الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        أصحاب الاحتياجات الخاصة (رؤية تنموية)

        الدكتور / محمد مراح

        أولا: أسس معاملة الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة في السنة النبوية:

        ينبغي في البدء إقرار المبدأ الإسلامي العظيم، الذي تحددت به مكانة النوع دون النظر إلى أي اعتبار عداه ألا وهو تكريم الإنسان، فقد تقرر في محكم التنـزيل غير المتشابه القطعي الثبوت والدلالة أن الأصل في النوع التكريم، قال تعالى: ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (الإسراء:70)، وعـلى هذا فكل تنقص من جهة أصل الخلقة الإنسانية موضـوع في الإسـلام، وتجاوز في حق الخالق الذي منح الإنسان هذه المكانة المميزة.

        كما تمثل هذه الآية الكريمة منطلق كل تكريم للإنسان في القرآن والسنة النبوية، وإذا كان البحث قد استفاض في تناول التكريم الإنساني من جهة القرآن الكريم، فنرى السياق هاهنا يوجهنا نحو التماس بعض ذلك في السنة النبوية الشريفة، فقد ترجمت عن مظاهر كثيرة لهذا التكريم؛ من ذلك ما رواه أبو هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ( إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته ) [1] ، فالضمير في صورته [ ص: 31 ] هنا -كما نقـل النووي في شرحـه للحديث عن طائفة- يعود إلى الله تعـالى، ويكون المراد إضـافة تشريف واختصاص، وعليه فالحديث يخبر عن منـزلة رفع إليها المولى تبارك وتعالى الإنسان لم يخبرنا عن رفع مخلوق آخر إليها.

        ومن مظاهر هذا التكريم في السنة الشريفة احترام النفس الإنسانية وإن كان صاحبها على غير ملة الإسلام، بل ومن الفئة التي عرفت الحق وتنكرت إليه وناصبت النبي صلى الله عليه وسلم والإسلام والمسلمين العداء، وكادت له ولدينه وللمسلمين وأعانت عليهم وغدرت بهم، نعنى اليهود؛ فقد أخرج الشيخان في الصحيحين أن ( سهل بن حنيف وقيس بن سعد قاعدين بالقادسية فمروا عليهما بجنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض، أي من أهل الذمة، فقالا: إن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: أليست نفسا ) [2] .

        وتتأكد صور هذا التكريم الإنساني لدى نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم من خلال احترام الكيان الإنساني الجسماني، حيا وميتا؛ فعن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( كسر عظم الميت ككسره حيا ) [3] . [ ص: 32 ]

        كما يلتمس تكريم النفس الإنسانية في البيان النبوي لقول الله تعالى تعقيبا على النهـاية المأساوية لقصة ابني آدم: ( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) (المائدة:32) من تحميل ابن آدم القاتل أوزار المجرمين الذين يزهقون الأرواح بغير حق منذ اقتراف جريمته في حق أخيه إلى يوم القيامة؛ فعن عبد الله، رضي الله عنـه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، وذلك لأنه أول من سن القتل ) [4] ،

        وهذا المبدأ الإسلامي العظيم في تكريم الإنسان يتيح لنا إمكانية أن نفهم كيف اتسمت معاملة ذوي الاحتياجات الخاصة بالصفة الخلقية السامية، والأدلة على ذلك كثيرة منها:

        - على المستوى النفسي:

        من وجوه حفـظ هذا الاعتبـار الأدبي لذوي الاحتيـاجـات الخاصة في أحـكام الإسلام ما ورد من النهي عن السخرية من الآخرين والتنـابز بالألقـاب؛ قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من [ ص: 33 ] قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ... ) (الحجرات:11)، فعن التنابز بالألقاب في الآية يقول الإمام الطبري: "إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين أن يتنابزوا بالألقاب، والتنابز بالألقاب هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة، وعم الله بنهيه ذلك، ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض، فغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه أو صفة يكرهها" [5] ؛ ولا شك أن مناداة صاحب الاحتياجات الخاصة بها من أكره الأشياء إلى قلبه، فالتحريم في الآية كف لعامل من عوامل زيادة الأسى النفسي إلى أسى العاهة، ولا عجب أن نرى - بعدئذ- من ينادى بعاهته في حالة يرثى لها من الصراع النفسي، والحقد الاجتماعي، والنظرة المتشائمة للحياة [6] .

