المطلب الثاني: حقوق القاضي:
الغرض المقصود من هذا المطلب، بيان وجه المصلحة في رزق القاضي، وهل الأصلح أن نرزقه من بيت مال المسلمين أم لا؟ وهل يأخذ القاضي رزقه في كل حال؟ وكيف تقوم أرزاق القضاة؟
وأحسب الناظر في كتب الفقه على اختلافها، يقف على التباين الكبير بين أصحاب المذهب الواحد فضلا عن أصحاب المذاهب المختلفة. [ ص: 162 ]
فالأحناف يجيزون للإمام أن يطـلق للقاضي -إذا كان فقيرا- من الرزق ما يكفيه من بيت المال، حتى لا يلزمه مؤونة وكلفة، وأن يوسع عليه وعلى عياله، كي لا يطمع في أموال الناس
[1] .
وأما إن كان غنيا، فقد اختلف فقهاؤهم في ذلك. فذهب بعضهم إلى أنه لا يحل له الأخـذ، لأنه لا حاجة له فيه، وذهب آخرون إلى جواز الأخذ، وهو الأفضل.
فأما جواز الأخذ، فلأنه عامل للمسلمين فكانت كفايته عليهم لا من طريق الأجر. وأما الأفضلية، فلأنه وإن لم يكن محتاجا إلى ذلك، فربما يجيء بعده قاض محتاج، وقد صار ذلك سنة ورسما فيمتنع ولي الأمر عن إعطائه، فكان الامتناع من الأخذ شحا بحق (الغير)، وكان الأفضل هو الأخذ [2] .
وأما المالكية والشافعية فمذهبهم، أنه إذا تعين عليه القضاء وعنده كفاية تغنيه عن الارتزاق لم يجز له أخذ شيء. [ ص: 163 ]
ومدرك الكراهة عند المالكية، أنه أبلغ في المهابة وأدعى للنفوس إلى اعتقاد التعظيم والجلالة. وأجازوا الأخذ لمن احتاج أو لم يتعين عليه [3] .
ذكر القرافي أن "منصب القضاء منصب النبوة، فلا يجوز أن يقابل بالعوض، لأنه هوان ولأن المستأجر مستحق للمنافع، فهو نوع من السلطنة تهين منصبه، وتخل بهيبته فتختل المصالح" [4] .
وأما الشافعية فكرهوا للقاضي أن يأخذ شيئا إذا تعين عليه بالشروط السابقة لفرضيته عليه وكفايته. وأما إذا لم يتعين عليه أو كان محتاجا جاز له أخذ الرزق على قدر الكفاية [5] .
ذكر النووي [6] في "المجموع": أن من تعين عليه القضاء، وهو في كفاية لم يجز أن يأخذ عليه رزقا، لأنه فرض تعين عليه، فلا يجوز أن يأخذ عليه مالا [ ص: 164 ] من غير ضرورة. فإن لم يكن له كفاية فله أن يأخـذ الرزق عليه، لأن القضاء لا بد منه والكفاية لا بد منها، فجائز أن يأخذ عليه الرزق. فإن لم يتعين عليه، فإن كانت له كفاية كره أن يأخذ عليه الرزق؛ لأنه قربة، فكره أن يأخذ الرزق من غير حاجة [7] .
وحـكي عن صاحب التقريب [8] قولا: أنه يجوز لمن تعين عليه القضاء، وله كفاية أخذ الرزق
[9] .
وذهب الحنابلة إلى أن للقاضي طلب الرزق من بيت المال لنفسه وأمنائه وخلفائه مع الحاجة وعدمها، لأنه لو لم يجز فرض الرزق لتعطلت حقوق المسلمين ولضاعت [10] . [ ص: 165 ]
وعندي أن تطويل الفقهاء هذا، لا طائل من ورائه. فالقاضي من عمال المسلمين، وهو من أجل عمالهم، وهو القيم على مصالحهم، قد تجرد للنظر في منازعاتهم وحل الخلافات الدائرة بينهم، ونزع عن الطرق المؤدية إلى جلب الرزق، ومنعه الفقهاء من البيع والشراء خشية المحاباة، كما مر بنا آنفا، فمن أي باب يرتزق إذا منعناه من أخذ الأجرة على القضاء؟ أم أننا لا نقلد القضاء إلا لمن كانت له ثروة؟
[11]
كل ذلك عندي تضييق على المسلمين وعلى القاضي تأباه أصول الشريعة ومقاصدها؛ لأننا إن منعناه الرزق أدخلنا الضرر عليه وعلى أهله، وقد يضطره هذا إلى الارتشاء، فندخل بذلك مفسدة عظيمة عليه وعلى المسلمين؛ عليه لأننا أوقعناه في المحظور، وعلى المسلمين لأنه لا يؤمن مع ذلك أن يعطي الحق غير أهله، أو أن يمضي ما جار من الأحكام.
وأما إن لم نقلد القضاء إلا غنيا، فنكون بذلك قد أوقعنا المسلمين في حرج شديد، إذ ليس كل قاض غنيا عفيفا عن أموال المسلمين. وفضلا عن ذلك، فقد يكون غير مؤهل كفاية من الناحية العلمية.
ومع هذا فقد يوجد من هو فقير، ويكون من أصلح الموجودين علما ونزاهة وتقوى.
وهذا ما تدل عليه أصول الشريعة ويرويه تاريخ القضاء الإسلامي. [ ص: 166 ]
أما أصول الشريعة فقوله صلى الله عليه وسلم : ( من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا )
[12] .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عتاب بن أسيد إلى مكة قاضيا وجعل له درهما في كل يوم [13] .
وأما تاريخ القضاء الإسلامي، فهو امتداد لعهد النبوة، إذ جعل الخلفاء الراشدون لقضاتهم رزقا معلوما من بيت مال المسلمين. ففرض عمر بن الخطاب رضي الله عنه لشريح مائة درهم في الشهر، ورزقه علي رضي الله عنه خمسمائة درهم كل شهر
[14] .
وجاء في رسـالة علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى عامله أن يجري على القضاة ما به يكون رفاه حالهم، ويؤمن رغد العيش لهم، ويحفظ منـزلتهم، ويعفهم عن المرافق والرشاوى. وجاء في نص الرسالة: "وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس" [15] . [ ص: 167 ]
وعلى هذا مضى عمل الخلفاء من بعد، فقد جعل المنصور العباسي للقـاضي عبـد الله بن لهيعـة ثلاثيـن دينـارا في كل شهـر [16] . وكان رزق المفضل بن فضالة [17] ثـلاثين دينارا في كل شهر [18] . وكان عبد الرحمن ابن حجيرة الخولاني يأخذ رزقه في السنة ألف دينار على القضاء [19] .
والواقع أن كثيرا من قضاة المسلمين القدامى صرفوا أنظارهم عن الأجر، لئلا يكون حجة عليهم، لكونهم يكرهون هذا المنصب ويتهربون منه. فإذا ابتلوا بخدمة المسلمين تعففوا عن أخذ الأجرة على خدمتهم تلك.
ذكر المؤرخون أنه لما ولي محمد بن صالح بن أم شيبان الهاشمي [20] منصب قاضي القضاة سنة 363هـ، اشترط ألا يتناول على القضاء أجرا [21] . [ ص: 168 ]
ووجد من القضاة أيضا من أخذ على نفسه عدم استيفاء الأجرة عن يوم العطلة. فقد ذكر عن أبي خزيـمة إبراهيم بن يزيد [22] قـاضي مصر، أنه كان لا يأخذ ليوم الجمعـة رزقا قائلا: إنما أنا أجير للمسلمين، فـإذا لم أعمل لهم لم آخذ متاعهم [23] .
وبلغ من نزاهة بعض القضاة أن سليمان بن أسود الغافقي [24] لما عزل عن قضاء ماردة في قرطبة، كتب إلى الأمير: إن بيدي مالا تجمع من أرزاقي، وجب علي صرفه إلى بيت المال، وهو مما حاسبت فيه نفسي من أيام الجمع وأوقات الأشغال، والأحيان التي وجب علي فيها النظر فلم أنظر [25] .
ويتحصـل مما ذكر: أن مسألة النزاهة وإن كانت نسبية
[26] ، إلا أن على ولي الأمـر أن يرتب للقضـاة أرزاقا تسد خلتهم وتحفظ مروءتهم، بل إن [ ص: 169 ] الأصـلح أن يزيدهم عن كفايتهم، حتى لا تستشرف نفوسـهم إلى ما في أيدي الناس [27] .
والذي حققه العيني في "عمدة القارئ": أن الأصح من قولي العلماء، هو الأخذ صيانة للقضاء عن الهوان، ونظرا لمن يولى بعده من المحتاجين [28] .
والذي حققه القرافي في "فروقه" في الفرق الخامس عشر والمائة بين قاعدة الأرزاق وبين قاعدة الإجارات أن القضاة يجوز أن يكون لهم أرزاق من بيت مال المسلمين، ولا يجوز أن يستأجروا على القضاء إجماعا، لأن الأرزاق إعانة لهم من الإمام على القيام بالمصالح لا أنه عوض عما وجب عليهم من تنفيذ الأحكام عند قيام الحجاج ونهوضها. ولو أنهم استؤجروا على ذلك لدخلت التهمة في الحكم بمعاوضة صاحب العوض.
وعلى هـذا فإنه يجوز في أرزاق القضـاة الدفع والقطع والتقـليل والتكثير والتغيـير، ولو كان إجـارة لوجب تسـليمه بعينه من غير زيادة ولا نقص؛ لأن الإجارة عقد، والوفاء بالعقود واجب، في حين أن الأرزاق تصرف بحسب المصلحة [29] . [ ص: 170 ]