مقاربة تطبيقية لتوطين البحث العلمي
علم النفس السياسي أنموذجا
إن مشروعية التساؤل حول إمكان تأسيس علم نفس سياسي وتوطين بحوثه في مجالنا العربي والإسلامي تنبع من مسلمة أن الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي، وأن بعض سلوكياته السياسية المعلنة وغير المعلنة لها استبطانات نفسية، قد تتباين في جانب منها من مجتمع إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى، ورصد هـذه المتغيرات وتحليلها من شأنه أن يكشف عن سمات السياسي، ويلقي الضوء على طبيعة أنشطته المختلفة.
وإذا كانت السلوكيات السياسية تتشكل وفقا لمنطق السلوك الإنساني العام، فإن ثمة خصوصيات اجتماعية تفرز سلوكيات تتباين من جماعة بشرية إلى أخرى، والحقائق العلمية التي تدور حول السلوكيات الخاصة بكل جماعة أو شعب أو محور حضاري جديرة بأن يعنى بها علميا، وأن التوصل إلى حقائق تلك السلوكيات سيمثل ولا شك معلما أساسيا من معالم التوطين، كما يمنح العلم السلوكي هـويته الخاصة.
ليس من شك أن علم النفس قد سجل تطورا ملحوظا من خلال فروعه المتعددة التي غطت معظم جوانب السلوك، إلا أن فرعه السياسي ظل إلى حد ما بعيدا عن البحث والتسجيل، وإذا كان الاهتمام بهذا الفرع قد ظهر في الولايات المتحدة الأمريكية منذ فترة ليست بالقصيرة، وإن بعض [ ص: 123 ] دراساته أخذت تؤثر في علم النفس في أوروبا ، إلا أن الكثير من موضوعاته لما تتناولها بعد دراسات الباحثين [1] ، ناهيك عن تجنبها كمادة تعليمية، بخاصة في الجامعات العربية.
تعريف علم النفس السياسي وتساؤلاته المحورية
قبل التعرض لأهم التساؤلات التي يمكن أن تشكل محاور لعلم النفس السياسي وبحوثه، لا بد أن نعرف هـذا العلم، فنقول: إنه ذلك العلم الذي يبحث في علاقة السلوك السياسي بالمتغيرات النفسية، ويدرس الظواهر السياسية الفردية والجماعية، ويتتبع استبطاناتها الداخلية بالاستفادة من المبادئ العامة لعلم النفس، بغية الوصول إلى القوانين والحقائق التي تحكم ذلك السلوك وظواهره، ومن ثم التنبؤ بما قد يترتب على ذلك من نتائج.
إن التأسيس لهذا العلم يمكن أن نبدأه بطرح التساؤلات الأساسية الآتية:
- هـل السياسة في ممارساتها تمثل حاجة من الحاجات النفسية؟ وهل الحاجة تمثل دافعا أساسيا في العمل السياسي؟
- هـل الوعي والوجدان السياسيين يخضعان لمراحل نمو متمايزة؟
- هـل ثمة سيكولوجيا يختص بها كل من الحاكم والمحكوم؟ وما طبيعة وسمات كل من هـذين الطرفين؟ وهل ثمة علاقة نفسية تربط بينهما؟
- إلى أي حد يمكننا التحدث عما يسمى بـ «سيكولوجيا الشعوب»؟ [ ص: 124 ] - الصراع السياسي بصفته ظاهرة طبيعية في الحقل السياسي، هـل له من بواعث سيكولوجية ؟ وما تجليات تلك البواعث إن وجدت، وما أساليب التعبير عنها؟
- وأخيرا ما أهمية الصحة النفسية في الحقل السياسي؟ وهل يمكن التحدث عن عقد وأمراض نفسية سياسية؟
إن البحث عن إجابات لهذه الأسئلة، وما يمكن أن يتفرع عنها من أسئلة أخرى، جدير بأن يوفر لنا العناصر والمفردات الأساسية لبناء علم نفس سياسي، ولا شك أن البحث في تلك العناصر والمفردات، وتدوين نتائجها، ثم تدريسها [2] ستكون له أهمية على أكثر من صعيد.
أهمية البحث في علم النفس السياسي وتدوينه
تتجلى أهمية البحث في علم النفس السياسي فيما يوفره من معرفة حول الطبيعة البشرية ودوافع السـلوك ومتغيراته، سـواء عند الفرد أو الجماعة، أو عند الحاكم أو المحكوم، وفيما يمكن أن يكشفه من حقائق تتصل بالظواهر السياسية وطبيعة العمل السياسي والرأي العام وسيكولوجية الصراع، فضلا عن إمكانات استخدام تحليلات هـذا العلم ومعطياته في الحرب والسلم، وفي إدارة العلاقات والأزمات، وهو لكل ذلك يعتبر من العلوم الحيوية بالنسبة إلى كل المهتمين بالشئون السياسية. [ ص: 125 ] لقد عالج بعض العلماء موضوعات تتصل بهذا الفرع العلمي، فعبد الرحمن الكواكبي سجل ملاحظات قيمة تتصل بسيكولوجية الاستبداد وتداعياته في كتابه «طبائع الاستبداد» وعالج « غراهام دالاس » علاقة النفس بالسياسة في كتابه «الطبيعة البشرية في مجال السياسة» الصادر عام 1921م، وفعل مثل ذلك «Walter Baghat» في كتابه «الطبيعة والسياسة».
- لم أجد من الجامعات العربية من يعتمد هـذا العلم مقررا دراسيا مستقلا عدا جامعة السلطان قابوس، وجامعة أخرى في فلسطين.
