الفصل الثالث
البحوث العلمية مدخلا لتوطين العلوم
في الجامعات العربية والإسلامية
كان العلم في الغرب بإشكالياته العملية، من العوامل الرئيسة لنشأة الجامعات وتطويرها هـناك، ففي بريطانيا مثلا شكلت «الجمعيات العلمية الملكية البريطانية» قاعـدة لانبثـاق الكليات والجامعات التي كانت تـهتم بالواقع الصناعي [1] وتضطـلع بمواجهة إشـكالياته، وهو ما لم يحدث مثله في العالم العربي والإسلامي، ساعة تأسيس الكليات والجامعات، إذ لم يكن ذلك التأسيس مواكبا لحالة علمية أو مستجيبا لمشكلات فنية، لهذا لم تكن تعبر تلك الجامعات، فيما نقلته من نظم وأساليب ومناهج، عن علاقة موضوعية بالواقـع، وقد كان الكثـير من أنشطتها العلمية قد اتسم بالافتعال والشكلية، ولم يتجاوز ما هـو سـائد في جامعات الغرب ومراكزه، سواء على المستـوى المعرفي أو الاهتمامات العلمية، حتى إن [ ص: 103 ] الكثـير من مشـكلات المركز الغربي وقضـاياه كانت تأخـذ طريقـها -كما الموضة - إلى مكاتب الجامعات وورش المراكز، وكأن القضايا والمشكلات واحدة هـنا وهناك.
ولعل هـذه الوضعية غير الطبيعية هـي التي جعلت البحوث في معظم الجامعات والمراكز العربية والإسلامية تفتقر إلى الاستراتيجية الوطنية الواضحة، فلا خطة، ولا تحديد موضوعي للأهداف والأولويات، وحتى الطلبة الذين يبتعثون إلى الخارج كثيرا ما يعودون وهم محملون بمفاهيم ونظريات وطرق واهتمامات، لا تتسق مع الواقع واحتياجاته.
كما غابت البحوث الأساسية والإبداعية، وظلت تسيطر على أنشطة أكثر الباحثين الجـوانب الإجرائية، ولم يزل جل مـا يؤلف مجرد مداخل أو مقدمات لا تمثل سوى صدى أو تكرارا لما يتم إنتاجه في الغرب.
حتى الكتابات الميدانية التي يفترض أن تكون معنية بالكشف عن ظواهر البيئة ومعالجة مشكلات الواقع ما برحت محكومة بالمداخل المنهجية والأدوات العلمية المستعارة التي لا تتواءم في أكثرها مع طبيعة الظواهر والمشكلات المحلية، فيما كانت أكثرية البحوث المتقدمة نسبيا لم تغادر تقاليد البحوث الأجنبية، كما لم تقدم مناهج جديدة أو أدوات مبتكرة تتواءم مع الطبيعة الخاصة للمشكلات المحلية.
لذلك حين نؤكد أنه يجب ان تعتمد البحوث المطلوب معالجتها في إطار المجال العربي والإسلامي على فلسفة معرفية حاكمة «paradigm»، [ ص: 104 ] وأن تعنى بالمشكلات المحلية، وتراعي المرحلة الحضارية ونمط النمو المستهدف، فإنه يجب القول: إن كل ذلك لا يمكن توفيره ما لم تكن هـناك استراتيجية علمية وبحثية تقوم على الوعي بضرورات التوفيق بين الفلسفة والعلم، والمعرفة والواقع، والنظرية والتطبيق، والعمل والمؤسسة، والإنتاج والحاجة، ولعل جانبا من ذلك قد وعته بعض البلدان في آسيا حين راحت تنشئ معاهد متخصصة في علوم البحار وهندستها، من أجل تحسين المنتج البحري واكتشاف بدائل للغذاء البروتيني، أو حين أخذت تنشئ معاهد تكنولوجية تهتم بصناعة البلاستيك واستغلاله في إنتاج الأقمشة والمواد البديلة [2] ، أو فيما مضت تنشئه من معاهد أخرى تلامس الواقع وتراعي مقتضيات النمو الخاص.
ومن الطبيعي في ظل معاهد وكليات وطنية من هـذا النوع أن تعتمد الدراسات على المعلومات والمعطيات التي توفرها البيئة ويقررها الواقع في المقام الأول، فيما لا يعد ما تفرزه البيئات والمجتمعات الأخرى من معلومات أو معطيات إلا عاملا مساعدا يمكن أن تستأنس به تلكم الدراسات.
وهذا ما ينبغي أن تعيه جيدا حركة البحث العلمي في الجامعات العربية والإسلامية. [ ص: 105 ]