الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مقاصد القضاء في الإسلام (التنظيم القضائي) [الجزء الأول]

الدكتور / حاتم بوسمة

المطلب الثاني: شروط تقلد القضاء:

إن الناظر في كتب الفقه على اختلاف مشاربها وتباين مذاهبها، يراها في عرضها لشروط تولي القضاء ذات مرتكزين اثنين، أولهما: التشريع السماوي، وثانيهما: اجتهاد الفقهاء [1] بما ترمي إليه مقاصد الشريعة الإسلامية.

والملاحظ أن الفقهاء اتخذوا في تكييفهم لشروط تولي القضاء مناهج مختلفة تراوحت بين أسلوب تعداد الشروط، وعبروا عنها أيضا بالصفات وإن كانوا قد اختلفوا فيما بينهم في تحديد العدد فبلغت لدى الشافعية ثمانية [2] ، وأوصلها الحنابلة إلى عشرة [3] [ ص: 63 ] .

أما الحنفية وبعض الشافعية، فألحقوا شروط القضاء بشروط الشهادة حيث أحالوا على شروط الشاهد عند الحديث عن شروط القاضي

[4] .

واتخذ المالكية في تصنيف شروط القاضي منهجا مختلفا حيث صنفت الشروط إلى مجموعات وأقسام، وإن كانوا قد اختلفوا فيما بينهم في تصنيفها، فجعلها بعضهم ثلاثة أقسام: شروط واجبة، وواجبة غير شرط، ومستحبة [5] .

والذي نص عليه ابن راشد أن صفات القضاة على ثلاثة أقسام: "قسم شرط في صحة التولية، وقسم ليس بشرط، وقسم لا يقتضي عدمه الفسخ وإنما هو وصف كمال" [6] .

وذهب فريق آخر إلى تقسيمها إلى شروط صحة وشروط كمال [7] ، وعد بعضهم شروط القضاء على ضربين: مستحقة ومستحبة، فالمستحقة ثمانية [8] ولا يولى القضاء إلا من اجتمعت فيه، وتسقط الولاية بانخرام شرط منها، والمستحبة كثيرة، وإياها عنى مالك بقوله: "لا أرى خصال القضاء تجتمع اليوم في أحد" [9] . [ ص: 64 ]

وجريا على طريقة السادة المالكية ارتأيت أن أقسم شروط تولي القضاء إلى ثلاث مجموعات كلية تتفرع عنها جزئيات وإن كنت أخالفهم في منهج التقسيم ومضمونه، إذ قسمتها إلى شروط تقع في مرتبة الضروريات، وشروط تقع في مرتبة الحاجيات، وشروط تقع في مرتبة التحسينيات أو الكماليات.

وما ينبغي لفت النظر إليه أن مراتب الجزئيات في كل كلية متفاوتة الأهمية من حيث الطلب فبعضها آكد من بعض، وبعض الجزئيات لا تنضبط في كلية واحدة لاتساع دائرة مدلولاتها، واحتمالها لأكثر من معنى، فجاءت مبثوثة في الكليات الثلاث باعتبار آثارها في تحقيق مقاصد الشريعة من أحكام القضاء.

أولا: الشروط الضرورية:

أما الشروط الواقعة في مرتبة الضروريات فهي إجمالا اثنان: العلم المنافي للجهل، والإسلام، وتفصيلا ثلاثة بإضافة العدالة في أدنى مراتبها وهي داخلة في الإسلام، لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالته إلى أبي موسى الأشعري "والمسلمون عدول بعضهم على بعض" [10] ، فدل ذلك على أن أدنى مراتب العدالة وصف الإسلام.

أما اشتراط العلم وهو ما كان في أدنى مراتبه منافيا للجهل، والمقصود به هنا الجهل بالأحكام الشرعية ومظانها، فهو مما اتفق عليه جمهور العلماء إلا من شذ منهم [11] . [ ص: 65 ]

وقد نص الفقهـاء على أن شرط من يتولى القضـاء بين الناس العلم، بل عده بعضهم الشرط الأساسي للخطة [12] ، فلا يجوز تولية الجاهل بالأحكام الشرعية؛ لأن القاضي ملزم بموافقته الشرع في أحكامه؛ لأن العدل هو الشرع، ومن شأن من يكون كذلك أن يكون عالما لا جاهلا حتى يدرك أسرار القضاء





[13] ،"والعلم إذا أطلق في لسان أهل الأصـول والمتقـدمين، فإنما يراد به أصدق معانيه وهو الفكر والنظر، فلا يصـح عند الأئمة ولاية قاض عامي أو مقلد لا يستطيـع النظر في مدارك الأحكام أو في مسائل الخلاف" [14] ، [ ص: 66 ] ولـذلـك اشتـرطوا في القـاضـي أن يـكون جـامعـا بيـن الفقـه [15] والحـديث [16] .