لقد نشط الاهتمام بعلم النفس السياسي في أمريكا وغيرها من البلدان الغربية حتى أنشئت له مختبرات، وأجريت في مجاله بحوث [3] ، ففي عام 1936م أعد «ستانجنر Stangner» مقياسا لتحديد سمات الشخصية المتسلطة من خلال تحليله لمحتوى بعض الكتابات النازية والفاشستية، وأعد «راي Ray» في العام 1971م مقياسا للاتجاه نحو السلطة، ومقاييس أخرى أعدها باحثون آخرون تناولت سمات التعصب والمتمركز العرقي [4] وقياس حالات « الدوغماطيقية » و « الميكافيلية » والجمود الفكري وغيرها.
وعلى الصعيد المؤسسي أنشئت «جمعية دولية لعلم النفس السياسي» أخذت تستقطب مئات المعنيين، ولها مجلة فصلية [5] متخصصة، فيما ندر [ ص: 126 ] الاهتمام بهذا العلم في المجال العربي والإسلامي، إلا أنه يمكن القول: إن بعض الكتابات قد عالجت بعض موضوعاته، فبالإضافه إلى ما ورد من أفكار ونصوص وإشارات في سياقات التراث العربي والإسلامي، وما قدمه بعض العلماء في هـذا الخصوص كالكواكبي في كتابه الذي نوهنا به قبل قليل، ظهرت بعض الكتابات الحديثة ككتاب «الطب النفسي والسياسة» للدكتور محمد شعلان ، و «سيكولوجية المشاركة السياسية، مع دراسة في علم النفس السياسي في البيئة العربية» للدكتور طارق محمد عبد الوهاب ، فضلا عن كتابات وجهود الدكتور محمد أحمد النابلسي وكتابات الدكتور قدري حفني ، والدكتور حامد ربيع ، وغيرهم.
والحقيقة أن ثمة عقبات تقف في طريق ازدهار هـذا العلم في كثير من البلدان، في مقدمتها حساسية الموضوعات التي يتناولها، ولعلـه لهذا السبب لم يقدر للبحوث التي أجرتها الأجهزة الأمنية هـنا أو هـناك بواسطة علماء وأطباء أن تظهر إلى العلن، وظل أغلبها محاطا بالسرية، خـاصة ما اتصل منها بسيكولوجية القيـادات، وممارسـات القهر، وتقنيات السيـطرة، وفن الصراع، و «لعبة الأمم » ونحو ذلك، حـتى بدا وكأن هـذا العلم من «العلوم السرية».
وأيا ما كان الأمر، فإن مهمة تحرير علم النفس السياسي، والسعي إلى اكتشاف حقائقه وقوانينه المطلقة أو النسبية تظل مسئولية العلماء ممن تهمهم [ ص: 127 ] أنسنة العمل السياسي [6] وحماية الإنسان وتكريس حقوقه في المعرفة والاختيار واحترام اللاوعي الجماعي، وتنمية السلوك المضاد للاحتيال، وتجنيب الأفراد والجماعات أي تجاوز أو انتهاك.
البحث في علم النفس السياسي
الأبواب والمحاور المقترحة:
يمكن لعلم النفس السياسي أن يبوب ضمن محاور، نقترح أن يتم الخوض في قضاياها على نحو ما يأتي:
المحور الأول: الدوافع والعمل السياسي
إذا كانت حاجات «الأمن» و «الحرية» و «الانتماء» و «الاستقلال» و «التقدير الاجتماعي» و «التعبير عن الذات» تمثل دوافع نفسية استقرت في علم النفس الحديث بحسب ما قرره «ماسلو» [7] وغيره، فإنه يمكن القول: إن الدوافع لممـارسة السياسة تتحرك عبر تلك الحاجات.
فالحاجة إلى القوة تبرز بوصفها أحد دوافع الأمن، والقوة تمثل في حد ذاتها مطلبا لحفظ الذات والتقدير، وإذا كان للقوة منحى طبيعي ومشروع، [ ص: 128 ] فإن المبالغة في إشباعها قد تعكس «نرجسية» أو اضطرابا يلازم متعاطي السياسة – كما يرى «إريك فروم».
وفي الإطار العربي والإسلامي، وفي ظل سيكولوجية النرجسية، نجد من السياسيين من يرفع الصوت ويفتعل القضايا ويطرح الشعارات ليجعل من شخصه مركزا لجذب الانتباه، وقد تبلغ النرجسية حدودا يتضخم خلالها تقدير الذات إلى الحد الذي قد يرى السياسي نفسه وكأنه مبعوث العناية الإلهية أو «القائد الضرورة» الذي لا غنـى عنه، وهو في هـذه الحالة قد لا يتصور - إذا كان ماسكا بزمام السلطة - أن يكون في يوم ما خارج اللعبة السياسية، لهذا هـو شديد الحساسية إزاء أي انتقاد يوجه إليه، ويرفض أي شيء يسبب له جروحا نرجسية، وتلك حالة مرضية قد تأخذ أشكالا «ذهانية» أو «هذائية» أو «عظامية»، وهذا ما كان يعيشه أمثال هـتلر وموسوليني [8] ، ومن قبل فرعون وهامان وغيرهم من الطغاة.
إن الحاجة إلى الانتماء أو نيل الحرية والاستقلال أو ممارسة الحقوق والواجبات، قد تدفع بممارس السياسة إلى الحرص على حيازة القوة، فإنه من الممكن أن يمارسها عبر مداخل وآليات مشروعة، كما قد يمارسها عبر مداخل وآليات غير مشروعة، ولهذا يمكننا التحدث عن الممارسـة القيادية أو السياسية التي تتم بدافع الإشباع النفسي وتأخذ منحى طبيعيا ولا تتجاوز الشروط الصحية. [ ص: 129 ] من جهة أخرى يقرر الباحثون أن العلاقة بين القادة والأتباع تتخذ في العادة طابعا تبادليا، فالقادة يمنحون الأمن لأتباعهم، والأتباع يمنحون القادة ما يحتاجون إليه من ولاء [9] .
كما أن الانتماء السياسي قد يحدث في إطار التزاوج بين الإشباع النفسي والاقتناع الآيديولوجي،
يقول تعالى: ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ) (الحج:41) ،
فيما لا تبدو الآيديولوجيا في ظل حالات أخرى سوى قناع يخفي نزعة التسلق، أو طلب الشهرة أو حب الظهور، أو سد منافذ الشعور بالنقص، وهنا تظهر المفارقة بين الممارسات والشعارات،
يقول تعالى: ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ) (البقرة:204-206) ،
ناهيك عن أن الإحساس بالنقص أو الحرمان أو العجز قد يشكل دوافع أساسية وراء تحديد وجهة الانتماء.
ولا شك أنه إذا ما نظر إلى السلطة على أنـها «غنيمـة» أو «متعة» أو «استئثار»، فإن لذلك آثاره السلبية التي تنعكس بالضرورة على كيان الدولة وحياة المجتمع. [ ص: 130 ] لذلك فدراسة العمل السياسي من زاوية الدوافع مسألة جد مهمة، لا سيما عند تقويم الشخصيات أو تحديد طبيعة نشأة المنظمات أو تحليل الأنشطة والممارسات، ولا شك أن الإسلام بربطه الأعمال بالنيات إنما يكون قد أولى أهمية بالغة للدوافع، ( يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) [10] ، لهذا كان من غير المستساغ الحرص على طلب السلطة، ( يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنا والله لا نولي على هـذا العمل أحدا سأله ولا أحدا حرص عليه ) [11] ، كما لم يعط الإسلام الشرعية بأية حال لمن كان أمره فرطا،
يقول تعالى: ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هـواه وكان أمره فرطا ) (الكهف:28) .
من جهة أخرى أكد الإسلام رفض الازدواجـية والتناقض، واعتبر أن لا قيمة للأعمـال الإيجـابية في الحقل السيـاسي إذا ما اقترنت بارتكاب جـرائم أو تجـاوزات، كما لم يعـط الإسـلام تبريرا لأية وسيلة محرمة أو مرذولة؛ لأن القاعدة في هـذا هـي أن: «لا يطاع الله من حيث يعصى»
، ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) (البقرة:85) [ ص: 131 ]
المحور الثاني: مراحل النمو النفسي – السياسي
الفرد في مراحل حياته المختلفة يمر بتجارب وخبرات سياسية تظل مغموسة في أعماق الوجدان وبين طيات الذاكرة، وقد يبرز مفعولها في أوقات لاحقة، فتجارب الطفولة والمراهقة وخبرات النضج، في أطر الأسرة والمدرسة وبين الجماعة المرجعية، تسهم ولا شك في صوغ الرؤى وتحديد الاتجاهات، ولا شك أن الخبرات السياسية المباشرة ستكون أكثر فاعلية على هـذا الصعيد، كما قد تتدرج أو تتكيف أو تتغير تلك الخبرات بحسب اختلاف المراحل وتوالي عمليات التنشئة السياسية.
إلا أن ثمة تساؤلا يثار هـنا ويحتاج إلى إجابة، وهو: أيهما أكثر فاعلية في تحديد النمو السياسي: المحدد النفسي - الوجداني، أم المحدد النفسي – الإدراكي؟ أي هـل أن السلوك السياسي تحكمه العواطف والميول النفسية، أم تحكمه القيم والمدركات العقلية؟
هذا ما تجدر دراسته، والبحث عن إجابة له في هـذا السياق.
ومن الظواهر والسلوكيات الأخرى التي تتباين بالمتغيرات: حالة المقهور أو المعارض الذي يتحول - إذا ما آلت إليه السلطة - إلى سلطان قاهر يمارس القمع والفساد ربما أكثر مما كان يمارسه المتسلط الذي سبقه, وتلك ظاهرة جديرة بالتساؤل والبحث أيضا.
ومن الأسئلة التي يجدر طرحها: إلى أي حد تؤثر «التنشئة السياسية» الموصولة بالذاكرة التاريخية على التفكير السياسي؟ وهل أن الذاكرة السياسية [ ص: 132 ] التاريخية تمثل إحياء لما هـو ماثل من بنية اجتماعية، أم هـي مجرد موروث من الموروثات الذهنية؟
لا شك أن ثمة «لاشعور سيـاسي» يتشكل وفقا لخـلفيات عرقيـة أو طائفية أو طبقية, ويظل يلازم الإنسان وينعكس على طبقات تصوراته ومواقفه, وليس بالإمكان التخلص منه إلا بحدوث هـزة كبرى تستطيع قطع ذلكم التواصل اللاشعوري المعوق.
إن الكثير من جوانب السلوك السياسي لا يمكن فهمها إلا عبر تحليل المتغيرات النفسية التى تحكم مراحل النمو السياسي، ولا شك أن ما قدمناه يبرز أمامنا أهمية «التربية السياسية» بصفتها إحدى أدوات التغيير.
- المحور الثالث: سيكولوجية الحاكم
شخصية الحاكم، ملكا كان أو رئيسا, منتخبا أو غير منتخب , تنطوي على طبيعة خاصة, ومن الضروري وضعها على طاوله التشريح, فإذا كان « هـارولد لازويل Lasswel» قد جعل من الفرد وحدة للتحليل, وربط بين الثقافة والسياسة, فإن كلا من « فالفيرد » و « بارينو قد ميز - في ضوء السمات الثقافية والعقلية - بين نمط «الثعالب» ونمط «الأسود»، فيما أكد ربرتو ميشيلز » على أن التعود على السلطة قمين بزرع مشاعر تعظيم «الذات» إلى الحد الذي تصبح فيه فكرة التنازل أو التخلي عن السلطة أمرا مستبعدا، بل إن المطابقة بين «الذات» والنظام قد تصير سجية عند المسحور بالسلطة, حتى لتصبح كلمة لويس الرابع عشر: «أنا الدولة والدولة أنا» هـي لسان الحال. [ ص: 133 ] والحقيقة أن كثيرا من المغامرات العسكرية والسياسية مردها ذلكم الشـعور الناشئ عن «مركبات النقص» أو «العصاب» أو «السيكوباتية» أو الاضطرابات التي هـي سمات كثير من المصابين بمرض التحكم والاستبداد.
إن التشخيص المبكر لحالة الإصابة بنـزعة الاستبداد، من شأنه أن يساعد على أخذ الحيطة؛ لمنع ما قد يترتب على ذلك من تداعيات وانحدارات.
لقد فسرت ظاهرة الطغيان مرة من منظور فلسفي، كما هـو عند « أرسطو » و « هـيجل » حين تحدثا عما سمي بـ «الاستبداد الشرقي» وثنائية السادة والعبيد؛ ومرة من منظور اقتصادي، كما فعلت الماركسية حين قالت بـ «النمط الآسيوي للإنتاج»؛ وثالثه من منظور سيكولوجي، كما في نظرية التحليل النفسي، وبخـاصة عند « إريك فروم » الذي تحدث عن «السادومازوشية» [12] في العلاقات السلطوية.
غير أننا إزاء هـذا التفسيرات لا يسعنا - من منظور مغاير- إلا أن نرفض فكرة أن الاستبداد سمة ثابتة ولصيقة بشعب بعينه, فالاستبداد منـزع ينمو عبر تفاعلات هـوى الذات والظروف الموضوعية المحيطة, ولا شك أن الاعتقاد بعظمة الخالق وكبريائه من شأنه أن يحول دون تنامي ذلك المنـزع, بل قد يمنح القدرة على التفريق في الحقـل السيـاسي بين ما هـو منحرف [ ص: 134 ] وما هـو مستقيم, وما هـو ميكافللي وما هـو نبيل, وبين من يستهدف الحكم بوصفه مسئولية ولا يبتغي وراء ذلك غير الإصلاح, ومن يستهدفه بوصفه ملكا عضوضا أو متعة وإسرافا ( ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ) (الشعراء:151-152) .
إن الدراسة التشخيصية للأنماط السلوكيه المختلفة عند السياسيين والحكام والقادة [13] تمثل إحدى أهم العناصر المهمة في مباحث علم النفس السياسي [14] ، ولا شك أن الكشف عن خصائص القادة والحكام, وما يتحكم بسلوكياتهم من دوافع واتجاهات، يمكن إخضاعه - في إطار المجال العربي والإسلامي- إلى ما قرره الشرع شروطا للقيادة الصالحة؛ وبناء على تلك الشروط يمكن وضع نظرية في التقويم السياسي.
- المحور الرابع: سيكولوجية المحكوم
إن الفرد في علاقته بالسلطة لا يعدو أن يكون واحدا من ثلاثة: حاكم يزاول الحكم , أو محكوم يخضع طائعا أو مكرها, أو معارض يتحين الفرص للانقضاض، وهذه المواقف تفرز بطبيعتها أنماطا مختلفة من الأمزجة [ ص: 135 ] والسلوكيات السياسية [15] .. ومن الحقائق التي تكشف عنها الكثير من التجارب أن الحاكم هـو منتوج لسيكولوجية المحكوم ( كما تكونون يول عليكم ) [16] مثلما أن المحكوم هـو منتوج لسيكولوجية الحاكم «الناس على دين ملوكهم»، لذا نجد أنه في ظل الاستبداد «يضطر الناس - كما يقول الكواكبي - إلى استباحة الكذب والتحيل والخداع والنفاق والتذلل.. وينتج من ذلك أن الاستبداد المشئوم يتولى بطبعه تربية الناس على هـذه الخصال الملعونة» [17] ، لهذا لم يعتد المستبدون غير تقريب المداحـين والمداهنين, والحقد على ذوي الكرامة والشرف وإبعادهم عن مواقع التأثير، ولا ريب أن الجمـاهير بتزلفـها وخضـوعها لأهل الحـكم إنما ترفع من نرجسيتهم ولا تزيدهم إلا خبالا.
ويتفاقم الأمر عند خلو الساحة من أهل الرفض ودعاة التغيير, إذ قد يتحول المقهورون أنفسهم إلى مصدر من مصادر إنتاج القهر, وللتربوي البرازيلي « باولو فرايري » تشخيص لهذه الحالة يقول فيه: «إن المقهورين في مرحلة من مراحل حياتـهم وهم يحسون بشيء من التوافق مع قاهريهم, فلا يكادون يحسونهم خارج أنفسهم, ولا يعني ذلك: أنهم لا يعرفون واقعهم الحقيقي, بل يعني: أن تصوراتهم أفعمت بحقيقة الاضطهاد الذي يعانونه كل [ ص: 136 ] يوم بدرجة جعلتهم لا يشعرون بضرورة النضال من أجل تغيير التناقض القائم بينهم وبين مضطهديهم» [18] .
لقد أشار « بيسوفسكي » عند دراسته لتاريخ الطغيان إلى لجوء المحكوم - حين يكون أداة بيد القاهر - إلى حيلة دفاعية يبرر فيها تبعيته تتمثل بقوله «لست وحدي يفعل ذلك, الكثير غيري يفعلون»، وكثيرا ما يستغل الطغاة هـذا الضعف ويعملون على تكريسه بمختلف الطرق والأساليب، لتشيع الطاعة ويسود الانصياع [19] وقد صدق تعالى حين قال
( فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين ) (الزخرف:54) .
ومن الملاحظات السيكولوجية الأخرى على هـذا الصعيد: أن الألفة التي يستشعرها المقهور إزاء عدوانية القاهر وتبخيسه، تتحول في لحظة أخرى إلى سلوك سلبي يتمثل بإظهار الكسل أو ممارسة التخريب أو المناكفة الرمزية عن طريق إطلاق النكات أو التشنيعات أو نحو ذلك، مما يكشف عن ازدواجية لافتة [20] .