        وتجاوز الأمر إلى اتخاذ العاهة موضوعا للسخرية، التي قد تأتي على سبيل التلهي الفارغ، يستـحق أن يقع تحت طائلة الوعيد، الذي تضمنـه حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم ) [7] . [ ص: 34 ]

        لهذا ينبغي أن "يقوم المربون بواجب النصح والتحذير لكل من كان حول المصاب من خلطاء سواء أكانوا أقارب أم أباعد، حيث يحذرونهم مغبة التحقير والإهانة، ونتائج الاستهزاء والسخرية وما تتركه من أثر سيئ في نفوسهم، وما تحدثه من مضاعفات أليمة في أعماق أحاسيسهم ومشاعرهم" [8] .

        فتحريم السخرية من الآخرين تمثل في هذا المقام ضمانا نفسيا للمعاق فيتكيف مع إعاقته، واجتماعيا فلا يضيف للمجتمع عبء كراهيته إلى جانب عبء إعاقته.

        كما يندرج في هذا السياق نهي الله تعالى عن النجوى بالإثم والعدوان أو بغيرهما في أحوال معينة، قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون ) (المجادلة:9)، والحديث المتفق عليه، الذي رواه ابن مسعود، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه ) [9] ، في أحوال الناس [ ص: 35 ] الاعتيادية، أما إذا كان من يتناجى دونه من ذوي الاحتياجات الخاصة المبتلين بنقص أو إعاقة فالظرف يصبح مشددا؛ إذ قد يتوهم في النجوى دونه ما يقع في إعاقته، فيزداد شعوره بالنقص، ويتأزم نفسيا.

        لقد وضع الإسلام عن ذوي الاحتياجات الخاصة كثيرا من التكاليف، وخفف عنهم في أخرى؛ كما دلت على ذلك أحكام كثيرة وشواهد عديدة كسبـب نزول قوله تعالى: ( غير أولي الضرر ... ) (النساء:95)، فقد أخرج البخـاري في صحيحـه عن سهل بن سعد الساعدي، رضي الله عنه، أنه قال: ( رأيت مروان بن الحكم جالسا في المسجد، فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه: ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله ) ، قال: فجاءه ابن أم مكتـوم وهو يملها علي، فقال: يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدت، وكان رجلا أعمى، فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سري عنه، فأنزل الله عز وجل: ( غير أولي الضرر ) ) [10] ، لكن مـع هـذا فإنه يقبـل ما يصـدر من ذوي الاحتياجات الخاصة إذا بذل [ ص: 36 ] ما يفـوق جهـده تحديا للإعاقة [11] ، وقـد ضرب لنا الصحابي الجليل عمرو بن الجموح، رضي الله عنه، المثل الأعلى في هذا المعنى.

        ( أتى عمـرو بن الجمـوح، رضي الله عنه، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسـول الله، أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل أمشي برجلي هـذه صحيحة في الجنة؟ -وكانت رجله عرجاء- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم، فقتلوا يوم أحد: هو وابن أخيه ومولى لهم، فمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما وبمولاهما فجعلوا في قبر واحد ) [12] ، فصرف طاقته الزائدة هنا يتحـول إلى رصيـد اجتمـاعي في إنجازات المجتمع الحضارية، خاصة إذا ارتبط الإنجاز بمعاني البطولة في سبيل الله.

        وفي الوقت الذي يعتقد فيه الناس أن هذه الفئة الاجتماعية هي التي في حاجة للفئات الاجتماعية السوية، تأتي مبادئ الإسلام الخلقية السامية لتجعل المجتمع برمته هو الذي في أشد الحاجة للفئة الضعيفة فيه أثناء أصعب الفترات والظروف التي يمكن أن يمر بها، بل هو مـدين لهـا حتى في استمرار وجوده؛ فعن مصعب بن سعد، رضي الله عنه، قال: ( رأى سعد، رضي الله عنه، أن له فضلا على من دونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "هل تنصرون وترزقون [ ص: 37 ] إلا بضعفائكم ) [13] ؛ فالضعفاء -بهذا- هم سبب استمرار الوجود المادي للمجتمع وسر قوته ومنعته وعزته في التصور الإسلامي، وبالتالي تصبح رعاية ومعاملة هذه الفئة -كسائر الضعفاء- قاعدة ذهبية وغاية اجتماعية يجند المجتمع برمته لتحقيقها، فترتفع معنويات ذوي الاحتياجات الخاصة، ويشعرون بمكانتهم المميزة في مجتمعهم.

