الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          موقع المرأة النخبوي في مجتمع الرسالة

          الدكتورة / ليلى رامي

          3- أم المؤمنين حفصة [1] :

          هي حفصـة بنت عمر بن الخطاب زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي أخت عبد الله ابن عمر لأبيه وأمه. وأمهما زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة ابن جمح. كانت حفصة من المهاجرات، وكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت [ ص: 125 ] خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي. فلما تأيمت ذكرها عمر لأبي بكر وعرضها عليه، فلم يرجع إليه أبو بكر كلمة. فغضب عمر من ذلك، ثم عرضها على عثمان حين ماتت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عثمان: ما أريد أن أتزوج اليوم. فانطلق عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا إليه عثمان، وأخبره بعرضه حفصة عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يتزوج حفصة من هو خير من عثمان، ويتزوج عثمان من هي خير من حفصة ) ثم خطبها إلى عمر فتزوجهـا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقي أبو بكر عمر بن الخطاب، فقال له: لا تجد علي في نفسك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذكر حفصة فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو تركها لتزوجتها. واختلف حول تاريخ زواجها، فقيل: في سنة ثلاث من الهجرة. وقيل: سنة اثنتين. وحسب الروايات فإن الرسول صلى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقة وراجعها بأمر من الله عز وجل. وقيل: رحمة بعمر. وقال أبو عمر: طلقها تطليقة ثم ارتجعها، وذلك أن جبرائيل، عليه السلام، قال: راجع حفصة فإنها قوامة صوامة، وإنها زوجتك في الجنة. ولقد اختلف حول تاريخ وفاتها، فقيل: إنها توفيت في حين بايع الحسن بن علي، رضي الله عنهما، معاوية، رضي الله عنه، وذلك في جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين. وقيل: توفيت سنة خمس وأربعين. وقيل: غير ذلك.

          رأينا في الرواية السابقة أن الله عز وجل قد شرفها بتزكية ممتازة فإنها صوامة قوامة، فإلى جانب هذه المواصفات الإيمانية فلقد تولى النبي صلى الله عليه وسلم الإشراف على تكوينها والرفع من مستواها التعليمي. علمتها الشفاء الكتابة؛ لأن بعض النساء القرشيات كن يعرفن القراءة والكتابة، إلى جانب مهارات [ ص: 126 ] أخرى، قبل ظهور الإسلام من بينهن الشفاء. ولقد تولى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشجيع هذه المهارة في وسط الصحابيات، فبعد أن علمت الشفاء حفصة الكتابة، أمرها أن تعلمها رقية النملة أيضا. ( قالت الشفاء: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفاء، فقال: اعرضي علي (الرقية). فعرضتها عليه، فقـال: ارقيه وعلميها حفصة كما علمتها الكتاب ) (وفي روايات الكتابة) [2] .

          لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على تنمية مهارات الصحابيات بشكل بارز. لم يكن يحرص على كبت طاقاتهن، بقدر ما كان يحرص على تفجيرها فيهن، وتوجيهها أحسن توجيه. لقد اعتنى بهذه العناصر حتى تتولى أداء أدوارهن في المجتمع، والإسهام في دفع الحركة العلمية الفكرية. فخصهن بيوم لتلقي علمه؛ ولولا أهمية الكتابة في الوسط النسائي لاقتصر تعليمها في وسط الرجال.

          لقد روت أم المؤمنين حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم ستين (60) حديثا. اتفق لها الشيخان على أربعة أحاديث، وانفرد مسلم بستة أحاديث...ومجموع مروياتها في الكتب الستة ثمانية وعشرون (28) حديثا، ومحتوى تلك المرويات كما يلي:

          الطهارة: في وجوب الغسل على كل محتلم يوم الجمعة، وجعل اليد اليمنى للطعام والشراب. وفي أبواب الصلاة، روت في الركعتين الخفيفتين إذا نودي بالصبح وهي من فعل النبي صلى الله عليه وسلم .

          وفي الصوم: روت في لا صيام لمن لم يجمع الصيام قبل الفجر، وصوم النبي ثلاثة أيام من الشهر، وفي القبلة للصائم، وفي من يصبح جنبا ثم يتم صومه، وفي صيام الاثنين والخميس، وصيام عاشوراء وغيرها. [ ص: 127 ]

          كما روت في المناسـك: في الدواب التي لا جنـاح على من قتلهن.. كما روت في الزينة في لبس الديباج للرجل، وفي الشمائل في فراش النبي صلى الله عليه وسلم . وفي الآداب: فيما يفعل الرجل إذا أراد النوم. وفي الطب في رقية النملة. وفي تعبير الرؤيا. وفي الفتن في قصة ابن الصائد وخروج الدجال من غضبة يغضبها. وفي تفسير ( وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ) (مريم:71) ، أنه يبعث كل امرئ على نيته إذا استكره على الحرب، وهذا أشهر ماروت.. ويلاحظ غلبة السنة الفعلية في وصف أعمال النبي صلى الله عليه وسلم التي اشتركت في نقلها إلى الناس مع بقية أمهات المؤمنين [3] . وتعد أم المؤمنين حفصة هي سابع راوية من حيث الكثرة في القائمة العامة، ومن بين أمهات المؤمنين تعتبر هي الخامسة. ولقد تركت أم المؤمنين حفصة بصماتـها في مـواقف حساسة، كما سنرى، مما يدل على أهمية وجود مثل هذا الأنموذج في المجتمع.

          - موقع أم المؤمنين حفصة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم :

          لقد تجلت بوضوح ثمار عناية النبي صلى الله عليه وسلم بحفصـة بعد وفـاته، فلقد كان لها الشرف في أن تتولى حفظ النسخة الأصلية للقرآن الكريم، والتي أمر أبو بكر بجمعها. قال علي، رضي الله عنه: "أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله؛ أخرجه ابن أبي داود في المصاحف بسند حسن، وقد قوبلت تلك الصحف التي جمعها زيد بما تستحق [ ص: 128 ] من عناية فائقة فحفظهـا أبو بكر عنده، ثم حفظها عمر بعـده، ثم حفظتها أم المؤمنين حفصة بنت عمر بعد وفاة عمر، حتى طلبها منها خليفة المسلمين عثمان، رضي الله عنه، حيث اعتمد عليها في استنساخ مصاحف القرآن، ثم ردها إليها" [4] . ويرجع الدكتور ليث سبب ترشيحها لتكون خازنة النسخة الأصلية للمصحف هو تعلمها الكتابة من طرف الشفاء [5] .

          وتعد السيدة حفصة هي أول (مشرفة) على الوقف "كانت أم المؤمنين حفصة أول مشرفة على الأوقاف في التاريخ الإسلامي، حيث ولاها عمر، رضي الله عنه، هذه المهمة، قبل وفاته كتب وصيته بقوله: "هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمـير المؤمنـين إن حـدث به حدث الموت، أن ثمغا، وصرمة ابن الأكوع (بستـانان من بسـاتين عمر) والعبـد الذي فيه، والمائة التي أطعمه محمد صلى الله عليه وسلم بالوادي، تليه حفصة ما عاشت، ثـم توليه ذا الرأي من أهـلها أن لا يباع ولا يشترى ينفقه حيث يرى، من السائل والمحروم وذي القربى، ولا حرج عليه إن أكل أو آكل (أي أشرك معه آخرين في الأكل) واشترى رقيقا منه" [6] .

          ولقد كان لحفصة إسهام في المجال السياسي تمثل في موقفها من قرار الخليفة عمر بن الخطاب. فعن ابن عمر قال: "دخلت على حفصة، فقالت: [ ص: 129 ] أعلمت أن أباك غير مستخلف؟ قال: قلت: ما كان ليفعل. قالت: إنه فاعل. قال: فحلفت أني أكلمه في ذلك. فسكت حتى غدوت ولم أكلمه، قال: فكنت كأنما أحمل بيميني جبلا، حتى رجعت فدخلت عليه، فسألني عن حال الناس، وأنا أخبره قال: ثم قلت له: إني سمعت الناس يقولون مقالة فآليت أن أقولها لك، زعموا أنك غير مستخلف، وإنه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم، ثم جاءك وتركها رأيت أن قد ضيع فرعاية الناس أشد. قال: فوافقه قولي فوضع رأسه ساعة ثم رفعه إلي فقال: إن الله عز وجل يحفظ دينه وإني لئن لا أستخلف فإن رسـول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف. قال: فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، فعلمت أنه لم يكن ليعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا، وأنه غير مستخلف" [7] .

          لقد أشارت على أخيها بعد طعن عمر بن الخطاب في المسجد بمراجعة أبيها الخليفة حول أخطر وأهم مسألة سياسية، ألا وهي تعيين الخليفة أو ما يسمى اليوم تعيين نائب الرئيس في حالة وفاته. مجرد اعتراضها على الخليفة عندما لم يستخلف بعده خليفة يعني الكثير. فحفصة هي ابنة عمر بن الخطاب، الذي عرف بتشدده. لكن هذا التشدد كان موضوعا في محله. وعلى رغم تشدد عمر فإن ذلك لم يمنع حفصة من اشتغالها بأمور السياسة. ولقد تخرجت من بيت النبوة أيضا، ورأينا أن الله زكاها وقال عنها: إنها صوامة قوامة. فلو كان اشتغال المرأة بالسياسة محظورا لكانت أبعد الناس عن ذلك. [ ص: 130 ]

          ولحفصـة موقف سياسي آخر تجلى في نصيحتها لأخيها يوم التحكيم في ما يخص دماء المسلمين. عن ابن عمر، رضي الله عنه، قال: "دخلت على حفصة ونسواتها تنطف. قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين. فلم يجعل لي من الأمر شيء. فقالت: الحق فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة، فلم تدعه حتى ذهب. فلما تفرق الناس خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم، ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان. قال حبيب: حفظت وعصمت. قال محمود عن عبد الرزاق: ونوساتها" [8] .

          لقد أشارت حفصة على أخيها يوم التحكيم بين علي ومعاوية بمشورة حقنت بها دماء المسلمين، وحفظت وحدتهم. إنه موقف يسجله لها التاريخ، فلنعم المرأة الصالحة العاقلة إذا أدلت بصوتها في أمور السياسة. يعتبر أنموذج حفصة أنموذجا متميزا يدل صراحة على أهمية وجود المرأة في الوسط النخبوي، وتأثيره في مختلف المجالات، وكيف يمكن أن يتصدر في تحمل مسؤولية قضايا حساسة قد تكون ذات علاقة بعقيدة أمة بكاملها. [ ص: 131 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية