- معنى توطين العلوم في الجامعات العربية والإسلامية:
العلوم التي تعتمدها الجامعات في المجال العربي والإسلامي هـي في عمومها، وبحكم غربيتها، لا تلامس أكثر مشكلات الواقع، ولا تلبي أغلب متطلباته الحقيقية؛ نظرا لكونها تصطبغ بصبغة منتجها الفلسفية والثقافية، ولم تظهر إلا ضمن سياقاته التاريخية، وفي إطار نظمه الاجتماعية، لهذا نجد معظم التدريسيين والباحثين في ظلها ما هـم إلا ناقلون يتعاطون ما تحويه تلك العلوم من مفاهيم ونظريات ومناهج، بطريقة أضحى معها العلم الغربي وكأنه حقائق ثابتة لا تقبل المراجعة أو التعديل.
وتلك إشكالية تصدق بشكل خاص على العلوم الإنسانية، ولا تنجو منها -كما بينا- العلوم الطبيعية أو غيرها من العلوم، فيما لا تراعى عند نقل [ ص: 41 ] التكنولوجيا الاعتبارات الثقـافية والبيئيـة والتنموية الخاصة بالمجتمع العربي أو الإسلامي الذي تنقل إليه.
إنه حين لا يمكننا النظر إلى العلوم كما لو كانت مجموعة من الأشياء القابلة للتداول عبر كل المجتمعات والحضارات، أفلا يحرك ذلك بالضرورة دعـوى إعـادة بناء المعرفـة وتكوين العلوم بالمعنى الذي يقربنا من موضوع التوطين؟
إن الإجابة عن ذلك تفرض مواجهة سؤال اعتراضي: هـل للعلم وطن؟
والإجابة عن هـذا السؤال لا بد لها أن تبدأ بتوضيـح معـنى العلم، وما يحمله هـذا المعنى من دلالات.
- معنى العلم:
العـلم هـو: إدراك الكلي أو المركب [1] ، والعـلم يبحث فيما هـو كائن، كما يعنـي: تنظيـم المعرفة وفقا لنسـق منهجي معين، وقد يطـلق مجازا على ما يسمى بـ «المعرفة العلمية» [2] التي تعنى بدراسة الظـواهر عن طريق الملاحظـة والتحليل، ومن خلال «منهج» يناسب طبيعة الموضـوع المدروس بقصـد الوصـول إلى القوانين التي تفسر [ ص: 42 ] الظواهر، والعلم بهذا المعنى يختلف عن «المعرفة» التي تشمل المعارف العلمية وغير العلمية [3] .
وفي التعريفات للجرجاني: العـلم هـو: الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، أو هـو إدراك الشيء على ما هـو عليه [4] . «والعلم» في القرآن - كما جاء في «المفردات» للأصفهاني هـو: «معرفة الأشياء على حقيقتها» [5] ، والتحديد الأخير يحمل المعنى الموضوعي للعلم، سواء أكان العلم إنسانيا أم طبيعيا.
ولا شك أن أكمل صورة للعلم هـي عندما توصف الأشياء والظواهر على صورتها الحقيقية، علما بأن العقل الحديث لم يعد يحصر العلم بالوقائع التي يمكن إخضاعها مباشرة للتجربة، إنما صار يرى أن أية «قرينة منطقية» حتى مع استنادها إلى تجارب ومشاهدات غير مباشرة قد تشكل «حقيقة علمية» بالدرجة نفسها التي تصبح فيها الحقائق المشهودة عن طريق مباشر حقائق علمية [6] . [ ص: 43 ] وإجمالا يمكن تعريف العلم بالمعرفة العقلية المنضبطة والمترابطة، التي تكشف عن قوانين الإنسان والواقع والطبيعة والأشياء واطرادات السنن المادية وغير المادية، بما يسـاعد على فهم الظـواهر والمشـكلات، والتنبؤ بما يترتب على ذلك من معطيات أو نتائج.
والعلم بما هـو سعي للبرهنة واستنباط القوانين يمثل ولا شك فاعلية ذهنية ونشاطا عقليا ممتازا، إلا أنه لا يعد المعيار الوحيد للكشف عن الحقيقة، كما ليست أداته البرهانية تمثل النمط الوحيد للمعقولية، فالعـلم قد ينشئ قواعـد أو قوانين ولكنه لا ينشئ معنى؛ لأن المعنـى ينبجس بالتأمل والحدس [7] .
وإذا كان الحديث عن «العلم» من الناحية العملية ينصرف إلى الحقائق التي تعبر عن العلاقات الموضوعية التي تحكم الوجود الإنساني أو الفيزيقي، والتي يستحصل عليها عن طريق الجماعة العلمية عبر مناهج وأدوات ووسائل مختلفة، فلا شك أنه بهذا المعنى ينصرف إلى الجهد الذي يسعى إلى الربط بين الأسباب والمسببات، ويعمل على كشف العوامل المتضافرة التي تصنع الظاهرة لتستنبط بعد ذلك «المبادئ» وتوضع «النظريات» وتصاغ «المفاهيم» في إطار ما يسمى بـ «القوانين» و «التعميمات» العلمية.
غير أن أنشطة العلوم لا تقتصر على هـذا المستوى العياني، الذي يعبر عما هـو كائن، بل تمتد إلى المستوى الذي يسبق النشاط العلمي للعلم، [ ص: 44 ] والذي يتضمن جملة «المسلمات» العقيدية والفلسفية غير التجريبية المتصلة بالكون والإنسان والوجود، والتي تعبر بطبيعتها عن نمط الرؤى والقيم والتحيزات، وهذا المستوى هـو ما نسميه بـ «ما قبل العلم».
كما تتضمن مستوى آخر يعقب النشاط العلمي، ويتمثل بتوظيفات نتائج العلوم ومعطياتها وفقا للأهداف والغـايات، التي تحـددها المصالح أو الآيديولوجيات ، وهذا المستوى هـو ما نسمية بـ «ما بعد العلم».
والحقيقة أن كلا المستويين: ما قبل العلم، وما بعد العلم يتداخلان ويتكاملان بنحو أو بآخر في بناء هـيكلية الأنشطة العلمية وتحديد منطلقاتها ووسائلها وإجراءاتها لمعالجة ما ينبغي أن يكون.
لهذا نقول: إن السيطرة على العلم وتوجيهه، سواء في مرحلة «ما قبل العلم» أو في مرحلة «ما بعد العلم»، تقتضي بالضرورة تبني «منهج معرفي» يصبغ حركة العلم -إنسانيا كان أو طبيعيا- ويوجهها على النحو الذي يمنح تلك الحركة الهوية الفكرية والطابع الخاص.
كما تظل البيئة، وحقائق الواقع الإنساني والاجتماعي والمادي والتنموي والحضاري مصادر لإنتاج القوانين «النسبية» التي هـي بالضرورة مؤطرة بإطار جغرافي أو حضاري محدد.
لذلك نقول: إن توطين العلوم لا بد أن يأخذ ثلاثة جوانب:
الأول: فكري، يتمثل بالرؤى الفلسفية والعقيدية والثقافية الخاصة بالمجتمع، والتي يعالجها بعض المهتمين - في المجال العربي الإسلامي - تحت عنوان: «إسلامية المعرفة». [ ص: 45 ]
الثاني: واقعي بيئوي، يتصل بالأبعاد الجغرافية والاجتماعية والبيئية، التي تستلزم وفاقا فيما بين العلم والاشتراطات الموضوعية والتنموية للواقع.
الثالث: سنني، يعمل على التمييز بين «الحقائق والسنن النسبية» و «الحقائق والسنن المطلقة» في معارف الآخرين, كما يعمل على اكتشاف الحقائق والسنن المحلية التي تمنح التوطين أبرز سماته وخصوصياته [8] .
والواقع إن فكرة التوطين بجوانبها المذكورة ظلت بعيدة عن الوعي الجامعي، ولم تنل أي اهتمام يذكر، حتى في ظل جامعات الدول التي تخالف السياسات الغربية، ولعل مرد ذلك إلى أن هـذه الدول لم تطرح اختلافها مع الغرب إلا على الصعيدين السياسي والاقتصادي، ولم تكن تنظر إليه من منظور معرفي وحضاري شامل.
لذا نقول: إن من شروط التوطين الأساسية توفير حالات الانسجام فيما بين العلم والفلسفة من جهة، وفيما بين العلم والمجتمع من جهة ثانية، وفيما بين العلم والبيئة من جهة ثالثة، وذلك ضمن سياقات النظام الاجتماعي الذي ينتمي إليه الناقل، وبحسب ما يتبناه من أهداف خاصة، حتى يمكن وفقا لذلك تحويل التعامل مع العلوم والتكنولوجيا من حالة من حالات النقل المجرد إلى حالات من الاستيعاب والاستنبات فالإبداع. [ ص: 46 ]