الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            توطين العلوم في الجامعات العربية والإسلامية (رؤية ومشروع)

            الدكتور / علي القريش

            ب- توطين البحوث الطبيعية والطبية صحيح أن العلوم الطبيعية تتمتع بقدر كبير من الموضوعية والتعميم بحكم أن «الطبيعة» موضوعها، إلا أن بعضا من حقائقها لا يكتسب صفة القطع ويظل نسبيا، كما أن بعض معطيات تلك العلوم لم يكن بمنأى عن المؤثرات الفلسفية والثقافية، لهذا يجب التمييز بين ما يعد من الحقائق المطلقة وما يعد من الحقائق النسبية، وبين ما يعد من العلم المجرد وما هـو من الفلسفة أو الآيديولوجيا، ومن ثم لا بد من توطين المستويات المعرفية في هـذه العلوم التي تحتاج إلى توطين « والهند مثال مثير للإعجاب في ذلك... ففي العقود [ ص: 113 ] الأولى من القرن العشرين ظهر ما يعرف بالمجتمع العلمي الهندي في علوم الأحياء وفي الطبيعة والكيمياء والرياضيات والفلك، وبالتوازي مع العلم الاستعماري، وبهوية مميزة على المسرح الدولي» [1] .

            وفي إطار المجال العربي والإسلامي لا بد أن يكون البديل على مستوى بعض المسلمات إسلاميا، فالمسلمة التي تذهب إلى أن الحركة في هـذا الكون تتم وفقا لدينامية تكمن في ذاتية المادة، لا يمكن القبول بها، ولا بد من اعتماد المسلمة التي تقرر أن لهذا الكون خالقا يتحكم بقوانين الوجود، يقول تعالى:

            ( وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم ) (البقرة: 255) .

            كما لا بد في مجال البحث العلمي من إجراء التوطين عبر اختيار الموضوعات التي تمليها المرحلة العلمية والتنموية للمجتمع، وبحسبما تستدعيه طبيعة البيئة المحلية وإشكالاتها.

            لهذا لا بد أن يعي الباحثون في المجال العربي والإسلامي، لا سيما الجامعيون منهم، أن ما يتم تناوله من قبل العلماء في البلدان الغربية المتقدمة هـو ليس بالضرورة جديرا بالتناول أو المحاكاة، فمعيار ما ينبغي الاشتغال به من بحوث هـو مواجهة المشكلات المحلية والحقيقية، وتوفير الإنتاج المعرفي الذي يخدم التنمية وحركة العلم داخل الأوطان. [ ص: 114 ] بهذا يصير التوجه نحو تأسيس أكاديميات تعنى ببحوث المنطقة أمرا مطلوبا، كما الحال مع «الأكاديمية المغاربية للعلوم» التي تأسست في العام 1992م، والتي أعلن أنها تستهدف مساعدة بلدان المغرب العربي على إجراء البحوث الأساسية والتطبيقية، التي تعالج مشكلات كالجفاف والتصحر وندرة المياه وضعف إنتاج القمح وزحف الرمال والطاقة والطب الوقائي، ونحو ذلك مما تواجهه بلدان المنطقة المذكورة.

            يقول الصادق النيهوم: إن الكثير من موارد البيئة العربية ما زال خارج دائرة البحث، فالنخلة لما تزل تنمو في العصـر المطـير، وهي أطـول قامة مما يجب، وأبطأ نموا، ونواتها ما تزال غير مقروءة، كما لا يعرف الفلاح جنسها إلا بعد نمو الشتلات، وكذلك أعشاب البيئة كعرق السوس ونبات الزعتر، والخرنوب، ومئات أخرى من النباتات والزهور ما برحت خارج دائرة الاستثمار، ناهيك عن الشمس التي تختزن الطاقة بشكل هـائل، وهي بعيدة عن تلك الدائرة.

            والحقيقة: أن الكثير مما تحفل به البلاد العربية والإسلامية هـو بحاجة إلى المزيد من الدراسات التي يمكن من خلالها توفير التراكم المعرفي وتحقيق الكشوف العلمية التي تمهد لعمليات توطين العلوم وإعادة تشكيل بنائها على نحو جديد.

            وإذا كانت البحوث الموسعة مما يقترح إجراؤه، فإن جدوى ذلك تظل مرهونة ببناء شبكة علاقات إقليمية تعمل - عبر التعاون والتنسيق بين [ ص: 115 ] الجامعات وغيرها - على تفعيل الجهد العلمي وتحقيق تكامله على مختلف التخصصات والفروع.

            ولعل إنشاء جامعة تعنى ببحوث الزراعات الصحراوية، وبتقنيات استخدام المياه الرسوبية، وحفر الآبار، وإنشاء البيوت الزجاجية، واستخدامات الطاقة الشمسية، وغير ذلك، جدير بأن يشكل جهدا يصب في بناء القاعدة العلمية التي تؤسس للتوطين.

            وهكذا بالنسبة إلى الجهود العلمية المطلوبة على مختلف الحقول والتخصصات إذا ما تـم تحقيق التراكم المعرفي والإبداع العلمي في مجالاتها، بما يتوافق مع الرؤية المعرفية العربية والإسلامية، ويلبي احتياجات الواقع المحلي، فذلك ما يخدم التوطين.

            - أما بالنسبة إلى توطين البحوث الطبية، فيجب القول بداية: إن الحقائق الطبية المطلقة لا يسـأل عن هـوية مكتسبها، ولا يسع أي باحث إلا الاعتماد عليها، إلا أنه في مجال اختيار موضوعات البحث، لا بد من إعطاء الأولوية لتلك التي يفرضها الواقع، وتستدعيها الظروف والمشاكل الصحية القائمة، مع تجنب الانشغال ببحوث لا تستفيد منها الغالبية من السـكان المحليـين، كتلك التي تعنى بأطفال الأنابيب أو التلقيح الصناعي أو مرض الإيدز، أو ما إلى ذلك من أمراض أو تقنيات قد لا تمـس غير بضـع عشـرات أو مئـات من الناس، أو لا تلبي احتيـاجات الأكثرية أو لا تتوافق مع معتقداتهم أو تقاليدهم، وهذا معناه: إنه يجب أن تركز [ ص: 116 ] الجامعـات وغيرها من مراكز البحث على البحوث ذات الصلة بالأمراض الشائعة في المجتمعات العربية والإسلامية كالبلهارسيا والملاريا والكولـيرا وأمراض الكبد والمعدة والعيون وفقر الدم، والأمراض الأخرى التي تندرج تحت عنوان «أمراض المناطق الحارة» وغيرها من الأمراض المتوطنة، وإعطائها الأولوية في الاهتمام، فضلا عن الاهتمام بالدراسات والاستبـيانات التي تخدم السياسات الصحـية التي تعمل على تلبية احتياجات الجماهير.

            إن للتوطين الطبي بعدا ثقافيا، وقد سبق أن بينا أثر العوامل الثقافية في تحديد نمط الاستجابات الصحية وطبيعة الاختيارات العلاجية، كما عرفنا كيف أن للطب مدارس واتجاهات عدة، قمين بالباحث العربي والمسلم أن يدرجها في حساباته العلمية وخياراته العلاجية، ولا يجدر به حصر نفسه في مقولات ومعطيات مدرسة واحدة، لا سيما بخصوص المشكلات الطبية التي لم يتم حسمها بعد.

            إنه يمكن للباحث في المجال العربي والإسلامي أن يطوع ويكيف بحوثه، ومن ثم يوطنها إذا ما راعى مختـلف الاعتبارات الثقـافية والعرقية والعقيدية والسيـكولوجية التي تشـكل دون شك جزءا من معادلات الصحة والمرض. [ ص: 117 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية