علومنا: أزمة نمو أم أزمة شرعية ؟
ونحن إزاء هـذه الإشكالية نتساءل: لماذا العلم السائد في مجالنا العربي والإسلامي لم يتعد بعد، في مجاله النظري، الحدود التي تم اكتشافها من قبل « كونت » و « دور كايم » و « سان سيمون » و « باريتو » و « فيبر » و « بارسونز » وحتى « الإمبيريقية »، بالنسبة لعلم الاجتماع؛ و « واطسن » و « بافلوف » و « فرويد » و « يونج » و « أدلر » و « بياجيه » و « جون ديوي » و « فروبيل » و « بستالوتزي »، بالنسبة لعلم النفس والتربية؛ و « دي سوسير » و « جاكسون » و « شومسكي »، بالنسبة لعلم اللسان، وغيرهم من أقطاب العلوم الإنسانية الغربية الأخرى [1] .
وما جدوى استمرارية الاعتماد المطلق على هـذه المصادر, ومنحها السيادة على مجالاتنا الأكاديمية والثقافية, مع ما تنطوي عليه مفاهيمها ونظرياتها من مضامين آيديولوجية ومعيارية خاصة, ومع ما تمثله في الأصل من واقع آخر له سياقاته ومشاكله واعتباراته المغايرة ؟!
لا شك أن التداول المعرفي, والاعتماد المتبادل في إنجازات العقل, مسالك تقتضيها الحكمة الإنسانية, ويستدعيها البحث في شروط التقدم وحيازته، إلا أنه في حالة العلوم الإنسانية الغربية, التي هـي نتاج جدلية وعي وواقع محددين، لا يمكن لأكثر مفاهيمها وتنظيراتها ومناهجها أن تكتسب [ ص: 32 ] صفة العمومية والصلاحية، على النحو الذي يدفعنا إلى تبنيها دون مراجعة أو تحفظ, بل إن الجمود عندها لا يمثل إلا استهلاكا أو اجترارا ليس له من معنى غير تحويل هـذه العلوم إلى أدوات للاستلاب وتزييف الوعي.
وإذا كانت «اللاموضـوعية» في هـذه العلوم من منظور النقد الغربي, لا تمثل إلا إشكالية ذات طابع أكاديمي في الغالب, فإنها في إطارنا العربي والإسلامي, تتجاوز هـذا البعد، لتثير إشكاليات معرفية وآيديولوجية وتربوية, ذلك أن هـذه العلوم -ونحن نتداولها ثقافة وتدريسا وبحثا وتطبيقا - هـي في المحصلة النهائية, لا تمثل إلا تكبيلا للعقل العربي والمسـلم, وتكييفا له على نحو يضعف ارتباطه بالهوية, ويلغي عنده اعتبارات الخصوصية, ويدفع به نحو شباك التقليد والتبعية, وتلعب جامعاتنا ومعاهدنا دورا أساسيا في تشكيل هـذه الظاهرة، حين تكتفي بتقديم العروض التجريدية للمفاهيم والنظريات التي تضعها في صلب المناهج التعليمية دون أي نقد يذكر, حتى أن وظيفة الكثير من أعضاء الهيئات التدريسية أضحت مجرد إعداد الملخصات المترجمة عما كتبه غربيون في هـذا الفرع أو ذاك، وتلقينها الطلاب، وكأن مضامينها حقائق علمية مطلقة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وتلك منهجية خطيرة أسهمت كثيرا في تغريب الذهن واصطناع المعرفة المشوهة, وإحداث حالة من الانفصام بين العلم والواقع, ولعل هـذه النتائج تتجلى على نحو آخر لا يقل خطورة عند تطبيق تلك الفروع على صعيد النظم والحياة الاجتماعية العامة. [ ص: 33 ] إن السبب الجوهري لأزمة العـلوم الإنسـانية هـو الذات العارفة التي لم تعرف نفسها، ولم تستوعب معادلتها الاجتماعية, مثلما لم تستوعب (الآخر) ، ولم تدرك أن لعلومه أبعادها الفكرية وخصوصياتها الاجتماعية وحقائقها النسبية، ولهذا كان نقل تلك العلوم والتعاطي معها كمعطى جاهز لم ينتج - عندنا - أية علوم حقيقية.
ومن هـنا يصح القول: إن أزمة العلوم الإنسـانية - الاجتماعية في مجالنا، ليست أزمـة نمو بقـدر ما هـي أزمـة وعي وأزمة شرعية, وبناء على ذلك فإن الدعوة إلى عـلوم خاصة في المجال العربي الإسلامي هـي دعوة ذكية ومشروعـة؛ لأن جعـل العلم نظـاما معرفيا متداخلا مع الواقع الاجتماعي ومؤثرا في تاريخيته من شأنه أن يحوله إلى قوة فاعلة في مسيرة التغيير [2] .
وهذا ما كنا نسلكه بالفعل في إطار الخبرة التاريخية، حيث كانت العلوم العربية والإسلامية غير منفصلة عن المضـامين الثقافية للمجتمـع, كما كانت تعكس حالة الحوار بين الفكر والواقع، حتى إن العلوم الشرعية البحتة كعلم الأصول والفقه، كانت تعيش هـذه الحالة, وما نزعة الاجتهاد, وتعددية المدارس, ومبدأ الاعتراف بمتغيرات الزمان والمكان وتبدل الأحوال، إلا دليل على ما نقول. [ ص: 34 ] إن العقل العربي والإسلامي لم يوصد نوافذه أمـام التيارات الفكرية, ولم يعرض عن العلوم الأجنبية، بل تقابل معها، وتعقلها، وتفاعل معها، واستفاد منها، وأسلم ما يقتضي منها «الأسلمة» ولم تذهله السباحة في روافدها عن اتخاذ الموقف الذي يقتضي تمييزا بين مستويات الحقيقة المتفاوته التي كانت تحتويها، ففي مناظرة جرت عام 327هـ، بين العالمين العربيين أبي سعيد السيرافي وأبي بشر القناتي ، أثيرت إشكالية المطلق والنسبي في المنطق اليوناني، على الرغم من أن المنطق هـو أقرب ما يكون للرياضيات، فكيف إذن سيكون الاستعداد النقدي للعقل العربي الإسلامي، حين يواجه علوما كالعلوم الإنسانية الحديثة؟!