المبحث الأول
طرق إظهار الحق
المطلب الأول: إطلاق طرق إظهار الحق:
من المقرر أن سبيل إحقاق الحق يمر حتما عن طريق إظهار الحق، دل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذ فإنما أقطع له قطعة من النار ) [1] .
وإذا كان "مقصد الشريعة من نظام هيئة القضاء كلها على الجملة أن يشتمل على ما فيه إعانة على إظهار الحقوق" [2] ، فإن من أولوياتها حينئذ أن تعمل على توسيع قاعدة البينات
[3] . [ ص: 11 ]
أو مـا سمـاه ابن دقيق العيـد في "إحـكامه": "إطلاق طرق إثبات الحقوق" [4] .
هذا التوجه اقتضته الضرورة والمصلحة، إذ أن إهمال النظر في الحوادث التي لم يقم على ثبوتها عند القاضي دليل قطعي مثلا، يترتب عليه اختلال نظام العالم واضطراب المعاملات، والفساد في الأرض بأوسع معانيه وأجلى مظاهره. في حين أن النـزول عن اشتراط العلم القطعي إلى الظني الراجح، مع احتمال وقوع الخطأ في الحكم، يؤدي إلى حفظ بعض الحقوق دون بعض، وحفظ البعض أولى من إهمال الكل. [ ص: 12 ]
وقد خاض الفقهاء في هذه المسألة بين مطول ومقصر، واتفقوا على أن طرق إظهـار الحـق متعـددة، واختلفوا في التحديد والإطلاق. وأحسن ما رأيت في ذلك رأي ابن القيم في "الطرق الحكمية" وابن فرحون في "تبصرته" وابن دقيق العيد في "إحكامه" [5] .
والذين ذهبوا إلى تحـديد البينات، اختلفوا في عددها، فمنهم من يرى أنها سبعة. جاء في "حاشية ابن عابدين": أن طرق القضاء سبعة: البينة والإقرار واليمين والنكول عنه والقسامة وعلم القاضي والقرينة الواضحة التي تصير الأمر في حيز المقطوع به [6] . ومنهم من يرى أنها ست عشرة بينة، وهو اختيار القاضي عبد الوهاب في "التلقين" [7] .
وعـد القرافي أن الحجـاج التي يقضي بها الحـاكم سبع عشرة حجة [8] "وما عداها لا يقضى به عندنا، وفيها شبهات واختلاف بين العلماء" [9] . [ ص: 13 ]
ولئن أوصل ابن القيم البينات الشـرعية إلى ست وعشرين [10] ، إلا أنه لم يقصرها على هذا العدد، بل إنه نعى على الفقهاء تحديد طرق إظهار الحق، لما فيه من تعطيل الحدود وتضييع الحقوق، وتجريء أهل الفجور على الفساد، وجعل الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، وسدهم على أنفسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وتعطيلها مع علمهم وعلم غيرها قطعا أنها حق مطابق للواقع، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع [11] .
ولعمري إن هـذا الرأي رائـد في زماننا فضلا عن زمـان صاحبه، إذ تطالعنا اليوم دلائل وأمارات لم يكن للسلف بها علم، وهي أقطع في تبيين الحق من كثير من البينات التي حوتها بطون أمهـات الكتب والمصنفات، والتي أفاض الفقهاء في بيان شروطها ومتعلقاتها، مثل بصمات الأصابع
[12] ، [ ص: 14 ] والبصمة الوراثية
[13] .. وأحسب أن من ذهب إلى تحديد البينات، رغب أن يجعل لطرق المرافعات سبيلا واضحا منعا للتطويل في المنازعات، وضبطا لأحكام القضاء ولإجراءات المحاكمة تحقيقا للحق وإقرارا للعدل.
ولكن غاب عنه أن إحقاق الحق يقتضي استيفاء البينات، مهما تعقدت طرقها وتداخلت سبلها، وأن تطويل المحاكمة مع إقرار العدل، أولى من تقصير أمد المحاكمات مع الجور في الحكم.
ولكي نتبين بوضوح ضرورة إطلاق طرق إظهار الحق، علينا أن نعلم يقينا أن مقصد الشرع من نظام القضاء على الجملة، هو إحقاق الحق، وأن وسائل تحقيقه هي البينات، "فإن ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي [ ص: 15 ] طريق كان، فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة، فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من طرق، أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط، فهي من الدين، ليست مخالفة له" [14] .
هذا الجدل الدائر في الفقه الإسلامي بين من يرى التحديد ومن يدعو إلى الإطلاق، نجد له صدى في القوانين الوضعية.
فبعض فقهاء القانون يرى أن تحديد طرق الإثبات مقصود به حسن سير العدالة، وهو أمر نيط بالنظام العام، وأن صيغة النصوص تدعو إلى القول بأنها مفروضة على الأفراد، بحيث يجب عليهم الخضوع لها. ولذلك فلا يجوز أن يتركوا أحرارا يغيرون في طرق الإثبات المقررة لهم قانونا، إذ هم بذلك يصادمون روح العدالة.
وعلى هـذا فإنه لا يـكفي أن تكون الواقعة المراد إثباتها جائزة القبـول فحسـب، بل يلزم أيضـا أن يحصل إثباتـها بالطريقة التي نص عليها القانون. [ ص: 16 ]
ويذهـب آخرون إلى أن طرق الإثبـات ما وضعت إلا لمصلحة الأفراد الخـاصـة، ولا علاقة لهـا بالنظـام العـام، فالخصوم أحرار في أن يقدموا بعض أدلتهم المقبـولة قانونا دون البعض الآخر من غير أن يتدخل القضاء في ذلك، وإذا كان للطرفين أن يتفقا على تبديل أو تعديل الحق ذاته، فمن باب أولى أن يتفقـا على تبـديل أو تعديل طريقة إثبات هذا الحق [15] .
وإن الناظر في كتب الفقه على اختلاف مذاهبها، ليخلص إلى أن جميع الدلائل والأمارات إنما شرعت للضرورة والمصلحة؛ ضرورة إظهار الحق ومصلحة إقرار العدل
[16] .
وعليه فلا وجه لتحديد طرق إظهار الحق، بل إن الأنسب للمصلحة ولواقع الحـال القـول بالإطـلاق، على أن لا تناقض المصلحة نصا قطعيا أو إجماعا معتبرا. [ ص: 17 ]