الفصل الثالث
إيصال الحقوق
لعل من أجلى مقاصد الشريعة فيما يتعلق بأحكام القضاء، تمكين الأفراد من حقوقهم، إذ أن الدافع الأول لأسباب النزاع أو لإعادة فتح بابه واستمراره، هو بقاء الحقوق في أيدي غير المستحقين لها.
وإذا كان من أسمى مقاصد الشريعة إيصال الحقوق إلى أصحابها، بل وتعجيل ذلك، فإن مراعاة إجراءات المحاكمة واستيفاء طرق بيان الحق من أهم وسائل تفعيل هذا المقصد، إذ "أن الوسيلة التي لا يترتب عليها مقصد لا تشرع أبدا" [1] .
ولعل أهمية استيفاء طرق بيان الحق في إحقاق الحق وتعجيل إيصاله، تبرز في ما أورده النباهي في كتابه "تاريخ قضاة الأندلس"، وكيف كان تعجيل القاضي في فصل الخصومات دون مراعاة سير إجراءات المحاكمة سببا في تعجيل عزله. [ ص: 79 ]
ذكر أن القاضي معاذ بن عثمان الشعباني ولي القضاء سبعة عشر شهرا، فكان يعجل بالحكم فأحصي عليه في تلك المدة سبعون قضية أنفذها، فاستنكرت منه وخيف عليه الزلل فعجل الأمير عزله [2] .
وينبغي التأكيد بداية على أن استيفاء طرق بيان الحق، لا يعني أبدا تعقيد إجراءات المحـاكمة بدءا برفع الدعوى، وانتهاء بإصدار الحكم وتنفيـذه، أو استرسـال المواعيـد في أروقة المحـاكم مما يعسر الوصول إلى الحق، بل إن غاية كل ذلك إرسـاء مبادئ العـدل والإنصـاف وتعجيل القضاء، حتى لا يضيـع الحـق ولا يمل صاحبه من المطـالبة به، فلا ضرر ولا ضرار.
ثم إن كثيرا من الناس قد يغلب عليهم الشهـوات الدنية ووساوس الشيطـان في حب الرياسـات، فلا يذعنون لما أمر به الله ورسـوله صلى الله عليه وسلم ولا يتأملون في حسنه. فليست الرحمة في حق أولئك الاقتصار على إثبات الحجة عليهم، بل الرحمـة في حقهم أن يقهروا وأن يضرب على أيديهم حتى يعطوا الحق أهله ويلزموا جانبه، وهذا لا يتأتى إلا بقهر السلطان إلى جانب عدل القضاء. [ ص: 80 ]