أما ذو الحساسية والمشبعون بقيم الحرية والكرامة، والمؤمنون بمبدأ المفاصلة مع الظالم وعدم الركون إليه ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم [ ص: 137 ] النار ) (هود: 113)
فكثيرا ما يتعرضون لحالات من «الاغتراب» الذي يمنعهم من المشاركة أو الانخراط في الشأن العام، الذي قد ينتهي بهم في ظل القهر - لا سيما إذا كان شموليا - إلى اتخاذ المواقف المعارضة بشكل معلن، أو الهجرة بعيدا عن الأوطان.
وفي هـذا السياق يمكن للباحث في المجال العربي والإسلامي أن يتناول سيكولوجية المهاجرين والمنفيين لأسباب سياسية، كما بوسعه أن يتعرض للحالات التي تعاني منها الجماعات المضطهدة أو المهمشة، وكذلك دراسة الأقليات وتحليل الظروف والخلفيات التي تحيط بهذه الأقليات، وأثر ذلك في سيكولوجيتها واتجاهاتها العامة، فضلا عن دراسة الحالات السلبية المنحرفة، كالخيانة والتجسس المضاد للمجتمع والإرهاب ونحو ذلك.
المحور الخامس: سيكولوجية الشعوب
نظرية «الطابع القومي» التي تقول: إن لكل جماعة سمات نفسية سياسية تميزها عن غيرها من الجماعات، تعتبر من المداخل الرئيسة لتحليل ظاهرة العلاقات السلطوية [21] ، فأفلاطون كان يرى أن الاعتداد والاتزان اللذين يبديهما الإغريقي إزاء السلطة مرجعه إلى قوة الانتماء، أما ما يكنه المصري من احترام للحاكم فمرده إلى سمات الشخصية القومية [22] التي تتشكل سياسيا - برأي د. محمد نور فرحات - وفقا لطبيعة المكان وأنموذج السلطة [ ص: 138 ] القائم [23] ، فيما يرد ولاء اليهودي العميق لجماعته الدينية – القومية إلى طبيعة التكوين الخاص بالشخصية اليهودية التي اعتادت العيش أقلية بين الشعوب، لهذا لا غرابة أن يتفاخر عالم كفرويد بيهوديته، على الرغم من نزعته اللادينية، بل لا يسعه إلا التمسك بجمعية «Brith Bani» الصهيونية التي ظل ينتمي إليها حتى ساعة وفاته [24] .
إذن يمكن القول: إن التنشئة والإطار النفسي العام لأية جمـاعة قومية أو دينية تنعكس بدرجة أو أخرى على السلوك السياسي، وهذا يحيلنا إلى الظاهرة الطائفية التي تمثل تكتلا مباشرا أو ضمنيا تحكمه المصالح الدنيوية، وهي توفر بطبيعتها الإطار النفسي لانبثاق العديد من المواقف والاتجاهات السياسية التي يصعب تغييرها.
لقد حاول الدكتور محمد عابد الجابري تطبيق مقولة «اللاشعور السياسي» وهو يحلل النفسية السياسية العربية، معتبرا أن «المكبوتات» العشائرية والطـائفية والتاريخية كثيرا ما تتجلى عبر صراعات المشهد السياسي المعاصر [25] . [ ص: 139 ] وقد سبق لـ «دوركايم» أن كتب عن «العقل الجماعي»
[26] بما يعنيه من نسق من التصورات والمشاعر والذكريات والأمزجة المتشابهة التي تتجلى في سلوكيات الأفراد على مختلف الجوانب، كما تحدث « ماكس فيبر » عن العلاقة بين الشخصية البروتستانية والقيم الاقتصادية الرأسمالية.
إن القول بالسمات السيكولوجية للشعوب قد بدأ مع « هـردر » صاحب «مدرسة سيكولوجية الشعوب» التي تبلورت عبر أبحاث « فونديت » الميدانية، التي كانت بمثابة المقدمة الحقيقية لعلم النفس السياسي الغربي، كما يقول د. حامد ربيع [27] ، إلا أنه فيما يبدو أن البداية في دراسة سيكولوجية الشعوب تعود إلى ما قدمه الأنثروبولوجي « لازارس Lazarus» ومعه اللغوي « ستاينذال Steinthal» في العام 1860م [28] .
وإذا كانت الاتجاهات العلمية الغربية الجديدة قد أعرضت عموما عن تبني نظرية «الطابع القومي»، إلا أن الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها هـي: أن لكل جماعة أو أمة مدركاتها وميتافيزيقياتها ولا شعورها الجمعي المتصل بالشأن السياسي، مع الإقرار بأن هـذه السمات المتوارثة تظل عرضة للتغيير، لا سيما عند ظهور عوامل حاسمة تضعها أمام منعطفات جديدة تتصل ببنية [ ص: 140 ] الحكم أو علاقات السلطة، كما في حالات التحول من الدكتاتورية المطلقة إلى الديموقراطية والتعددية، أو عند حدوث تحولات عقيدية جذرية كما في انتقال العرب من الجاهلية إلى الإسلام.
إن سيكولوجية الشعوب مجال جدير بأن يبحث في إطاره العديد من القضايا النفسية – السياسية، ولعل دراسة الشعوب الإسلامية والشعوب الأخرى وفقا لهذا المدخل من شأنه أن يوفر مادة غنية قد تساعد على اجتراح النظريات وصياغة المفاهيم التي تقدم صورة دقيقة عن «الذات» و «الآخر»، وما ورد في القرآن والسنة بهذا الخصوص يمكن اعتباره مرشدا في إطار هـذه الدراسات.
