ظاهرة العلماء الأميين وخيبة التكنوقراط
في عام 1945م، وحين جرى التفكير بإنشاء «المؤسسة القومية للعلوم» في أمريكا ، كتب خمسة آلاف من العلماء إلى الرئيس الأمريكي خطابا يحذرونه من الخطأ الجسيم إذا ما تم إدخال العلوم الاجتماعية في المؤسسة المزمع إنشاؤها، ومع مضي أكثر من خمسين عاما على هـذا النمط من التفكير، ومع ما حدث من تغير وتطور في عالم المعرفة، ظل هـذا الفهم القاصر منتشرا، فالكثير من المشتغلين في حقـول العـلوم الطبيعية والحيوية ما برحت تنقصهم جوانب كثيرة من المعرفة الإنسانية التي يحتاجونها يوميا في حياتهم الخاصة والعامة، وكان نتيجة ذلك أن عرف المجتمع العلمي انشطارا ثقافيا
[1] كان من تداعياته ترعرع حالات من التعصب أو التعالي تحكمت في سلوكيات كل شعبة إزاء الشعب الأخرى؛ واللافت استيطان هـذه الحالات في أوساط المؤسسات العلمية على اختلافها، لدرجة أن الموضوعات التي تقبل المعالجة بأكثر من مدخل، والتي تطرحها مؤتمرات تلك المؤسسات ونداوتـها، لا يدعى للمشاركة فيها عادة غير أفراد القبيلة التخصصية الواحدة.
إن الاقتصار على التخصص دون وعي بحقيقة الاتصال والتداخل والتبادل والتكامل بين المعارف والعلوم المختلفة، هـو من عوامل تكوين [ ص: 192 ] الذهنية المحدودة، فقد كنا طلابا، وكان يدهشنا أن ينقل إلينا أستاذ جامعي و «متخصص» «خبرا صحفيا» واضحا في مدلوله الدعائي، كما لو كان يبلغنا عن «حقيقة علمية» لاغـبار عليها، كما كنا نأسـف، ونحن نقرأ أو نسمع بعض التفسيرات السياسية، التي كان يتورط بها – بين فترة وأخرى – عالم ديني مشهور انغلق - على ما يبدو - على معرفته التخصصية، فبدا في تفسيراته في غاية السـذاجة.. وهكذا فالمتخصصون إذا ما تحصنوا في جزرهم المعرفية، كان ذلك بمثابة إقفال لنوافذ الرؤية العامة، من شأنه أن يكشف عن ثغرات ذلك الحصن في أول ظهور خارجي.
حين يقودنا هـذا التتبع نحو « التكنوقراط Technocratic»
[2] ، تلك الطائفة العلمية التي تتساءل – كما يقول غارودي - عن الشيء: كيف [ ص: 193 ] يكون؟ ولا تتساءل: لم هـو؟ وتجتهد في قضية الوسائل، وتذهل عن رؤية الغايات [3] ، سنقف ولا شك أمام نموذج مقنن للظاهرة التخصصية، حيث العقل الأداتي الذي يسكنه فكر منفصم لا يؤدي بصاحبه إلا إلى عجز عن إدراك غائية العلم وأخلاقياته، فضلا عن ارتباطاته السياقية، حتى لا يبدو أفراد هـذا النموذج وسط المشهد العام وكأنهم مجموعة من العلمـاء الأميين - كما يصفهم د. مهدي المنجرة – يعجزون عن المشاركة ديموقراطيا في نسق القرارات الحاكمة، فضلا عما يحدثه مكونهم العقلي من قطيعة بين وجهات النظر العلمية: الطبيعية والإنسانية [4] .
نحن لا نجادل في أن منطق التطور في إطار تعقيدات البنى الحضارية ومؤسساتها في الغرب قد أفرز هـذه الفئـة وكرس أهميتها، غـير أن ذلك لا يهون من بؤس الدور الذي تضطلع به بوصفها أدوات معرفيـة معزولـة لا تمتلك ما يمتلكه الاستراتيجي وصاحب القرار، بل إن الآلية الحرفية التي يتحصن بها هـؤلاء سنراها أكثر انقطاعا وأشد بؤسا في سياق النظـم التسلطية التي لا يحق للتكنوقراطي في ظلها تجاوز دائرة الاختصاص الذي اختاره أو أعد له، اكتفاء بالانغماس في بحوث أو أنشطة دقيقة مقفلة تنتج تقنيات أو مشاريع قد لا يكون فيها للضمير مكان، كما في عمليات تحضير الأسلحة الجرثومية ، [ ص: 194 ] أو في تجريب أحدث وسائل التعذيب وغسل الأدمغة، أو في الأساليب «الميكافيللية» التي يبتكرها تكنوقراط الاقتصاد؛ للالتفاف على أقوات الناس ومعايشها، أو نحو ذلك من أنشطة يؤديها التكنوقراطي بوعي أو بدونه، حتى إذا حدث واستيقظ – بفعل المراجعة أو تأنيب الضمـير – يهب منقلبا على ما صنعته يداه، كما حدث لـ « أوبنهايمر » وثلة من العلماء الذين أسهموا في تصنيع القنبلة الذرية التي ألقيت على هـيروشيما وناجازاكي .
وثمة وجه آخر لفصام التكنوقراط نلتقيه عندما تعتمد بعض الحكومات في تشكيلاتها الوزارية على الفني -وإن كان فقهه لا يتجاوز حدود التخصص- ظنا منها أن الوزير بهذا الشكل هـو أكفأ من غيره وأقدر على تحقيق النجاح، فيما كانت التجربة لا تتمخض إلا عن نتائج جد متواضعة، إن لم تكن فاشلة، ذلك أن الذهنية التي يستوطنها التخصص المنفصل لا تمارس فعلها في حل المشكلات إلا على نحو «قطاعي»، ولا يكون بمقدورها استبصار العلاقة بين الخاص والعام والفني والسياسي والداخلي والخارجي، ومن ثم لا تضع لتلك العلائق العضوية أي حساب يذكر، لهذا حري بنا أن لا نفاجأ بخيبة هـذا الصنف من التكنوقراط، خاصة في مجتمع متغير أو نام.