قال أصبغ (تـ225هـ/840م) وأشهب (تـ204هـ/819م) ومطرف (تـ220هـ/ 835م) وابن الماجشـون (تـ212هـ/827م): "لا يصلح أن يكون صاحب حديث لا فقه له أو فقيه لا حديث عنده" [17] .

وقد قال مالك في كتاب ابن حبيب (تـ238هـ/852م) "لا أرى خصال القضاء تجتمـع اليوم في أحـد ولكن يجب أن يكون عالما عدلا، قال ابن حبيب: فإن لم يكن للرجل علم وورع، فعقل وورع، فإنه بالعقل يسأل وبالورع يعف، فإذا طلب العلم وجده وإذا طلب العقل لم يجده" [18] .

وفي هذا تلميح إلى جواز ولاية المقلد القضاء للضرورة إذا لم يوجد مجتهد، ولا خلاف أن ولاية المجتهد أولى وإلى ذلك ذهب ابن الحاجب (تـ646هـ/1248م)، إذ اشترط أن يكون القاضي مجتهدا بحيث لا تجوز ولا تصح ولاية المقلد ولا تنفذ أحكامه وإن وافقت الصواب مع وجود المجتهد، قال ابن الحاجب: فإن لم يوجد مجتهد فمقلد [19] . [ ص: 67 ]

وهذا هو الصحيح؛ لأنه يمكنه أن يقضي بفتوى غيره ومقصود القضاء يحصل به، وهو إيصال الحق إلى مستحقه [20] .

وإذا كان بعض الفقهاء أجازوا ولاية المقلد فقد اشترطوا أن يختار من أمثل المقلدين [21] ، وإلى هذا ذهب ابن عبد السلام الهواري (تـ749هـ/1348م) وخليل (تـ776هـ/1374م)، وقال ابن العربي: "هذا الذي قضى بالحق إن كان عن علم فهو الذي تقدم وإن كان عن تقليد فلا يجوز أن يتخذ قاضيا إلا عند الضرورة" [22] .

فشرط العـلم كما تقدم لازم، فلا يحل تقديم من ليس بعـالم ولا ينعقد له تقديـم مع وجود العالم المستحـق للقضاء، لكن رخص في من لم يبلغ رتبة الاجتهاد في العـلم إذا لم يوجد من بلغها، ومع كل حال لا بد أن يكون له علم [23] .

وترخص بعضهـم فذكر أنه: "إذا تأهـل الطالب لاستخراج المسائل من محلها جاز توليته القضاء" [24] ، ورد ابن راشد هذا القول بأنه: "وسيلة إلى تولية الجهال" [25] . [ ص: 68 ]

وصوب ابن عاشور ذلك بأن "ملكة الاستحصال لا تنضبط ولا يدرك توفرها في صاحبها إلا العلماء، فإذا هوي ولاة الجور أو الجهالة تولية أحد من الجهـلة القضاء زعموا أنه وإن لم يكن عالما، فهو قادر على استخراج المسائل -وهو غير قادر-، أو لعله وإن كان قادرا لا يصرف همته إلى ذلك" [26] .

ومعلوم أن الاجتهاد بالمفهوم الفقهي الأصولي صعب التحقق بل هو مستحيل اليوم، صرح بذلك المازري في عصره حيث يقول: "وأما عصرنا هذا، فإنه لا يوجد في الإقليم الواسع العظيم مفت نظار قد حصل آلة الاجتهاد واستبحر في أصول الفقه ومعرفة اللسان والسنن والإطلاع على ما في القرآن من الأحكام والاقتدار على تأويل ما يجب تأويله، وبناء ما تعارض في بعضه على بعض، وترجيح ظاهر على ظاهر، ومعرفة الأقيسة وحدودها وأنواعها وطرق استخراجها، وترجيح العلل والأقيسة بعضها على بعض، هذا الأمر زماننا عار منه في إقليم المغرب كله فضلا عمن يكون قاضيا على هذه الصفة، فالمنع من ولاية المقلد القضاء في هذا الزمان تعطيل للأحكام وإيقاع للهرج والفتن والنزاع، وهذا لا سبيل إليه في الشرع" [27] .

وإذا كان المازري قد سهل في ولاية المقلد القضاء في عصره لما يعود به من جلب المنافع ودرء المفاسد، فإننا اليوم أشد حاجـة إلى جواز تولية المقلد "لا سيما حين صار المسلمون مقلدين لمذاهب معلومة الصحة مشهورة العلم" [28] . [ ص: 69 ]

وأما اشتراط العدالة غير الزائدة عن وصف الإسلام كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فهي شرط في صحة ولاية القضاء [29] ، ولا ولاية لكافر على مسلم في أدنى الولايات، فكيف بولاية القضاء التي هي أعلى الولايات بمقتضى تطبيق شرع الله وتنفيذ أحكامه، قال الله تعالى: ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) (النساء:141)، ولا سبيل أعظم من القضاء؛ لأن القصد به فصل الأحكام، والكافر جاهل بها [30] ، فاجتمع لي في الكافر منعان: أولا: منع أصالة، وثانيا: منع تبعي.

منع أصالة وهو صفة الكفر، والشواهد من النصوص كثيرة على أنه ليس لكافر على مسلم ولاية [31] .

ومنع تبعي، وهي صفة الجهل اللازمة [32] لصفة الكفر، وقد تقدم بيانها شرحا وتحليلا عند تعرضي لشرط العلم. [ ص: 70 ]

فخرج مما تقـدم وجـوب تأصل روح العقيـدة الإسلامية في القاضي، إذ تدفعه إلى التقيد بالأحكام الشرعية والسعي نحو إقامة شرع الله في أرضه، وإيصال الحقوق إلى مستحقيها ورفع الظلم وإحقاق الحق، حتى يتم أمر الله بانتظام أمر هذه الأمة على الوجه الأكمل [33] ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بإقرار مبدأ العدل، وأول مراتب العدل أن يعدل المرء مع نفسه [34] ، والكافر ليس عادلا في نفسه، فكيف يكون عادلا في المجتمع؟

قال الله تعالى حكاية عن ذلك بعد أن أخذ من المسلمين العهد أن يحكموا بالعدل [35] : ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ) (النساء:60). [ ص: 71 ]

وكيف يسـعى من كان هذا حـاله إلى إصـلاح حال المسلمين بعد قوله تعالى: ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ) (البقرة:109).

قال الماوردي: "فلا يجوز أن يقلد الكافر القضاء على المسلمين ولا على الكفار" [36] .

وأنتهي إلى القول: إن عدالة القاضي وأدبه، وهي التي تنزل منزلة الضرورة لا تعدو أن تجاوز وصف الإسـلام وقيمه الروحية والأخلاقية، والتي من دونها لا تحل ولا تصح تولية، وإن كانت واقعا، فهي خروج عن شريعة رب العالمين، وكيف نرجو صلاح ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ) (الجاثية:23).

وقد قيل للقاضي إسماعيل بن حماد بن زيد الأزدي (تـ383هـ/993م): ألا تؤلف كتابا في أدب القضاء؟ فقال: "اعدل ومد رجليك في مجلس القضاء، وهل للقاضي أدب غير الإسلام".

ثانيا: الشروط الحاجية:

وأما الشروط الواقعة في مرتبة الحاجيات، فهي إجمالا: القدرة على استحضار الأحكام الشرعية، وهو شرط زائد عن مجرد العلم، إذ أن العلم بالحكم لا يستلزم سرعة استحضاره؛ والعلم بأحوال الناس ومراعاة الأعراف [ ص: 72 ] السائدة بينهم؛ والفطنة وأعني بها القدرة على فهم حجج الخصوم وكشف ألاعيبهم؛ والتكليف وأعني به البلوغ والفهم، فاجتمع إجمالا أربعة شروط أفصل فيها القول تباعا:

أما القدرة على استحضار الأحكام الشرعية، فليس يخفى على ذوي البصائر أن مجرد العلم بالأحكام الشرعية مع كثرتها وتداخلها وتشعب المسائل الدائرة حولها، يجعل أمر استحضارها عند الحاجة إلى ذلك أمرا في غاية المشقة إلا لمن تمرس بالأحـكام وباشر عويص المسائل والنوازل، فكان شرط العلم واقعا في مرتبة الضروريات، كما بينت سابقا، وشرط الاستحضار واقعا في مرتبة الحاجيات.