المحور السادس: سيكولوجية الصراع السياسي
السياسة في أبرز معانيها امتلاك القوة أو السعي لامتلاكها، وبين من يملك ومن لا يملك لا بد أن يحدث الاختلاف أو التعارض أو التنافس، ومن ثم الصراع
[29] ، والصراع بطبيعته ينطوي على شحنات عاطفية، ويفرض ألوانا من التعصب والتطرف والعنف [30] .
والصراع، سـواء بين المحكومين والحكام، أو بين المجموعات السياسية أو الحكومات أو الشعوب بعضها بعضا، يحتاج إلى معرفة بواعثه، فكثير من [ ص: 141 ] الصراعات تبدو وكأنها تدور حول قضايا عامة، فيما هـي في حقيقتها تنطوي على بواعث ذاتية، يقول «لازويل»: «إن الصراعات الـذاتية تنقل أو تزاح نحو القضايا العامة، بحيث تصبح هـموم الفرد هـموم الشعب، وبمعنى آخر: إن الصراعات النفسية الداخلية تتظاهر على شكل صراعات لأجل المصالح العامة، وإن الأفراد يندفعون إلى الحياة السياسية تحت وطأة عصابهم» [31] ، كما أن الكثير من ظواهر التعصب والتطرف و «رهاب الاختلاف» والعنف والممارسات القهرية، على الرغم من تذرعها بالدين أو المصلحة العامة، هـي في الغالب إفراز لحالات من الأنانية أو الاستكبار أو الرغبة في الاستحواذ ومد النفوذ واستضعاف (الآخر) ، أو التعبير عن الجمـوح والتعصب والعدوانية، أو إشباع ما يعتمل في النفس من رغبات مرضية.
إن الصراع كما يحدث على صعيد الأفراد يحدث على صعيد الجماعات والشعوب، فلنتأمل ظاهرة الاستعمار التي تعكس حالة من الهيمنة التي تمارسها ثقافة على أخرى، لنجد أن للدوافع النفسية حضورا واضحا في تحريكها، فالنـزعة المركزية الأوربية «Eure Centrism» التي تشبع بها الذهن الأنجلوسكسوني ظلت تمثل المحرك اللاشعوري للسلوك التبخيسي الذي يمارس ضد الشعوب الأخرى المستضعفة.
وإذا ما أردنا التنويه ببعض من درس الظاهرة من منظور سيكولوجي سنذكر «دي سوسير» في كتابه «سيكولوجية الاستعمار» [32] ، والطبيب [ ص: 142 ] النفسي «فرانتز فانون» في كتابه «معذبو الأرض» [33] و «مود مانوني» في كتابه «سيكولوجية الاستعمار» وقد كان للمفكر الجزائري مالك بن نبي ، رحمه الله، تعليق على الكتاب الأخير لامس من خلاله الظاهرة وتابع حالاتها وقدم لنا ما أسماه بـ «القابلية للاستعمار» [34] إشارة إلى وقوع عدد من شعوب العالم الإسلامي ضحية الاستعداد السيكولوجي للهيمنة الأجنبية.
إنه يمكن للبحث ضمن هـذا المحور أن يتناول ما يستخدمه الصراع السياسي من آليات كالحرب النفسية وأنشطة الدعاية والغزو الثقـافي، فالدعاية مثلا وهي تمثل سعيا لتغيير الرأي أو السـلوك، كثيرا ما تعتمد الكذب والتضليل والتأثيرات العاطفية أو الفكرية، كما تعد عملية غسيل المخ «brain washing» من المراحل المتقدمة للعمل الدعائي، التي قد ترتفع إلى مستوى التلاعب بعناصر الشخصية لتجعلها أداة طيعة بيد المروضين [35] .
والحرب النفسية [36] حين تستخدم الإعلام والدعاية وغسيل المخ، وكذلك الإشاعة، تستهدف ولا شك إضعاف عقيدة الخصم وتمزيق وحدته [ ص: 143 ] وتحويله إلى كيان مهزوز [37] ، وهذا ما حذر منه القرآن بقوله تعالى وهو يخاطب المؤمنين
( أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ) (التوبة:13) ،
( فلا تخافوهم وخافون ) (آل عمران:175) ،
( لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ) (النور:57) .
كما أن الرأي العام بصفته أحد عناصر السلوك السياسي على مستوى الفرد، وأحد مصادر القوة المحركة للوجود السياسي على مستوى الجماعة، يخضع أيضا لبعض التقنيات النفسية التي يصطنعها أطراف الصراع، وقد «برزت مدرسة علم النفس السلوكية في الولايات المتحدة، وغيرها من المدارس في تبنيها لوجهة نظر هـندسة السلوك، حيث يتردد لدى ممثليها تعبير «تشكيل السلوك» إلى حد مبالغ فيه، حتى أن الأزمات الدولية، بخاصة عقب الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973م قد تحركت انطلاقا من هـذا المبدأ، ووفق تقنية الخطوة خطوة، وكان التدعيم والتعزيز «Reinfereer» مطلوبا عند كل خطوة، ولعل بعض التصريحات التي كانت تظهر هـذا الزعيم أو ذاك في صورة البطل أو الملهم هـي مما كان يطلق وفقا لتلكم التقنيات.
إن العديد من أساليب المكر النفسي وتقنيات الخديعة والإيحاءات المضللة تستخدم من أجل كسب الصراع، لذا فإن المعرفة النفسية تؤثر في إدارة الأزمات، وهي تمثل ضرورة بالنسبة إلى صاحب القرار؛ نظرا لما توفره [ ص: 144 ] من بيانات تتصـل بالخصـم أو المفاوض أو بأنمـاط الاستجابات المحتملة، أو باتجاهات الرأي العام المحلي أو العالمي، وكل ذلك يساعد ولا شك على تحديد المواقف ورسم السياسات، ومن ثم اتخاذ القرار [38] .
وإجمالا نقول: إن معرفة حقائق الصراع وقوانينه وسننه، وتحليل اتجاهاته وآلياته، يمثل ضرورة علمية وعملية بالنسبة إلى المجال العربي والإسلامي، الذي ما برح يعيش حالات من التأزم والصراع.
المحور السابع: الأمراض والعقد النفسية – السياسية
يعتبر موضوع الصحة والمرض، على الصعيد النفسي – السياسي، من المسائل الحيوية التي يمكن معالجتها في إطار المجال العربي والإسلامي اعتمادا على المعطيات العلمية «المطلقة» و «النسبية»، واستهداء بما هـو ثابت من مقررات «الوحي» وتعاليمه.
أ- مظاهر الصحة النفسية – السياسية:
إن ثمة مظاهر للصحة النفسية السياسية يمكن تلمسها عبر ما يأتي:
1- تبني إطار قيمي في حقل الممارسة السياسية يقوم على أساس التوفيق بين السياسة والأخلاق.
2- النظر إلى العمل السيـاسي بصفته تكـليفا لا تشريفا، ومسئولية لا متعة أو هـواية. [ ص: 145 ] 3- ضبـط النفس وتحقيـق الاتزان الانفعـالي، والتحلي بالصبر وكظم الغيض، والقدرة على العفو
( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ) (آل عمران: 134) واعتبـار أن من لا يتمـتع بتلك الصفات لا يصلح لتحمل المسئولية القيادية.
4- التوافق والرضا، سواء مع النفس أو مع الآخرين، وهذا لا يتوفر دون الحصول على الشرعية ونيل رضا الناس، وهو ما يفتقر إليه أولئك الذين يسرقون السلطة أو ينالونها بالقوة أو الغصب.
ب- الأمراض النفسية – السياسية:
هناك من السمات والسلوكيات السياسية التي تعبر عن حالات غير سوية في مقدمتها:
1- الاستكبار السياسي: الاستكبار نزعة يصاب بها الفرد، كما تصاب بها الجماعة، وهي على الصعيدين قد تصل إلى مستويات مرضية بالغة.
إن الشخصـية المستـكبرة شخصية نرجسية يملؤها الاعتزاز بالنفس ولا تتحمل النقد أو المساءلة، بخلاف الشخصية المتواضعة والتقية التي لا تبغي علوا في الأرض ولا فسادا، يقول تعالى:
( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ) (القصص:83)
لهذا يمثل الاستكبار حالة مرضية خطيرة، وتزداد خطورتها عند امتلاك السلطة، وتزداد أكثر إذا ما تجسدت في كيان دولي لا تحكمه القيود، إذ إن [ ص: 146 ] من تداعيات مثل هـذه الحالة امتدادها إلى نطاق أكثر اتساعا، ولعل النـزعة المركزية الغربية التي تتحكم بسيكولوجية صناع القرار الدولي قد باتت تشكل خطرا ينذر بعواقب وخيمة على العالم، لا سيما في ظل التعامي عن رؤية الحقائق والاندفاع بحمق نحو إشعال نيران الصراع.
2- الخوف السياسي: إذا كان الحذر مطلوبا في العمل السياسي، فإن الخوف المبالغ فيه يمثل حالة سلبية، سواء على صعيد الفرد أو على صعيد الجماعة، وذلك بالنظر لما تفرزه مثل هـذه الحالة من تراجع أو استكانة أمام حالات الظلم أو الفساد.
إن الطغاة عادة ما يعتمدون التخويف وسيلة لاستئصال روح المبادرة حتى فيما يتصل بحماية المصالح العليا أو مواجهة الأخطار العامة [39] ، وإنه لفي ظل التخويف قد يتماهى المقهور مع القاهر إلى الدرجة التي يصبح فيها الأول أداة يبطش بها الثاني، أو بوقا يروج عبره ما شاء له أن يروج، لهذا كانت التربية الإسلامية تركز على مقاومة الخوف عبر كشف الحجم الحقيقي للطغاة، يقول تعالى:
( لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ) (النور: 57)
( ويخوفونك بالذين من دونه ) (الزمر:36) ،
( فلا تخافوهم وخافون ) (آل عمران:175) .
ومن المفارقات اللافتة على هـذا الصعيد ما أشار إليه المؤرخ الجبرتي وهو يصف شعور الفلاح المصري نحو جامعي الضرائب بقوله: «أما إذا التزم [ ص: 147 ] بهم ذو رحمة ازدروه في أعينهم واستهانوا به وبخدمه..» [40] . وهذا يعني أن الاندماج بالقاهر كثيرا ما يولد في نفس المقهور إعجابا خفيا بشخصية ذلك القاهر، وإلا كيف يستهان بالموظف الذي يتعامل بلين ورحمـة ولا يمنح ما يستحقه من تقدير؟!
3- التطرف السياسي: السياسة بوصفها أحد أكثر أشكال الإدارة شمولا وتعقيدا، تحتاج إلى الكثير من الحكمة والصبر والسعة والاعتدال وبعد النظر، أي: إن التطرف والغلو هـو ما يجب على السياسي تجنبه، وأن التزامه بالتوازن عند تعامله مع الآخرين هـو ما يجب عليه.
صحيح أن التعاطي بالسياسة يحتمل الكثير من الاختلاف، إلا أنه ليس بالضرورة أن يتحول ذلك الاختلاف إرهابا تشتعل في حقوله النيران وتشيع في جوانبه الكراهية وروح الصدام، فالممارسة السياسية إذا ما امتزجت باللين والحسنى فإنها ستذلل الكثير من المشاكل والصعاب، ولهذا أوصى الله تعالى نبيه موسى وأخاه هـارون أن يجربا لغة الحسنى حتى مع من كان جبارا عتيا:
( اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) (طه:43-44) .
والمواقف المتطرفة على الصعيد الدولي لا تنسجم مع حالة «الوسطية» التي وصف الله بها أمة المسلمين: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا [ ص: 148 ] شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة:143) ،
فالتعامل مع (الآخر) بقدر من المرونة واتباع الحسنى، ودون إظهار العداوة أو التطرف، من شأنه أن يساعد على التفاهم وتوفير مناخات أفضل لتحقيق السلام.
والحقيقة: أن التطرف يمكن أن يتجلى حتى على مستوى أنماط التفكير والعمل، فقد يسيطر في حالات «ذهان الاستحالة» كما قد يسيطر في حالات أخرى «ذهان السهولة» [41] وفي الحالتين تظهر المبالغة وتتضخم الأمور، فحيث إن «ذهان الاستحالة» يعكس نظرة سلبية تستبعد إمكانيات التجاوز وتحقيق ما هـو ممكن، فإن «ذهان السهولة» يعكس نظرة تستهين بالتعقيدات ولا تعير أهمية لما هـو متوقع من صعوبات، فتستسهل وتستبسط الأمور بأشكال غير موضوعية، وكلا المسلكين يفقد الواقعية ويجنح نحو التطرف الذي لا يفضي إلى النجاح.
4- النفاق السياسي: السياسة بصفتها مشروعا اجتماعيا عاما تحتاج ولا شك إلى الاستراتيجيات الواضحة، التي تتحدد خلالها الالتزامات والمسئوليات، وتبين عبر برامجها الحقوق والواجبات.
والسياسي شأنه شأن الموظف، لا يسعه إلا التقيد بتلك الاسترتيجيات، ولا يحسن به مباشرة المسئولية بشكل غامض أو من خلال ارتداء الأقنعة المتعددة، التي لا تقتضيها ضرورات المناورة أو التكتيك المشروع. [ ص: 149 ] إن الازدواجية تمثل وجها آخر للنفاق، سواء أكانت في الأقوال أم في الأفعال أو في الولاءات، ولعل المشهد السياسي العربي والإسلامي حافل بالكثير من السلوكيات السياسية التي تدخل في باب النفاق، فها هـو عدد من القادة قد تراه يتحدث مع شعبه بلغة ومع الآخرين بأخرى، أو يتعامل مع جماعة بأسلوب ومع غيرها بأسلوب آخر وتجدون « وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هـؤلاء بوجه ويأتي هـؤلاء بوجه» [42] . والقرآن أشار إلى هـذه الحالة، يقول تعالى:
( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ) (البقرة:14، 15) .
إن غياب وحدة القيم يمكن أن يعرض السياسي إلى الإصابة بمثل هـذا المرض، الذي يجـدر بمن هـو مؤمن أن يتحصـن منه، وأن يحرص على أن لا يقع فيه.
5- الديماغوجية (الاعتباطية) : من السياسيين من يعتمد رفع الشعارات، ويعتاد التلاعب بالمشاعر والعقول عـبر ما يسوقـه من أوهام أو أحلام لا أساس لها، وهذا ما نجده عند بعض «الشعبويين» من ذوي الأطروحات الصـوتية الذين يفتعلون القضـايا، ولا يفكرون كثيرا بزيف أو عوار ما يطرحون. [ ص: 150 ] إن السلوك السياسي السوي مشروط بصفات الصدق والوضوح:
( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) (الأنعام:50) .
وكان لا مانع من أن يتحدث السياسي بلغة الطموحات، فإنه يجب أن لا يغلف ذلك بالمبالغات والتهويل، ليتميز بذلك السوي عن المصاب بداء الغوغائية والتضليل.
ويمكن القول: إنه كلما خلت الشخصيات السياسية، لا سيما القيادية منها، من تلك الأمراض والعقد النفسية التي عرضنا لها، استطاعت أن تقدم نفسها نماذج مقبولة.
والحقيقة: أن التربية السياسية المستمرة تظل إحدى الضمانات التي يمكن من خلالها تحقيق الضبط السلوكي لكل من يتعاطى السياسة، قائدا كان أو مواطنا عاديا.
تعقيب
إذا كنا قد تعرضنا لأبرز المحاور والموضوعات المقترحة لبناء علم نفس سياسي، وشرعنا من خلال ذلك بوضع المقدمات الأساسية التي يقتضيها هـذا الأمر، فإنه من المطلوب أن يتطور المقترح بإجراء البحوث التي تنهض على قاعدة تأصيل العلم وتوطين موضوعاته في إطار المجال العربي والإسلامي. [ ص: 151 ] وهذا ما لا يتم إلا بالاستناد إلى المرتكزات الآتية:
الأول: إسلامية المسلمات والمدركات النفسية الكلية:
يتجلى هـذا المرتكز عند بلورة المسلمات النفسية، وصياغة المدركات المعرفية المتصلة بسيكولوجية الفرد والجماعة على الصعيد السياسي، التي يمكن تحريرها استنادا إلى النصوص القرآنية والنبـوية، وبالاستـئناس ببعض ما ورد في التراث من مقولات وإضاءات.
الثاني: جغرافية القضايا السلوكية:
نعني بجغرافية القضايا السلوكية: الوقوف عند الظواهر النفسية - السياسية المشهودة، القائمة على أرض الواقع المحلي، ودراستها، للوصول إلى الكشف عن الاطرادات والقوانين والتعميمات التي تحكم السلوكيات السياسية للفرد والمجتمع في الإطار العربي والإسلامي.
الثالث: الحقائق النفسية المطلقة:
إضافة إلى اعتماد المرتكزين المذكورين، تظل الحقائق النفسية الإنسانية العامة، التي يمكن أن يتوصل إليها علماء النفس أينما يكونوا هـي المرتكز الأساس في بناء علم النفس السياسي وتوطينه في المجال العربي والإسلامي. [ ص: 152 ]