- إمرأة فرعون مضرب المثل في الإيمان:
قال تعالى: ( وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ) (التحريم:11). ونصل إلى أنموذج آخر من النساء، أنموذج امرأة لها القدرة على تحمل أشد أنواع التعـذيب في سبيل إرضاء الله عز وجل. فهي أنموذج إيماني، وأنموذج في التجرد. سبق وأن أوردنا الرواية التي أدرجت آسية امرأة فرعون ضمن النساء اللاتي بلغن درجة الكمال.
إن الاصطفاء أو الانتماء إلى النخبة ضريبته ليست سهلة، فالحصول على درجة الكمال يكون على قدر الامتحان. وها هي آسية بنت مزاحم، رضي الله عنها، تكون عبرة للعالم النخبوي، وردا على من يريد الانتماء إلى النخبة لتحقيق مصالحه الشخصية، ويرفض أن يكون كبش فداء. إن ثباتها هذا أمام فرعون [ ص: 60 ] وملئه يزيد المؤمنين ثبـاتا على الحـق، فلو استسـلمت لفرعون بسبب تعذيبه لها لزرعت في المؤمنين الخوف وروح الاستسلام. إنها تعرف جيدا موقعها في المجتمع، فهي زوجة فرعون. وثباتها أمام ذلك التعذيب بعد أن تعودت على حياة البذخ، يشد من عزم أتباع سيدنا موسى، عليه السلام، على الطريق ويثبتهم.
ويرى ابن عاشور أن امرأة فرعون المذكورة في الآية (11) من سورة التحريم هي امرأة فرعون الذي أرسل إليه موسى، وهو "منفطح الثالث"، وليست امرأة فرعون التي تبنت موسى حين التقطته من اليم؛ لأن ذلك وقع في زمن فرعون رمسيس الثاني، وكان بين الزمنين ثمانون سنة. ولم يكن عندهم علم بدين قبل أن يرسل إليهم موسى. ولعل امرأة فرعون هذه كانت من بنات إسرائيل تزوجها فرعون، فكانت مؤمنة برسالة موسى عليه السلام. وقد حكى بعض المفسرين أنها عمة موسى، أو تكون هداها الله إلى الإيمان كما هدى الرجل المؤمن من آل فرعون الذي جاء ذكره في سورة غافر، وسمـاها النبي صلى الله عليه وسلم آسية كما ورد في حديث أبي موسى، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ) [1] .
وأرادت بعمل فرعون ظلمه، أي نجني من تبعة أعماله، فيكون معنى ( ونجني من فرعون وعمله ) (التحريم:11) أي من صحبته، طلبت لنفسها فرجا. ومعنى ( قالت ) أنها أعلنت به، فقد روي أن فرعون اطلع عليها، وأعلن ذلك لقومه، وأمر بتعذيبها فماتت في تعذيبه ولم تحس ألما. والقوم الظالمون: هم [ ص: 61 ] قوم فرعون. وظلمهم: إشراكهم بالله. والظاهر أن قولها في قوله: ( رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ) (التحريم:11) مؤذن بأن فرعون وقومه صدوها عن الإيمان به وزينوا لها أنها آمنت بموسى تضيع ملكا عظيما وقصرا فخيما، أو أن فرعون وعظها بأنها إن أصرت على ذلك تقتل، فلا يكون مدفنها الهرم الذي بناه فرعون لنفسه لدفنه في بادئ الملوك. ويؤيد هذا ما رواه المفسرون أن بيتها في الجنة من درة واحدة، فتكون مشابهة الهرم الذي كان معدا لحفظ جثتها بعد موتها وزوجها [2] . ويظهر بوضوح أثر موقع كل من مريم وآسيا في الوسط النخبوي في قـول ابن عاشور: إنـها كانت مثلا لمتانة المؤمنين، ومريـم مثلا للقانتين؛ لأن المؤمنين تبرأوا من ذوي قرابتهم الذين بقوا على الكفر بمكة [3] .