ذكر ابن عاشور أن الواجب على القاضي أن يكون "مستحضرا للأحكام الشرعية في المسائل الكثيرة النـزول ومقتدرا على الإطلاع على الأحكام ونوادر النوازل عند دعاء الحاجة إليها بسهولة، لكونه دارسا لكتب الفقه متضلعا بطرق الاستفادة منها" [37] .

وقد رد ابن راشد على من أجاز تولية المتأهل لمعرفة استخراج المسائل من مواضعها [38] بقوله: لكن لا خفاء في أن هذا تضييق على الخصوم، لأنه يطيل عليهم فصل نوازلهم حتى يفهمها القاضي [39] . [ ص: 73 ]

ومما يرجع إلى معنى الاستحضار "المقدرة على فهم مدركات المسائل وعللها، لأن ذلك أحسن منبه للقاضي حين اشتباه المسائل" [40] .

وأما العلم بأحوال الناس ومراعاة الأعراف السائدة بينهم، فذلك راجع إلى معنى التيسير ورفع الحرج، فاتصال الفقيه بالناس وتعرفه على عاداتهم ووقوفه على معاملاتهم، يجعله يصادف الحق في أحكامه وفتاويه، ويكون أرفق بالناس على ما تقتضيه قواعد الشريعة من التيسير، ولذلك ذهب القرافي إلى أن الجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الصالحين [41] .

فالعرف المعتبر حينئذ، هو الموافق لمقاصد الشريعة وللأدلة الأصولية المعتبرة، أما ما جاء على خلاف ذلك وابتعد عن روح الشريعة وحكمتها ونصوصها، فهو مردود لا يقبل ولا يطبق ولا يقضى به [42] ، وكم من حكم كان مستنده على أحوال الناس وأخلاقهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم تبدلت الأحوال بعد ذلك وتغيرت وفسدت الأخلاق فكان تبدل الحكم يتماشى وغرض الشارع في تحقيق جلب المصالح ودرء المفاسد وصيانة الحقوق، وهـذا ما سلكه الصحابة، رضوان الله عليهم، بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم . [ ص: 74 ]

من ذلك ما رواه البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ضالة الإبل فقال: ( ما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها ) [43] ، وظل حـكم ضالة الإبل وتركها وعدم التقاطها إلى آخر عهد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ، فلما جاء عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه أمر بالتقاطها وبيعها فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها.

ذكر الباجي في "المنتقى": أنه لما كان في زمن عثمان وعلي، رضي الله عنهما، ولم يؤمن عليها لما كثر في المسلمين من لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم وكثر تعديهم عليها أباحوا أخذها لمن التقطها ورفعها إليهم ولم يروا ردها إلى موضعها، وإنما اختلفت الأحكام في ذلك لاختلاف الأحوال [44] ، فهذا وإن خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في الظاهر فهو موافق لمقصوده، إذ لو بقي العمل على ما كان عليه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لأدى ذلك إلى عكس مقصد الشارع، وهو صيانة الأموال وحفظها من الهلاك والذوبان [45] .

لهذا ذهب بعض المحققين إلى أنه لا بد للحاكم من فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس حتى يميز بين الصادق والكاذب [ ص: 75 ] وبين المحق والمبطل وحتى يطابق بين هذا وذاك، كما أن المفتي لا بد له من معرفة عرف الناس وعاداتهم، ومن معرفة الزمان وأهله ومعرفة ما إذا كان العرف عاما أو خاصا، حتى إن من جهل ذلك ولم يكن عالما بأحوال أهلها وعاداتهم وأعرافهم ومقتضيات ألفاظهم فهو جاهل [46] .

إلى ذلك فإن المصالح تختلف باختلاف الزمان والمكان، والعوائد تتغير من بلد إلى بلد، ولهذا المعنى اشترط فقهاء المالكية أن يكون القاضي بلديا [47] ، إذ هو أعرف بأحوال أهلها وعاداتهم وأعرافهم ومصطلحاتـهم [48] ، وذلك أدعى له أن يصيب الحق وينأى به عن الوقوع في الأخطـاء والزلات، ومما لا شك فيه أن القصد من الأحكام إقامة العدل ودرء المفسدة وجلب المصلحة، فيصدر الحكم على وفق ما يحقق تلك المصلحة أو يدرأ تلك المفسدة، ويكون علاجا ناجحا وتدبيرا حكيما لبيئة معينة في زمن معين، وقد قيل لابن عبد السلام التونسي: "إن هؤلاء القوم امتنعوا من توليتك القضاء لأنك شديد في الحكم فأجاب: "أنا أعرف العوائد وأمشيها" [49] . [ ص: 76 ]

ولا شك أن الحكمة من معرفة أحوال الناس وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم، تعين كثيرا القاضي على بلوغ الهدف والصواب والحكم بين أهل الخصام خصوصا فيما لا نص فيه، وكلما كان أعرف بعادات البلد كلما كان أقدر على سرعة إنفاذ الأحكام، فيحق ما تعارفه الناس واعتادوه، لأن معرفة العوائد تمكنه من معرفة مشاكلهم ودوافع نوازلها، وهذا ما أوضحه الشاطـبي في "موافقاته" من أن على القاضي أن يلاحظ العرف الجـاري بين الناس وأن لا يجمد مع الروايات ويقطع النظر عن العادات، إذ أن الجمود على النصوص لا يليق بالقاضي، وأن عليه أن يعتبر العوائد وأن ذلك من الضرورات [50] ، على أن القاضي بمعرفته لعادات وتقاليد القوم يتضح له المدعى من المدعى عليه، فإن المدعى عليه من عضده أصل أو عرف، وأنه وإن شهد لأحدهما الأصل وللآخر العرف كان من شهد له العرف هو المدعى عليه [51] .

وقد بين القرافي في الفرق الستـين والمائة "بين قاعدة المتداعيين شيئا لا يقدم أحدهما على الآخر إلا بحجة ظاهرة، وبين قاعـدة المتداعيـين من الزوجين" أنه إذا اختلف الزوجان قضى للمرأة بما هو شأن النساء و للرجـال بما هو شأن الرجال وما يصلح لهما قضي به للرجل، لأن البيت بيته في مجرى العادة [52] . [ ص: 77 ]

وأما شرط الفطنة فهو من الأهمية بمكان، إذ هو دليل على العقل، وليس المراد بالعقل عقل التكليف، لأنه داخل في مسمى التكليف، بل المراد عقل الفطنة وهو الذي يعبر عنه المحدثون بالضبط، ويعبر عنه الفقهاء في صفات الشاهد بالتيقظ [53] ، على أنه ينبغي أن يكون غير زائد في الدهاء وذلك أمر زائد على الفطنة، وإنما نهي عن ذلك لأنه يحمله على الحكم بالفراسة وتعطيل الطرق الشرعية من البينة والأيمان [54] ، وقد فسرها العدوي (تـ1213هـ/1798م) في "حاشيته"، بكونها: جودة الذهن والقريحة، فلا يكفي العقل التكليفي فقط لاجتماعه مع التغفل عن حجاج الخصوم، ولا بد أن لا يكون زائد الفطنة، بل أن يكون بين الفطنة فقط [55] .

قال ابن عرفة: عد ابن الحاجب الفطنة من الشروط، وهو ظاهر كلام الطرطوشي (تـ520هـ/1126م)، وعدها ابن رشد الجد (تـ520هـ/1126م) وابن شاس (تـ616هـ/220م) من الصفات المستحبة، والحق أن مطلق الفطانة المانع من كثرة التغفل شرط نازل منزلة الحاجيات، والفطنة الموجبة للشهرة بها ينبغي كونها من الصفات المستحبة [56] .

والسبب في اشتراط الفطنة في القاضي يعود إلى: أن العلماء غير القاضي يعلمون أحكاما كلية بمنـزلة كبرى المسائل والقضاة يحتاجون لتطبيقها على الجزئيات، فلا بد من فطانة ليحسن بها معرفة الصغرى وإدراجها في الكبرى [57] . [ ص: 78 ]

ومما يؤكد اشتراط الفطنة ما أورده القرافي في "الذخيرة"، وهو قوله: "وينبغي أن يكون فطنا متيقظا كثير التحرز من ذوي الحيل وميلهم على المغفل... لا بد أن يكون صحيح التمييز جيد الفطنة" [58] ، وذكر ابن المواز (تـ281هـ/894م) أنه "لا ينبغي أن يستقضي إلا ذكي فطن فهم فقيه" [59] .