        - على المستوى الاجتماعي:

        1- قد يكون من المناسب في هذا المقام تبيان المكانة الاجتماعية لذوي الاحتياجات الخاصة من خلال حدث مهم سجله القرآن الكريم، قال تعالى: ( عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى ... ) (عبس:1-10) ، نزلت هذه الآيات في الصحابي الضرير عبد الله بن أم مكتوم، رضي الله عنه، فقد روى الإمام الطبري في تفسيره أن ابن مكتوم جاء النبي صلى الله عليه وسلم يستقرئه وهو يناجي أمية بن خلف وغيره فـأعرض عنه نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله فيه ما تسمعون ( عبس وتولى ... ) ، وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلفه بعد ذلك مرتين على المدينة في غزوتين غزاهما يصلي بأهلها. وقال أنس بن مالك، [ ص: 38 ] رضي الله عنه، أنه رآه يوم القادسية معه راية سوداء وعليه درع له [14] ؛ وكذلك روى الترمذي في سننه عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ( أنزل ( عبس وتولى ) في ابن أم مكتوم الأعمى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعـرض عنه ويقبـل على الآخر، ويقـول: أترى بما أقول بأسا؟ فيقول: لا، ففي هذا أنزل " [15] ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه ويقول: إذا رآه "مرحبا بمن عاتبني فيه ربي، ويقول: له هل لك من حاجـة ) [16] ، وأصبـح بذلك من خيرة الصحابة، شارك في الحكم زمن النبي صلى الله عليه وسلم وحمل الراية في القادسية ففتح الله على بصيرته عوضا عن بصره، فكان يحس بالأعداء ويقاتلهم، وبقي يحارب الفرس حتى قطعت يده اليمنى التي يحمل فيها الراية وسقط شهيدا، وهذا يدل على عمق التشريع الإسلامي وإدراك الصحابة لذلك.

        ويمكن للمحلل أن يستنتج ضرورة دمج ذوي الاحتياجات الخاصة في مجتمعه وتقوية قدراته ليتغلب على عجزه بقوة تعويضية يملكها الكائن الحي [17] ؛ وتتحدد مكانة ذوي الاحتياجات الخاصة في النظام الاجتماعي [ ص: 39 ] الإسلامي من خلال اعتبار الإسلام للإعاقة جزءا من الحياة، والمعـوق (ذوي الاحتياجات الخاصة) جزءا من المجتمع، له حقوق وعليه واجبات، وأن الإنسان ينال حاجاته الأسـاس حسب عمله، فإن عجز فتتولى أسرته أو مجتمعه أو دولته ذلك، فلا يجوز أن يظل محتاجا أو متسولا [18] ؛ وينظر إلى مكانته -أيضا- من زاوية دور الخدمة الاجتماعية في الإسلام التي هدفها إقامة الضروريات الخمس من مقاصد الشريعة الإسلامية (الدين، النفس، النسل، العقل، المال) وتثبيت قواعدها، وتقوم بالدور العلاجي درءا لاختلال الواقع الاجتماعي [19] .

        2- الدمج والانسجام الاجتماعي: وحرصا من الإسلام على الانسجام الاجتماعي من جهة ودمج ذوي الاحتياجات الخاصة في النسيج الاجتماعي نقرأ قوله تعالى: ( ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ) (النور:61)، وقد نزلت هذه الآية "ترخيصا للمسلمين في الأكل مع العميان [ ص: 40 ] والعرجان والمرضى وأهل الزمانة (العاجزين بسبب أمراض مزمنة) من طعامهم من أجل أنهم كانوا قد امتنعوا من أن يأكلوا معهم خشية أن يكونوا قد أتوا بأكلهم معهم من طعامهم شيئا مما نهاهم الله عنه بقوله: ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) [20] .

        يلاحـظ هنا الحس الحضـاري الذي كان يتمتع به الصحابة، رضي الله عنهم، تجاه إخوانـهم الزمنى، ذوي الاحتياجات الخاصة؛ إذ كانوا يخشون إذا أكلوا معهم أن يأكلوا من نصيبهم فيكونوا بذلك قد أكلوا أموالهم بالباطل. لكن الله تعالى غلب النـزعة الإنسانية الاجتماعية في دمج ذوي الاحتياجات الخاصة اجتماعيا، فنفى عنهم الحرج في ذلك ودعاهم للالتئام فيما بينهم على موائد الطعام ألفة وتمازجا. وقيل أيضا في سبب نزول الآية - وهو ملمح آخر في التمازج الاجتماعي بين الأصحاء وذوي الاحتياجات الخاصة في مجتمع الصحابة - إن المسـلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم وكانوا يدفعون إليهم مفـاتيح أبوابهم يقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، وكانوا (أي الزمنى) يتحرجون من ذلك، يقولون: لا ندخلها وهم غيب، فأنزلت هذه الآية رخصة لهم [21] ، هكذا [ ص: 41 ] يشعر المسلمون هذه الفئة منهم أنهم أهل لكل التقدير ورفعة المنـزلة والقرب الاجتماعي منهم.

