حقول التوطين في الجامعات العربية والإسلامية
بعد أن عرفنا بأن مجمـل العلوم التي تتداولها الجامعات العربية والإسلامية ليست نابعة من الداخـل، ولم تتشكل تحت أسقف المجال الثقافي الممتـد من طنجـة إلى جاكرتا ، لذلك فإن العمـل على توطينها على قاعدة بناء العلمية الخـاصة يمثل الأساس الذي يمكنه أن يوفر فرص تملك العلم وإنتاجه، من هـنا عـلينا أن نتعرف الحقـول العلمية التي يمكن أن يشملها التوطـين، وأن نبحث في الإجراءات المعرفية التـي يمكن اعتمادها في ذلك: [ ص: 54 ]
أ- حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية
إن العلوم الإنسانية بوصفها أداة لاستنطاق الواقع، والكشف عن ظواهره، ومعالجة إشكالياته، لا يمكنها أن تكون موضوعية تمام الموضوعية، وحيادية تمام الحياد، ما دامت تنطلق من رؤى مسبقـه أو تصورات لا صلة لها بالتجريب أو الواقع الموضوعي أو الملموس، وهذا يعني: أن النشاط العلمي لا يعمل دائما وفقا لمعطيات ما هـو كائن، بل قد يستصحب معه أفكارا ومسلمات قبلية تمثل «ما قبل العلم» أو ما يسميه آخرون « ميتافيزيقيا العلم» وهو مستوى يؤثر ولا شك في صياغة بعض مفاهيم العلم وفي تكوين بعض نظرياته واتجاهاته.
فمسلمة كمسلمة أن الوجود يسير بشكل آلي، قد انعكست على العديد من الدراسات، كالدراسات التنموية، ونظريات التعلم، وبعض الأفكار السيكولوجية كفكرة اللاوعي الجمعي عند « يونج » وعقدة النقص عند « أدلر »، وبعض أفكار « فرويد » الجنسية، وغيرها، مع أن المسلمة المذكورة هـي افتراض ليس له من أساس.
كما أن مسلمة الطبيعة الحيوانية للإنسان، كثيرا ما تجد انعكاسها على العديد من الأفكار والنظريات التي تحتويها الدراسات الإنسانية والاجتماعية في الغرب.
ومن جهة أخرى نجد أن النشاط العلمي كثيرا ما يختار موضوعاته ومناهجه بناء على غـايات تحكمـها الرغبـة، أو تسـوق إليها المصالح [ ص: 55 ] أو التصورات المنبثقة عن آيديولوجيات ، كما يخضع هـذا النشاط لأشكال من التحكم ليوفر «ضبطا اجتماعيا» أو «هندسة اجتماعية» أو «خدمة اجتماعية»، وهذا كله يندرج ضمن مرحلة «ما بعد العلم» التي لا تعد جزءا من العمل العلمي البحت.
من هـنا تثير تفيصلات النشاط العلمي - الذي يتم على هـذا النحو - عددا من التساؤلات المتعلقة بالمنابع الفكرية لانبثاق «المسلمات» وإنتاج «المفاهيم» والذهنية التي تقف وراء نمط «الفهم» واتجاهات «التحليل» و «التفسير» وصياغة «المبادئ» و «النظريات» وإجراءات «الضبط» و «التحكم»، وتحت ظل أي من المؤثرات يتم كل ذلك، ولأي من الأغراض؟
كل ذلك يجعلنا نؤكد أن الفلسفة والأفكار القبلية، وما تفرضه المصالح والآيديولوجيات، تمثل عناصر أساسية في بناء العلم وتكوينه، الأمر الذي يدفعنا إلى اتخاذ موقف متحفظ إزاء ما تنطوي عليه العلوم السائدة من مسلمات أو نظريات أو غايات قد لا تتفـق مع ما نؤمن به أو نتصـوره أو نهدف إليه.
من هـنا، لا بد في حالة نقل العلم من ممارسة النقد وإجراء التصفية والتقويم لمضامين ذلك العـلم، قبل تبنيها أو إدراجها في مجالات التعليم أو التطبيق. [ ص: 56 ]