وقد عرف القضاء الإسلامي قضاة فطناء، حفظ لنا التاريخ بعض القضايا التي باشـروها، ولعل على رأسـهم عليا بن أبي طالب رضي الله عنه ، الذي شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( أقضاكم علي ) [60] .

فالفطنة في القاضي هي دقة الفهم، وهو ما جعل بعضهم يعتبر أن القضاء فهم وليس فقها [61] ، وذلك مصداقا لقوله تعالى: ( ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما ) (الأنبياء:79).

والفطنة في القاضي تفيده في معرفة حيل الخصوم [62] ، قال الماوردي عن العقل، وهو مجمع على اعتباره ولا يكتفي فيه بالعقل الذي يتعلق به التكليف من علمه بالمدركات الضرورية حتى يكون صحيح التمييز جيد الفطنة بعيدا من السهو والغفلة، يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعضل [63] . [ ص: 79 ]

وأما شرط التكليف، فلأن غير المكلف قاصر النظر قطعا [64] ، فلا يتعلق بقوله على نفسه حكم، فالأولى أن لا تكون له ولاية على غيره، لأنه غير أهل لإصدار الأحكام لنقصان تمييزه، ذكر الماوردي: "أن غير البالغ لا يجري عليه قلم ولا يتعلق بقوله على نفسه حكم، فكان أولى أن لا يتعلق به على غيره حكم" [65] .

وضابط البلوغ هنا ليس محددا بالسن بل هو النضج الذهني، ولذلك فإن القضاة في الدولة الإسلامية كانوا يعينون حسب المقدرة والكفاءة، مع مراعاة البلوغ وعدم جواز التعيين قبل إدراك سن معينة، وأما المجنون فلا تعلق له بالأحكام التكليفية، فكيف يتضح له ما أشكل وفصل ما أعضل؟ [66]

فخرج إذن أن مجرد العقل لا يكفي وإن كان ضروريا، بل يجب أن يكون القاضي جيد التمييز صافي الذهن، يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل من الخصومات وحل ما أعضل من النازلات المدلهمات، ويفرق بين الدعوى الصحيحة والدعوى الفاسدة، ويستخرج الحوادث من أصولها مع العلم بالمدركات الضرورية، وقد قيل: كثير العقل مع قليل العلم أنفع من كثير العلم مع قليل العقل، وليس العلم بكثرة الرواية والحفظ وإنما العلم نور يضعه الله في القلوب، ومن قلد الحكم بين الخلق والنظر في شيء من أمورهم، فهو أحوج الناس إلى هذا النور وإلى اتصافه بالتذكير والتيقظ والتفطن [67] . [ ص: 80 ]

ثالثا: الشروط التحسينية أو الكمالية:

أما الشروط الواقعة في مرتبة التحسينات فهي كثيرة جدا ومتعذرة الاجتماع وبعضها آكد من بعض، ومنها أن يكون عالما ممن يسوغ له الاجتهاد، عدلا ورعا متنـزها عن أخلاق العامة، متأنيا غير عجول، أمينا، صـلبا في الحق، سـليم الحواس، مستخفا بالأئمة، بلديا، مستشيرا لذوي الرأي، حرا، ذكرا... الخ، وإنما وقعت هذه الأوصاف في منـزلة الكمال، لأنه لا يتوقف عليها الحـكم، ولا يضيق بها الخصوم إن لم تكن في القاضي، فلم ترق إلى مرتبة الحاجي.

فأما اشتراط الاجتهاد في القـاضي [68] ، فهي صفة زائدة عن شرط العلم، بها يحصل الاطمئنان إلى قدرة القاضي على مواجهة ما أشكل من الأحكام والقضـايا، فيكون علمه أوثق وحكمه أصوب، جـاء في "المقصد المحمود": إن من الشروط المستحبة "العلم الذي يتأتى به الاجتهاد في النوازل أو عند حصول الخلاف" [69] . [ ص: 81 ]

وفرق بين شرط العلم وشرط الاجتـهاد، وإن كان الاجتهاد لا يحصل إلا بالعلم، فشرط العلم -كما سبقت الإشارة إليه- معرفته بأصول الأحكام، ومواطن الإجماع والمشهور من المذهب المقلد له [70] .

وأما شرط الاجتهاد، فهو المعرفة بالأصول والارتياض بالفروع والقدرة على الترجيح، وعرفه علي حسب الله بكونه "العلم بمقاصد الشارع وأحوال الناس وما جرى عليه عرفهم وما فيه صلاح لهم أو فساد، والقدرة على معرفة الأحكام وقياس الأشباه على النظائر ليستطيع فهم الوقائع واستنباط الأحكام الملائمة لمقاصد الشارع والمحققة لمصالح العباد المعتبرة" [71] .

وقد عرف الغزالي (تـ505هـ/م) الاجتهاد بأنه ما كان مخصوصا ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بالأحكام الشرعية [72] ، وهذا يقتضي أن يكون القاضي متابعا للتشريعات ولكل جديد في مجتمعه، يدل على ذلك رأي أبي حنيفة القائل بعدم ترك القاضي على قضائه أكثر من سنة، لأنه متى اشتغل بالقضاء نسي العلم فيقع في الخلل ويخطئ في الحكم [73] .

ولعل ما تأخذ به معاهد القضاء اليوم من تكوين للقضاة بعد ممارستهم للعمل القضائي، سواء كان التكوين إجباريا لحديثي التخرج أو اختياريا لجميع القضاة هو أخذ بهذا الرأي. [ ص: 82 ]

وأما اشتراط العدالة [74] ، فهي صفة رتبية زائدة عن أصل الإسلام، وهي الاعتدال في الأحوال الدينية، وذلك لا يتم إلا باجتناب الكبائر وترك الصغائر في الغالب، وقيل: صفاء السريرة واستقامة السيرة [75] .

ذكر الماوردي أن العدالة المعتبرة في القاضي هي: "أن يكون صادق اللهجة، ظاهر الأمـانة، عفيفا عن المحارم، متوقيا المآثم، بعيدا عن الريب، مأمونا في الرضا والغضب، مستعملا لمروءة مثله في دينه ودنياه" [76] .

وسئل ابن محرز (تـ450هـ/1058م) عن رجل يخالط الأحداث ويخلو معهم، هل يجوز توليته القضاء؟ فأجاب: "من هذه أوصافه حقيق أن يلحظ بعين البغض والبعد حتى يقلع عن أوصافه القبيحة" [77] .

وأما سلامة الحواس، فإن عدمها جميعا يورث تعطيل عمل العقل ويبطل الولاية أصلا [78] ، وليس هذا من غرضنا في هذا المطلب، ومقصدي هنا أن [ ص: 83 ] كمالها في القاضي، وسلامتها جميعا أهيب للمنصب وأدعى إلى تمييز المحق من المبطل، قال ابن قدامة: "وأما كمال الخلقة فأن يكون متكلما، سميعا، بصيرا، لأن الأخرس لا يمكنه النطق بالحكم، ولا يفهم جميـع الناس إشارته، والأصم لا يسمع قول الخصمين، والأعمى لا يعرف المدعي من المدعى عليه، والمقر من المقر له والشاهد من المشهود" [79] ، لذا حكى بعضهم الإجماع على اعتبار سلامة هذه الحواس في القاضي [80] .

جاء في "تبصرة الحكام" أن "اشتراط السمع والكلام لم يختلف فيهما العلماء ابتداء، لأنه يتعذر عليهما الفهم والإفهام غالبا" [81] ، "وأما أن يكون بصيرا فلا خلاف نعلمه بين المسلمين في المنع من كون الأعمى حاكما، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقد بلغني ذلك عن مالك والدليل على صحة هذا القول أن في تقديمه للقضاء تضييقا على المسلمين في طرق القضاء وإنفاذ الأحكام، والحاكم مضطر إلى أن ينظر لكل من يطلب عنده مطلبا من مطالب الحق، والأعمى وإن كان يميز الأصوات، فلا يميز إلا صوت من تكرر عليه صوته" [82] .

وأما السلامة من الآفات المنفرة كالجذام والبرص والصرع وتغير اللسان والسهو القليل فدون ما سبق. [ ص: 84 ]

وعلل الماوردي شرط سـلامة الحواس، بأنه في السمع والبصر، ليصح بهما إثبات الحقوق، ويفرق بين الطالب والمطلوب، ويميز المقر من المنكر، ليتميز له الحق من الباطل، ويعرف المحق من المبطل.

وأما سلامة الأعضاء وإن لم تكن معتبرة فيه، إلا أن السلامة من الآفات أهيب لذوي الولاية [83] .

وأما الذكورة، فإن الناظر إلى ما يقتضيه فصل القضايا من أن يكون القائم عليه على جانب كبير من الجزالة وصرامة العزم، وأن يكون مقامه مهيبا في النفوس، على ما يقتضيه المنصب من مباشرة الحدود والقصاص، أدرك أن المرأة تضعف عن الأخذ بالحقوق، إذ تغلب عليها رقة الطبع وهشاشة العاطفة وسرعة التأثر، على ما يعتريها من نزوع إلى الرحمة والشفقة، وذلك بمقتضى الخلق والتكوين المجبولة عليهما [84] ، هذا الضعف هو الذي حمل النبي صلى الله عليه وسلم على منع تولية أبا ذر الولاية في قوله: ( يا أبا ذر، إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة )

وأما الحرية، فقد يقول بعضهم: لا وجود لرق اليوم، وأقول: إن هذا الشرط يدخل في معنى السلامة من نفوذ غيره عليه، سواء كان بتسلط السلطة التنفيذية أو نفوذ بعض الأحزاب السياسية، أو تهديد الجماعات الإرهابية بشتى طوائفها، أو إغراء رجال الأعمال، أو خضوع لرأي عام، وعلى كل حال، فإن [ ص: 85 ] هذا الشرط "يومئ إلى وجوب تجرد القاضي عن كل ما من شأنه أن يجعله تحت نفوذ غيره" [85] ، ومن هنا يتضح ما قاله أشهب: إن من واجبات القاضي أن يكون مستخفا بالأئمـة، أي مستخفا بتوسطاتهم في النوازل وشفاعتهم فيها وفي إنفاذ الحق عليهم وعلى ذويهم [86] .

وإجمالا، ينبغي لمن يتصدى للقضاء، أن يكون بصورة من يتهيأ للقيام بإقامة الحدود ورد المظالم عن المظلوم وغير ذلك من مصـالح الدين والدنيا، ولا يتهيأ ذلك منه إلا بخصـال وهي: الأمانة والعدل والنصيحة والرحمـة والنـزاهة والصلابة.

فأما الأمانة فلكي يوثق فيما يقضي، لأن القاضي إن لم يزد حاله على حال الوديعة المستحفظة لم ينقص عنها، وأما العدالة فلكي يفارق بها حال من على الفسق وخلاف المروءة مثل المجون واللعب، وأما النصيحة فلكي يفارق بها حال من يريد الظلم، ولا يبالي بوقوع الغش والخطأ والغلط، وأما الرحمة فلكي يفارق بها حال من يقسو قلبه، فلا يرحم اليتيم والصغير ولا ينهض بنظر المظلوم، وأما النـزاهة فلكي يفارق بها التشوف لما في أيدي الناس، وأما الصلابة فلكي يفارق بها حال من يضعف عن استخراج الحقوق وعن الإقدام على ذوي السلطان والقهر والظلم والاعتداء [87] ، فإن كثيرا من الناس قد يكون عالما دينا [ ص: 86 ] ونفسه ضعيفة عن التنفيذ والإلزام والسطوة، فيطمع في جانبه بسبب ذلك، وأن يكون غير مستكبر عن مشاورة من معه من أهل العلم، غنيا عفيفا ورعا، متأنيا غير عجول، كثير التحرز من الحيل، غير مخدوع، صدوق اللهجة، لكلامه لين إذا قرب، وهيبة إذا أوعد، ووفاء إذا وعد، موثوقا باحتياطه في نظره لنفسه في دينه وفيما حمل من أمر، لا يطلع منه الناس على عورة، ولا يخشى في الله لومة لائم [88] ، وظاهر كلام ابن عبد السلام الاكتفاء بالغنى عن عدم الدين.

واستحب كونه بلديا ليعرف الناس والشهود، والمقبولين من المردودين منهم، ومعرفـة عوائد القـوم وعاداتـهم [89] ، فإن ذلك أحرى أن يتبين الحـق، وإلا فكيف يحكم بين الناس من لا يعرف عوائدهم، علما وأن كثيرا من القضايا يتوقف البت فيها على معرفة مجاري العادات [90] . [ ص: 87 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية