المعرفة التكاملية والنجاح
إذا كنا قد ألمحنا -فيما تقدم- إلى ما قد يوفره المنظور التكاملي من استيعاب للأبعاد الفلسفية والعلمية والاجتماعية، فهل ترانا بحاجة إلى الإشارة إلى ظاهرة التلازم بين التكامل والنجاح المهني؟
ولتوضيح هـذه النقطة، دعونا نشاهد هـذا الطبيب الممدوح، الذي يعتمد الناس على دراياته، حتى وإن لم يكن تأهيله الأكاديمي بأفضل من زميله الذي قد لا يحوز الثقة ولا يتلقى غير الإعراض، لا لشيء إلا لأن الأول كان أكثر تفهما لأبعاد المرض النفسية والبيئية، وأقدر على التعامل مع المرضى عبر جدله الطب بأطراف الحقائق الأخرى.. والأمر نفسه يمكن تلمسه في حقل التعليم، حين يتفاعل الطلبة مع أستاذ قد لا يتميز عن زمـلائه إلا بما حازه من قدرة على دعم تخصصة بثقافة عامة ووعي تربوي ومهارات اتصالية.
والمعطيات الإيجابية لمثل هـذه الشروط يمكن متابعتها -إذا توافرت- في أكثر من مهنة وحقل، الأمر الذي يقودنا إلى تأكيد أنه من غـير اللائق أن [ ص: 197 ] لا يتحرج المتخصص في الحقل «العلمي» من جهله التام بالتاريخ والدين والفلسفة والأدب، أو أن يتباهى متخصص في قسم ما بأن قدراته في اللغة الأجنبية أعلى من قدراته في اللغة القومية، فالحق أن تكاملية المعرفة أدعى لترسيـخ قدم التخصـص من أحاديتها، بل في أرضـية التكامل تنضح ثمرة النجاح.
كما في الأول، في الأخير، نوافق على أن ثورة المعلومات، وضرورات تقسيم العمل ومقتضيات التعمق، استدعت التوفر على التخصص، غير أن كل ذلك لا يعفي من الإلحاح على حقيقة أن أي علم يفرض على صاحبه اتصالا بالعلوم المجاورة أو المغذية أو المضيئة، حتى إذا ما انكفأ العالم مدققا في الظاهرة موضع الاهتمام، أبقى النظر مفتوحا على سائر الظواهر الأخرى.
إنها دعوة إلى إعادة النظر بالمفهوم الضيق للعلم، واعتماد نظرة شمولية تستوعب كل الأبعاد أيا كان التخصص [1] ، فالعلوم الحقة ما هـي إلا فروع لشجرة واحدة تستقي جـذورها -بتلازم واتساق- من حقيقة الخـالق، وما أودع في الكون والإنسان وسائر المخلوقات من سنن وقوانين وحقائق. [ ص: 198 ]