        3- الأهلية والرعاية الاجتماعية: أما ما يعرض لذوي الاحتياجات الخاصة من انتقاص أهلية أدائهم بسبب الإعاقة وما يترتب عنها من عوارض الأهلية، فلا يمس بأهلية الوجوب لهم، وعليه فالإرث والعطايا تستحق لأشد أنواع ذوي الاحتياجات الخاصة، الذين تصبح إرادتهم غير معتبرة، وينوب عنهم في حيازتها وحمايتها وتثميرها من يقوم على ولايتهم، ولا يجوز لهؤلاء التصرف في أموال من تحت ولايتهم إلا بما فيه مصلحتهم [22] ، وتندرج الولاية على النفس -كما هو ملاحظ- هنا ضمن الرعاية لحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة المادية.

        والولاية على النفس باب كبير من أبواب الشريعة الغراء تبرز فيه أسمى معاني رعاية بعض ذوي الاحتياجات الخاصة، يقول الإمام محمد أبو زهرة: "تثبت الولاية على النفس حيث يتحقق... العجز عن وقوف الشخص وحده في الحياة واحتياجه إلى من يحميه ويقوم على شؤونه، لأنه لا يستطيع القيام بها وحده، ولا يستطيع حماية نفسـه في مضطرب المجتمع، وإن ذلك بلا ريب يتحقـق في الصغر والأنوثة، كما يتحقق في المجنون والمعتوه" [23] ، ثـم يقرر أن كلا من الجنون والعته يوجبان -بالاتفـاق- الحجر والحاجة [ ص: 42 ] إلى ولي على النفس يرعاها ويعاونها، وإلى ولي على المال يدير له أمواله، ويدبر أمره [24] .

        وعمـل الولي عـلى النفس في هذا الصـدد يتجلى في حفظ المجنون أو المعتوه وصيانتـه، والمحافظة على ماله، ولا يتركه في الطرقات بحيث يتعرض الناس لأذاه، أو يؤذونـه، ويكون مظـهره معلنا فقد كرامته، والمطـالبة بعقـوبة من يؤذونه، والضمـان من ماله إذا أتلف مال غيره، أو جـنى جناية؛ إذ تعـد أعماله من قبيل الخطأ، فلا تكليف عليه بفقد مناط التكليف [25] .

        وللمحافظة على الآخرين من أذاه تقرر الشريعة: "إما حجزه في مكان يأوي إليه غير مضيق عليه، وتهيأ وسائل الرياضة المختلفة له، أو يكون المكان الذي يحجز فيه فسيحا لا يشعر معه بضيق حتى لا يعد حبيسا، بحيث يستطيع أن يستريض، ويزاول ما يسليه، وما لا يقطعه عن الحياة. وإما أن يوضع في إحدى المصاح التي تكرم مثواه الإكرام المناسب لمن هو في مثل حاله" [26] وهو ما يتناسب مع حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة التي نادت بها المواثيق الدولية من ضرورة توفير الأماكن الملائمة للعلاج والمعاملة الكريمة، التي يحث عليها الإسلام في الرحمة بالضعفاء، فتمهد لهم السبيل [ ص: 43 ] ليكونوا بين الأسرة والمجتمع بدلا من عزلهم، إذ يسهم إدماجهم في تأهيلهم للعودة إلى الحياة والمجتمع [27] .

        كما منعت الشريعة -بالإجماع- تعزير ذوي الاحتيـاجات الخاصة ولو على وجه التأديب؛ لأنه ليس أهلا للعقاب، ولا رجاء في تأديبه، فهو مريض يعالج بالرفق، ولا يعالج بالعنف [28] ، وهكذا تمثل الولاية على النفس أساسا متينا من أسس رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة في الإسلام على المستوى المادي والاجتماعي والخلقي والعلاجي.

        4- الرعاية المالية: وقد تضمنت الأحكام المالية في الإسلام، خاصة منها النفقات والزكاة، رعاية مالية عالية المستوى، فقررت الضمان الاجتماعي للضعفاء والعاجزين؛ فلهم في أموال القادرين حق معلوم، يحقق لهم تمام كفايتهم، فيكفل لهم مستوى العيش الكريم، بتوفير الغذاء والكساء والمسكن والدواء؛ قال تعالى: ( والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم ) (المعارج:24-25)، وهذا ما يعبر عنه في عصرنا باسم الضمان الاجتماعي، وهو مما ابتكره الإسلام منذ خمسة عشر قرنا [29] .

        وتحقيق هـذا التكافـل من مسؤوليات الدولة الإسلامية؛ ذلك أن: "من ترك مالا فـلورثته، ومن ترك كلا (عاجزا) ومن ترك عيالا لا عائل [ ص: 44 ] لهـم، فإن محمد باعتبـاره رئيس الدولة عليه أن يعـوله، وكذلك يكون هذا الوجوب على كل رئيس دولة" [30] وهذا مادل عليه الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قـال: ( مـن ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلا فإلينا ) [31] ، ( ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه ) [32] ، ولا أشك أن ذوي الاحتياجات الخاصة يندرجون ضمن المعنى الذي وردت به السنة في هذين الحديثين بخـاصة، ومما يـؤكد ذلك ما نقله الإمام ابن حجر في فتح البارئ عن الخطابي في شرحه للفظ "ضياع" أنه جعل اسما لكل ما هو بصدد أن يضيع من ولد أو خدم.

        وهذه النفقات واجبة الإنفاذ من المسؤولين عنها حتى بالقضاء؛ "إن الإنفاق على العاجز من بيت المال بفرض أرزاق تجرى على العاجزين، ونفقات الأقارب ينفذهما القضاء، بحيث إذا امتنع ولي الأمر عن إعطاء العاجز حقـه، فإن له أن يلجأ إلى القضاء ليلزم ولي الأمر بالإنفاق، [ ص: 45 ] وكذلك الأمر بالنسبة لنفقـات الأقارب فيما بينهم، فإن القضاء يلزم جبرا، إن لم ينفذها طوعا" [33] .

        وتنـظيـما لهـذا التـكافل وأداء لفئـات العـاجزيـن، ومنهم ذوي الاحتياجات الخاصة، ينبغـي إجراء رواتب على العاجزين كالزمنى والأعمى والشيخ الهرم والأرملة والطفل ونحوهم، لا بأس بإعطاء الواحد منهم كفاية السنة، أي راتبا دوريا، أو توزيعه على أشهر السنة إن خيف من المستحق الانحراف وبعثرة المال في غير حاجة ماسة، مثلما هو الحال في عصرنا [34] ، ولا ينبغي أن تظل هذه الرواتب في حدود سد الرمق وحد الكفاف بل ينبغي أن تحقق الكفـاية المـالية أي كفـالة مستـوى للمعيشة لائقا به، يحقق المطالب أو الحاجات المادية والنفسية، يسد حاجة العاجز بصفة دائمة. والكفاية تشمل المأكل والمشرب والملبس والمسكن وغـيرها مـن كل مـا لابد منه، على ما يليق بحاله، من غير إسـراف ولا تقتير، لنفس الشخص ولمن يعوله. وقد ذكر الفقهاء أن من تمام كفاية المرء، كتب العلم إن كان من أهله، وأثاث البيت المناسب، والفرس الذي يركبه، وحتى الزواج [35] . [ ص: 46 ]

        وهـذا الـذي ذهب إليه الفقهاء المسـلمون منسجم مع مذهب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في قوله عن توزيع الزكاة على مستحقيها: "إذا أعطيتم فأغنوا"، كما يستخلص منه أيضا كيف راعى الحاجات الأساس لذوي الاحتياجات الخاصة (المأكل، المشرب، الملبس، المسكن، العلاج، الذي يعوله)؛ والكماليات (كتب العلم، المركب المناسب لحاله، الزواج، وغيرها)، وراعى التكفل بنفقة من يقوم على خدمة ذوي الاحتياجات الخاصـة، كما يمكن للدارس المحايد أن يلاحظ السبق التشريعي الإسـلامي لأرقى النظـم في ديمقراطيتها الاجتماعية خاصة في هذا المضمار.

        ومن الآراء الفقهية المميزة في هذا الصدد ما ذهب إليه بعض الفقهاء المعـاصرين من إمكان إقامة الدولة المؤسسات الاقتصادية؛ مصانع وعقارات ومؤسسات تجارية ونحوها للعاجزين؛ من أموال الزكاة، وتملكها لهم، كلها أو بعضها؛ لتدر عليهم دخلا يقوم بكفايتهم كاملة، ولا تجعل لهم الحق في بيعها ونقل ملكيتها، لتظل شبه موقوفة عليهم [36] وبذلك يكون النظام التشريعي الإسلامي قد بلغ غايته في الرعاية الاجتماعية لذوي الاحتياجات الخاصة. [ ص: 47 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية