة الخوارج ، إن كانوا منافقين؟ فقال ابن عباس: والله ما سيماهم بسيماء المنافقين، إن بين أعينهم لأثر السجود، يتأولون القرآن " . [7] [ ص: 103 ] ومما جعلهم يعطون النص الشرعي هـذا التأويل البعيد:
1- عدم النظر الشرعي إلى النصوص الشرعية بوصفها عضوا متكاملا يكمل بعضه بعضا، ويفسر بعضه بعضا.
2- استيلاء فكرة البراءة، من عثمان وعلي ، رضي الله عنهما ، عليهم.
3- مبدأ وجوب قتال الحاكم الجائر، وهذا ما جعلهم يحاربون بني أمية
، والعباسيين، في فترات زمنية متقطعة.
4- كانت معالم الانتماء إلى الخوارج هـي التبرؤ من عثمان وعلي ، «فمن تبرأ من عثمان وعلي وطلحة والزبير ، والحكام الظالمين من بني أمية سلكوه في جمعهم وأضافوا اسمه إلى أسمائهم، وتسامحوا معه في مبادئ أخرى من مبادئهم، وربما كانت أشد أثرا». [8]
ونحا الخوارج هـذا المنحى لأسباب معينة وخلفيات نشير إليها في النقاط التالية:
1- كان هـناك سخط على الوضع القائم وشعور بعدم الاستقرار، وقلق عام بسبب الانقسام، وسوء توزيع الثروة. وهذه الطبقة مالت إلى تصور إمكانية بناء مجتمع إنساني مثالي يسوده العدل المطلق، ويخلو من [ ص: 104 ] الفروق الطبقية والنزاع السياسي ويصير الناس فيه إلى أخوة الإسلام الأولى وسماحته.
2- نزعات التمرد القبلي والعصيان، والتي كانت تمثل خصائص عربية وقبلية لصيقة بفرقة الخوارج .
3- النزعات القبلية والعصبيات العرقية، التي لم تنصهر كلية في بوتقة الإسلام، وكان هـذا التناحر القبلي قائما في صف علي ، رضي الله عنه خاصة بين ربيعة
، وعليه عمدة جيش علي ، وبين مضر . [9]
- خلفيات تفسير آية ( إن الحكم إلا لله ) :
أولا: الخلفيات السياسية
لم يكن تفسير الخوارج لقوله تعالى: ( إن الحكم إلا لله ) (يوسف:40) ،
تفسيرا، دينيا، يستند إلى النظر الشرعي، وإنما كان تفسيرا سياسيا يستند إلى المصلحة، أو تفسيرا ظاهريا يفتقر إلى شروط النظر الاجتهادي، ومما يقوي هـذا أمور منها:
1- كان الخوارج أول القابلين بالتحكيم والداعين إلى الصلح، ولا يعقل أن يكون الشيء واجبا تنفيذه، وفي الوقت ذاته حراما يجب اجتنابه، وإنما هـو تكييف للنص الشرعي حسب المصلحة السياسية. وأما التوبة التي أثاروها كمسلك يتهربون بها من الحجة التي أقيمت عليهم [ ص: 105 ] فلا وزن لها، ولا قيمة، حيث قال الخوارج لعلي رضي الله عنه : «إنا كفرنا حينما رضينا بالحكمين، وقد تبنا إلى الله من ذلك، فإن تبت كما تبنا فنحن معك، وإلا فأذن بحرب، فإنا منابذوك على سواء». [10]
2- قبل انفصال الخوارج كحزب سياسي معارض، كانوا يشكلون جماعة ضغط على علي ، رضي الله عنه " ولم يكن من شأن علي ، لما يرى عصيانهم وتثاقلهم عن تنفيذ أمره، إلا الاستسلام وترديده «اصنعوا ما شئتم» " . " ويؤكد هـذا الأمر عدي بن حاتم الطائي عندما لقي عليا (!) بصفين ، يقول: «كنا بصفين في يوم حار مع علي ، رضي الله عنه فقصدته وهو في سبعمائة من ربيعة، فقلت له: ألا تروح إلى القوم، فإما لنا وإما علينا (!) فسكت فلم يجبني، فقلت: ما لي أراك مخيما، ألا تروح إلى القوم فإما لنا وإما علينا؟ فقال: أدن منا يا ابن حاتم، فتخطيت الناس حتى وضعت يدي على ركبتيه، فقال لي: يا عدي إن معاوية مع قوم يطيعونه وأنا مع قوم يعصونني، فأما الذين معي فأشد مكايدة من الذين مع معاوية، فعذرته ورحمته رحمة شديدة ما رحمت أحدا مثلها قط» " [11] . وقال ابن الجوزي : «وكان الخوارج من وقت التحكيم يصدون عليه ولا يرضون بفعله» . [12] [ ص: 106 ] وكانت بدايات التكتل والتجمع داخل صف علي ، رضي الله عنه مبكرة قبل حادثة التحكيم، بل كما تفيده الروايات أنهم ممن اجتمعوا على قتل عثمان رضي الله عنه . [13]
3- فالخوارج استندوا إلى النص الشرعي الذي انبنت عليه فكرة الحاكمية لكن خرجوا عليه مفهوما مشوها، بتأويل بعيد وشاذ، وكان المقصد من ذلك الخروج من مرحلة التكتل والمعارضة الداخلية وجماعات الضغط إلى مرحلة المعارضة السياسية بهيكلتها التنظيمية، وهذا ما جعل الأمر واضحا في تولي المناصب السياسية والدينية، في حزب الخوارج، حيث جعل الراسبي أميرا للقتال وعبد الله بن الكواء أميرا للصلاة.
4- كان من بين الأهداف السياسية للخوارج هـو إخراج الإمامة العظمى من قريش .
5- تطورت الأحداث تطورا سريعا نحو الأسوأ، فقد استباح الخوارج دماء المسلمين العزل، وممن تعرضوا له بالأذى عبد الله بن خباب ، وزوجته، وانتهى بهم الأمر إلى ذبحه، واقبلوا على امرأته وهي حبلى فبقروا بطنها. [14] [ ص: 107 ] وهنا يطرح سؤال: ما وجه الربط بين الخروج عن علي رضي الله عنه بسبب التحكيم، واستباحة دماء المسلمين؟ بمعنى ما هـو وجه الربط بين مشكلة سياسية أساسها النظر الاجتهادي الذي قد تتباين فيه الآراء، وبين استباحة دم المسلمين، وهي مسألة دقيقة لها ضوابطها الشرعية، وليست قائمة على الظن والتخمين؟ وكما قال محمد أبو زهرة : «وأولئك الخوارج استولت عليهم ألفاظ الإيمان ولا حكم إلا لله، والتبرؤ من الظالمين، وباسمها أباحوا دماء المسلمين وخضبوا الأرض الإسلامية بنجيع الدماء، وشنوا الغارة في كل مكان». [15]
6- سرعة تشكل الهيكل التنظيمي للحزب السياسي، حيث إنه لما بلغ الخوارج أمر الحكمين لقي بعضهم بعضا، واجتمعوا عند عبد الله بن وهب الراسبي ، فاجتمع عنده عظماؤهم وعبادهم، وتكلم فيهم عبد الله بن وهب ، ثم تكلم حمزة بن سيار ، وعرضوا الإمارة على يزيد بن الحصين ، فأبى أن يقبلها، ثم عرضوها على عبد الله بن وهب الراسبي، فقال: هـاتوها، فو الله ما أقبلها رغبة في الدنيا، ولا فرارا من الموت، ولكن أقبلها لما أرجو فيها من أجر عظيم. [16] وحسب الروايات أن القراء كانوا يمثلون عددا كبيرا في تجمع الخوارج ، ولهذا انسجموا مع تفسير الآية، حيث حملوها على ظاهرها، دون إعمال لتكييفها السياسي والشرعي، فقد كانوا حرفيين لا يبالون بالأبعاد المقاصدية للنص الشرعي. [ ص: 108 ]
ثانيا: الخلفيات الاجتماعية
قد ترجع هـذه التناقضات في سلوك الخوارج ، وما تخبطوا فيه من هـوس فكري، إلى ظروف اجتماعية ومالية، حيث كان أكثر الخوارج من عرب البادية، فجمعوا من صفات أعراب البادية الخشونة والتشدد، والجفاء، والجهل، والسذاجة، مع ما كانوا يعانونه من فقر وحاجة، فاجتمعت عليهم هـذه الظروف الاجتماعية والمالية القاسية، فأرادوا أن يكون لهم أمر وشأن يقيمون به شوكتهم، ويحظون به ببعض نعيم الدنيا.
يقول محمد أبو زهرة : إن «الخوارج كان أكثرهم من عرب البادية، وقليل منهم من كان من عرب القرى، وهؤلاء كانوا في فقر شديد قبيل الإسلام، ولما جاء الإسلام لم تزد حالتهم المادية حسنا، لأنهم استمروا في باديتهم بلأوائها وشدتها وصعوبة الحياة فيها. وأصاب الإسلام شغاف قلوبهم مع سذاجة في التفكير وضيق في التصور، وبعد عن العلوم، فتكون من مجموع ذلك نفوس مؤمنة متعصبة لضيق نطاق العقول، ومتهورة مندفعة لأنها نابعة من الصحراء، وزاهدة لأنها لم تجد، إذ النفس التي لا تجد إذا غمرها إيمان ومس وجدانها اعتقاد صحيح انصرفت عن الشهوات المادية وملاذ هـذه الحياة، واتجهت بكليتها إلى نعيم الآخرة. ولقد كانت هـذه المعيشة التي يعيشونها في بيدائهم دافعة لهم على الخشونة والقسوة والعنف، إذ النفس صورة لما تألف، ولو أنهم عاشوا عيشة رافهة فاكهة في نعيم، أو في نوع منه لخفف ذلك من عنفهم وألان صلابتهم ورطب شدتهم. يروى أن زياد بن أبيه بلغه أن رجلا يكنى أبا الخير من أهل البأس والنجدة أنه على رأي الخوارج فدعاه فولاه ورقة أربعة ألاف درهم كل شهر، وجعل عمالته في كل سنة مائة ألف، فكان أبو الخير يقول: «ما رأيت شيئا خيرا من لزوم الطاعة والتقلب بين أظهر الجماعة، فلم يزل واليا حتى أنكر منه زياد شيئا فتنمر لزياد فحبسه، فلم يخرج من محبسه حتى مات» . [17] [ ص: 109 ]
- الخوارج وتوظيف الخطاب الديني
حسب الروايات التاريخية أن الخوارج استندوا في خلافهم مع علي ، رضي الله عنه على النص القرآني، لكن حملوه على غير محمله الصحيح، ويظهر من سياق الأحداث السياسية، والوقائع التاريخية، أن هـذا الاستدلال القرآني كان مقصودا، وأن هـذا التأويل للنص القرآني كان مرادا، من قبل زعماء الخوارج ورءوسهم، خلافا لعوامهم، وسوادهم الأعظم الذين كانوا تبعا لهم، ويدل على هـذا أمور منها:
1- أن عليا في موقعة صفين لما رفع جيش معاوية المصاحف أدرك الحيلة، وعلم ما وراء الأمر [18] ، وبناء على ذلك كان مصرا على مواصلة [ ص: 110 ] القتال، ولكن ممن عرفوا بعد المعركة بالخوارج هـم الذين كانوا يصرون على وقف القتال والصلح والتحكيم. ذكر ابن الأثير : " أن عليا خرج إلى الخوارج حتى انتهى وهم يخاصمون ابن عباس فقال: ألم أنهك عن كلامهم؟ ثم تكلم وقال: اللهم هـذا مقام من يفلح فيه كان أولى بالفلاح يوم القيامة، ثم قال لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكوا ، قال: فما أخرجكم علينا؟ قالوا: حكومتك يوم صفين ، قال: استنشدكم الله أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف وقلتم تجيبهم قلت لكم: إني أعلم بالقوم منكم " . [19] فعلي ، رضي الله عنه كان مع القتال والخوارج كانوا مع التحكيم.
ويقول ابن الجوزي : «.. فرفعوا المصاحف بالرماح، وقالوا: هـذا كتاب الله بيننا وبينكم، من لثغور أهل الشام بعد أهل الشام، ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق؟ قالوا: نجيب إلى كتاب الله ونثيب عليه، " فقال علي رضي الله عنه : ما رفعوها إلا خديعة، فقالوا له ما يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله، فقال: إني أقاتلهم بحكم الكتاب، فقال له: مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي في عصابة معهما من القراء، الذين صاروا خوارج بعد ذلك: يا علي ، أجب إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلا ندفعك برمتك إلى القوم، أو نفعل ما فعلنا بابن عفان ، إنه أبى علينا أن نعمل بما في كتاب الله فقتلناه، والله لتفعلنها أو لنفعلنها بك، قال: أما أنا فإن تطيعوني تقاتلوا وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم.. وقال الناس: قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكما. " [20] [ ص: 111 ] فمن خلال الأحداث كان للخوارج فكرة القول بالتحكيم والصلح، بل هـم الذين مارسوا ضغوطات على علي ، رضي الله عنه وأجبروه على توقيف القتال، وهددوه بالقتل إن لم يفعل. ولهذا " قال الخوارج لعلي : «فابعث إليه - أي إلى الأشتر الذي كان مستمرا في القتال - فليأتك وإلا اعتزلناك» " . [21] وأورد نصر بن مزاحم الرواية بقوله: «فجاءه زهاء عشرين ألفا مقنعين في الحديد، شاكي السلاح، سيوفهم على عواتقهم، وقد سودت جباههم من السجود، يتقدمهم مسعر بن فدكي وزيد بن حصين وعصابة من القراء، الذين صاروا خوارج من بعد، فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين: يا علي أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه وإلا قتلناك كما قتلنا عثمان ، فو الله لنفعلنها إن لم تجبهم» [22] . [ ص: 112 ] بل يؤكد الخوارج موافقتهم للتحكيم في أثناء عملية تعيين الحكم حيث كان يرى علي ، رضي الله عنه أن يكون الحكم عبد الله بن عباس أو الأشتر ، ولكن أصر الخوارج أن يكون أبا موسى الأشعري . " يقول ابن الجوزي : «... فقال أهل الشام فإنا اخترنا عمرو بن العاص ، فقال الأشعث وأولئك الذين صاروا خوارج بعد: فإنا رضينا بأبي موسى الأشعري ، فقال علي : إنكم عصيتموني في أول الأمر فلا تعصوني الآن فإني لا أرى أن أولي أبا موسى، فقال: أولئك إلا به، قال: فهذا ابن عباس ، قالوا: لا نريد إلا رجلا هـو منك ومن معاوية سواء، ليس إلى واحد منكما بأدنى منه إلى الآخر، قال: فإني أجعل الأشتر ، قالوا: وهل سعر الأرض غير الأشتر؟ قال: فاصنعوا ما شئتم» " . [23]
ففي حقيقة الأمر الخوارج هـم الذين كانوا يديرون عملية التفاوض مع معاوية ، رضي الله عنه وكان لهم قرار تعيين المفاوض، ورفضوا كل اقتراحات علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه على الرغم من أنه أمير المؤمنين، وعلى الرغم من التنبيه على أنهم كرروا عصيانه أكثر من مرة، فهم مع فكرة التحكيم، وهم من عينوا الحكم، فكيف يكون التحكيم سبب خروجهم، إن لم يكن للأمر مغزى سياسي دقيق يهدف إليه الخوارج؟
ومن الروايات الأخرى المؤكدة أن الخوارج هـم من عينوا الحكم لا غيرهم [ ص: 113 ] " قول ابن عباس ، رضي الله عنهما للخوارج : ..إن عمرو بن العاص لم يكن حكما أفتحتجون به علينا؟ إنما كان حكما لمعاوية ، وقد أراد أمير المؤمنين علي ، رضي الله عنه أن يبعثني أنا فأكون له حكما فأبيتم عليه وقلتم قد رضينا بأبي موسى الأشعري " . [24] وكذلك يظهر ذلك في " حديث علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه مع ابن الكواء وممن معه، حيث قال له علي في محاورة بينهما: ويحك يا ابن الكواء ، ألم أقل لكم في ذلك اليوم الذي رفعت فيه المصاحف كيف أهل الشام يريدون أن يخدعوكم بها؟ ألم أقل لكم أنهم قد عضهم السلاح وكاعوا عن الحرب فذروني أناجزهم فأبيتم علي، وقلتم إن القوم دعونا إلى كتاب الله عز وجل فأجابهم إلى ذلك، وإلا لم نقاتل معك وإلا دفعناك إليهم، فلما أجبتم إلى ذلك أردت أن أبعث ابن عمي عبد الله بن عباس ليكون لي حكما فإنه رجل لا يبتغي بشيء من عرض هـذه الدنيا ولا يطمع أحد من الناس في خديعته، فأبى علي منكم من أبى وجئتموني بأبي موسى الأشعري ، وقلتم رضينا بهذا فأجبتكم إليه وأنا كاره، ولو أصبت أعوانا غيركم في ذلك الوقت لما أجبتكم " . [25]
2- إن مظاهر العصيان قبل حادثة التحكيم ، وأثناءها كانت بادية، ويتضح هـذا جليا في بعض الشخصيات الخارجية المهمة، مثل زرعة بن البرج الطائي وحرقوص بن زهير السعدي ، الذي كان أحد الرءوس التي دبرت الفتنة وشاركت في المؤامرة ضد الخليفة عثمان ، كما أنه كان من قادة الخوارج الذين انشقوا على علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه وهو الذي [ ص: 114 ] خاطب عليا قائلا: تب من خطيئتك وذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه (يعني التحكيم) . " ذكر ابن الأثير : أن عليا لما أراد أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه رجلان من الخوارج زرعة بن البرج الطائي ، وحرقوص بن زهير السعدي ، فقالا له: لا حكم إلا لله، وقال حرقوص بن زهير : تب من خطيئك وارجع عن قضيتك، واخرج بنا إلى عدونا فنقاتلهم حتى نلقى ربنا، فقال علي : قد أردتكم على ذلك فعصيتموني، وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا، وشرطنا شروطا وأعطينا عليها عهودا،
وقد قال الله تعالى: ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ) (النحل:91)
فقال حرقوص : ذلك ذنب ينبغي أن تتوب عنه، فقال علي : ما هـو ذنب ولكنه عجز عن الرأي وقد نهيتكم، فقال زرعة : يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال لأقاتلنك أطلب وجه الله تعالى " [26] .
فحسب هـذه الروايات وغيرها أن الخوارج في معركة صفين أجبروا عليا على وقف القتال والقبول بالتحكيم، ولما تم الوفاق وأعطيت المواثيق والعهود وعقدت الشروط، رفض الخوارج ذلك وأرادوا استئناف القتال من جديد، من غير نظر إلى ما تم عقده [27] وهذا دليل على وجود نوع من الترتيبات السياسية، والحسابات المستقبلية للخوارج، ليؤكدوا بعض المطالب التي لا يمكن تحقيقها والقبول بها، لتكون مسوغا للخروج والعصيان. [ ص: 115 ] يقول محمد أبو زهرة : ومن غريب هـذه الخارجة التي حملت عليا على التحكيم وحملته على محكم بعينه أن جاءت من بعد ذلك واعتبرت التحكيم جريمة كبيرة، وطلبت إلى علي أن يتوب عما ارتكب لأنه كفر بتحكيمه كما كفروا هـم وتابوا وتبعهم غيرهم من أعراب البادية. [28] فيمكن اعتبار أن فكرة الخروج كانت واردة عند بعض كبار الخوارج ورءوسهم، وأن التحكيم كان فرصة استغلها الخوارج في سحب غوغاء الناس وعوامهم في صفهم، وذلك عندما وظفوا نصا قرآنيا بتأويل بعيد لتحقيق مقاصدهم وغاياتهم.
- مفهوم الحاكمية عند الخوارج
كان شعار الخوارج الذي رفعوه بداية هـو قول الله تعالى: ( إن الحكم إلا لله ) ، وخرجوا عليه قاعدة وهي: لا حكم إلا لله، أو لا حاكم إلا الله، أو لا حكيم إلا الله، وذلك يعني نفي أي سلطة بشرية من شأنها أن تهيمن على النص القرآني، فتبطله أو تعطله، وهذا ما أدى ببعضهم مثل عروة بن أدية إلى القول: «تحكمون في أمر الله الرجال، لا حكيم إلا الله» [29] وهي مقولات مؤسسة على الشعار الذي رفعوه «إن الحكم إلا لله»، وقد علق عليها علي بأنها «كلمة حق أريد بها باطل». والخوارج رفعوا الشعار رافضين به ما انتهت إليه نتيجة التحكيم، وما كانوا يقصدون به نفي سلطان [ ص: 116 ] البشر، في تسيير أمورهم السياسية والدنيوية، أو نفي أن يكون للناس أمير حيث كان لهم أمراء وكانت لهم آراؤهم في الإمامة والخلافة، وقصدوا من رفع الشعار أنه لا ينبغي العدول عن حكم بينه الله في كتابه إلى حكم الرجال [30] وما يدل على هـذا قول الخوارج لابن عباس رضي الله عنهما «..وأما ما جعل الله حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه فهو إليهم، وما حكم فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه، حكم في الزنى مائة جلدة، وفي السارق القطع، فليس للعباد أن ينظروا في هـذا.. وقد أمضى الله حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يرجعوا» [31] .. فكأن الموادعة مع معاوية واللجوء إلى التحكيم الذي فيه حقن لدماء المسلمين فيه مخالفة لحكم الله تعالى في الفئة الباغية، ويضاف إلى هـذا رفض الخوارج تكييف النص القرآني بأي وجه من وجوه النظر الاجتهادي والاكتفاء بظواهره، وقد أرسى قواعد هـذا الاتجاه التفسيري للنصوص القرآنية القراء، الذين كانوا غالبية في الخوارج.
سوء توظيف الخوارج لمفهوم الحاكمية
أساء الخوارج توظيف مفهوم الحاكمية انطلاقا من النص القرآني، وذلك في أمور هـي:
الأول: في مسألة التحكيم، حيث قالوا: إن عليا حكم الرجال، وهذا غير صحيح؛ لأن الخوارج هـم الذين حملوه على التحكيم. يقول [ ص: 117 ] الشهرستاني : وكان من أمر الحكمين أن الخوارج حملوه على التحكيم أولا، وكان يريد أن يبعث عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما فما رضي بذلك الخوارج، وقالوا: هـو منك، وحملوه على بعث أبي موسى الأشعري على أنه يحكم بكتاب الله تعالى [32] .
الثاني: أن تحكيم الرجال جائز، فإن الخوارج هـم الحاكمون في هـذه المسألة، وهم رجال، ولهذا " قال علي ، رضي الله عنه : «كلمة حق أريد بها باطل». "
الثالث: أنهم تخطوا ذلك إلى التكفير فلعنوا عليا ، رضي الله عنه وطعنوا في عثمان رضي الله عنه [33] ، ومما يدل على هـذا أن زياد بن أبيه لما لقي عروة بن حدير بعد حادثة حرب النهروان وبقي إلى أيام معاوية ، رضي الله عنه سأله عن عثمان ، رضي الله عنه قال: كنت أوالي عثمان على أحواله في خلافته ست سنين، ثم تبرأت منه بعد ذلك للأحداث التي أحدثها، وشهد عليه بالكفر، وسأله عن علي بن أبي طالب فقال: «كنت أتولاه إلى أن حكم الحكمين ثم تبرأت منه بعد ذلك، وشهد عليه بالكفر» [34] . [ ص: 118 ]
المعالم العامة للنظرية السياسية عند الخوارج
تأسيسا على النص القرآني الذي جعله الخوارج شعارا لهم، وخرجوا عليه بعض القواعد، التي ساروا عليها، عملوا على تطوير نظريتهم السياسية في السياسة والحكم، والتي مدارها على ما يلي:
1 - حرية اختيار الإمام، وطريق ذلك البيعة الصحيحة، ويقوم بذلك عامة المسلمين.
2 - لا يعترف الخوارج إلا بالبيعة المنعقدة بطريق صحيح، وبناء على ذلك فكل من وصل إلى الإمامة بطريق غير مشروع فهو ظالم يجب قتاله وإزالته.
3 - لا يصح تنازل الإمام أو يحكم إذا تم اختياره بطريق صحيح.
4 - يستمر الإمام خليفة ما دام قائما بالعدل والقسط بين الناس، فإذا جار أو ظلم أو ابتعد عن الحق، وجب عزلة أو قتله.
5 - لا يشترط في الإمامة العظمى القرشية، ولا بيت بعينه أو قبيلة بذاتها، وإنما المسلمون في ذلك سواء، ولا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لقرشي على غيره.
6 - خضوع الإمام لشورى المسلمين. [ ص: 119 ] 7 - ترى النجدات من الخوارج أنه لا حاجة إلى الإمام أصلا، ما دام الحق قائما، والتناصح ممكنا، فإن تعذر ذلك جاز أن يكون إمام يحمل الناس على ذلك، فالإمامة عندهم ليست واجبة، وإنما هـي جائزة، والجواز مرتبط بالمصلحة والضرورة [35] .
ويمكن اعتبار أن من أهم المبادئ السياسية التي تقوم عليها نظرية الخوارج السياسية هـي عدم اشتراط القرشية في الإمامة العظمى ، وهو ما قوى شوكة معارضتهم لعلي ، رضي الله عنه ، والأمويين والعباسيين بعده، وقد يكون الخوارج أصابهم شيء من الحسد لقريش لما تم تفردهم بالخلافة دون من سواهم، ومن مظاهر ذلك " أن عليا لما رشح ابن عباس ليكون حكما، قال: .. فعليكم بعبد الله بن عباس فارموه به فإن عمرو لا يعقد عقدة إلا حلها عبد الله، ولا يحل عقدة إلا عقدها، ولا يبرم أمرا إلا نقضه، ولا ينقض أمرا إلا أبرمه، فقال الأشعث : لا والله لا يحكم فينا مضريان حتى تقوم الساعة، ولكن اجعله رجلا من أهل اليمن .. فقال الأشعث : والله لا يحكما ببعض ما نكره، وأحدهما من أهل اليمن أحب إلينا من أن يكون ما نحب في حكمهما وهما مضريان " [36] . [ ص: 120 ] فالتحامل على المضريين لائح، دون إعمال لبعض الشروط التي يمكن أن تتوفر في الشخص، وكان الأشعث وممن معه الذين يشكلون غالبية في جيش علي ضد ترشيح ابن عباس ليس لسبب إلا كونه مضريا.
ومما يقوي هـذا التوجه أن أكثر الخوارج كانوا من القبائل الربعية التي قامت بينها وبين القبائل المضرية الإحن الجاهلية التي خفف الإسلام من حدتها ولم يذهب بكل قوتها، بل بقيت منها آثار غير قليلة مستمكنة في النفوس، وقد تظهر في الآراء والمذاهب من حيث لا يشعر المعتنق للمذهب الآخذ بالرأي.. الخوارج وأكثرهم ربعيون رأوا الخلفاء من « مضر » فنفروا من حكمهم واتجهوا في تفكيرهم نحو الخلافة تحت ظل هـذا النفور من حيث لا يشعرون، وظنوا أن ما يقولونه هـو محض الدين، وأنه لا دافع لهم إلا الإخلاص لدينهم [37] .
فجنوح الخوارج لمعارضة علي ، رضي الله عنه في قضية التحكيم، كانت مسلكا للتملص من قبضة قريش في الحكم، والاستدلال بالآية الكريمة كانت طلبا لمبدأ الشرعية في الخروج. [ ص: 121 ]
النتائج المترتبة على منظور الخوارج إلى مفهوم الحاكمية
ومما نخلص إليه أن الظروف السياسية والاجتماعية التي أحاطت بتفسير النص القرآني كانت عاملا في توجيهه توجيها سلبيا خاطئا، وأن توظيف مفهوم الحاكمية بمعناه ومفهومه، ومحاولة تنزيله كان غير موفق، لوجود نية التوظيف المصلحي، لتحقيق بعض الأغراض السياسية، والأهداف الاجتماعية، وإضافة إلى هـذا فهناك جملة من الخصائص التي ميزت الخوارج والتي منها:
- السذاجة والسطحية في التعامل مع نصوص الوحي، تفسيرا وتنزيلا.
- افتقارهم لأدوات النظر الاجتهادي.
- الجهل وقلة العلم بأحكام الشرع.
- التعصب وكثرة الاختلاف والتفرق شيعا وأحزابا لأبسط سبب.
- محدودية النظر، وضيق الفكر والأفق.
- عدم الجمع بين المثل العليا للإسلام ومقتضيات الواقع، ومحاولة الربط والتوفيق بينها.
فهذه الصفات لم تؤهل الخوارج لتحقيق المفهوم الصحيح الذي يقتضيه مفهوم الحاكمية ، حيث كان حليفها الشذوذ والانحراف. [ ص: 122 ]