الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        قراءة في فكر مالك بن نبي

        الأستاذ / عبد الوهاب بوخلخال

        - إنسان ما بعد الموحدين: الصدمة والوعي المنشطر:

        لبن نبي قراءته الخاصة للتاريخ الإسلامي، فهو يقرؤه في ضوء مفهوم الدورة الحضارية التي نبه إليها ابن خلدون في (المقدمة)... فالتاريخ عنده هو تاريخ الحضارة، ومن هنا تشكل المحطات التي تؤثر على الحضارة، نقاطا مفصلية للتاريخ وقراءة التاريخ في ضوئها... وهذه مسألة تدرك من مجموع ما كتبه بن نبي من بحوث ودراسات، استهدفت دراسة ظاهرة الركود الحضاري الذي نكبت به الأمة الإسلامية منذ قرون، فهو اقتنع منذ بواكير تفكيره بأن (مشكلة كل شعب في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم ويحل مشكلته، ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل تبني الحضارات أو تهدمها) [1] ، فهذه فكرة مركزية في مشروعه الفكري الذي كرسه لمساءلة الواقع الإسلامي والبحث في مسار المجتمع المسلم عساه يضع الأصبع على اللحظات التي شكلت بذور ما نحياه اليوم من أزمات ومآزق.

        فالتاريخ عنده - كما أشرنا - هو تاريخ الأدوار الحضارية التي تقلبت فيها الحضارة الإسلامية.

        ويهمنا في هذا المقام، أن نقف مع التحقيب الذي وضعه بن نبي لتاريخنا الإسلامي في كتابه الاستشرافي (وجهة العالم الإسلامي). [ ص: 97 ]

        وهذا الكتاب وضعه المؤلف في النصف الأول من القرن العشرين (بالضبط سنة 1949م)، جعل له صاحبه هدفا أساسيا، أفصح عنه في التنبيه الذي صدره به، فقال ملخصا مراده: " أيا كانت وجهة الأمر، فإن صناعة تاريخ العالم الإسلامي لم تعد من مهمة المؤامرات الخارجية التي قعدت به إلى حين عن التطور والازدهار، إنما هو العمل الصامت المضني، المنبعث عن حركته الداخلية، وهو ما جهد المؤلف للكشف عنه في الصفحات التي نقدمها إلى القارئ الكريم" (ص15).

        فالهدف هنا واضح، إنه تخليص العالم الإسلامي، أو على الأقل عقوله المفكرة (نخبه الثقافية) من (عقلية المؤامرة)، ذلك المشجب الذي نجعل منه مبررا لفشلنا، ومهربا من مواجهة عجزنا وعللنا، فالتاريخ لا تصنعه الأمنيات، ولا إلقاء التبعات على الآخرين، وإنما يصنع ببعث داخلي وحركة ذاتية، ولا يكون ذلك إلا بوقفة نقدية، من شأنها أن تحرر العقول وتطارد ظلام الأوهام بأنوار الحقائق.

        ذلك كان هدف بن نبي من الكتاب، وتلك كانت أطروحته لرأب الصدع الذي أحدثته صدمة اللقاء مع (الآخر) في وعي الإنسان المسلم.

        فالمسلم اليوم لا يزال يعيش حبيس حالة نفسية، أقعدته عن الانطلاقة الجادة نحو استعادة مكانته في التاريخ، وهي حالة نفسية وليدة صدمة الحداثة ثم تلتها في الآونة الأخيرة صدمة (العولمة)، وكأني به أشبه ما يكون برجل تدحرج في منحدر خطير، ما كاد يفيق منه حتى وجد نفسه يندفع ثانية إلى منحدر آخر!! [ ص: 98 ]

        وقد كان للصدمة ردة فعل قوية شطرت وعي المسلم نصفين: نصف انكفأ على (الذات) في ارتكاسة مرضية حالمة بعودة أمس لم يبق منه سوى ذكريات متكلسة على صفحات تاريخ شوشته قرون من الاستبداد السياسي والتخلف العلمي والديني والانحطاط القيمي... ونصف انبهر بالغازي، فاندفع نحوه طالبا المماهاة به، اندفاع الفراش نحو النار، وهو اندفاع مرضي عبر عنه أصحابه من خلال احتقار (الذات) والولع بتقليد الغالب - على حد تشخيص ابن خلدون - في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده!!

        فالوعي المنشطر جعل النخب عندنا، منذ صدمة الحداثة الأولى، تسير في خطين متوازيين، أو معسكرين متنافرين، هدف كل واحد منهما نفي (الآخر)، وهي حرب - كما أشرنا من قبل - أهدرت سنوات من عمر الأمة في معارك وهمية من الإلغاء والإلغاء المقـابل، تحت شعارات علمانية أو دينية، يتقاذف فيها الفريقان تهم الخيانة والتكفير والإخراج من ملة الوطن أو ملة الدين!!... صراع أحمق طال أكثر مما ينبغي له أن يطول، وأكل من أوقاتنا وجهودنا أكثر مما يفترض له أن يأكل، وأبقانا نراوح في أماكننا، كيانات هشة متهالكة، لا تحسن سوى التسكع على هوامش التاريخ، تستجدي من الآخر/الغالب، فكرها وقوتها سواء بسواء!!

        إنه الواقع المؤسف، الذي آثر بن نبي أن ينبه إليه في العديد من فقرات كتابه، وبأكثر من صياغة، كي يدق ناقوس الخطر - وهو في منتصف القرن الماضي - عسى أن يلتفت لصرخته العقلاء من كلا المعسكرين، فيوقفون [ ص: 99 ] المعركة الوهميـة قبل أن يدهمنا الطـوفان... ولكن هل ترانا سمعنا نداءه؟ أم حال بينا وبينه الموج ونحن نواجه إعصارا أطلقه غيرنا، ويراد له أن يكون أمرا واقعا مفروضا علينا، اختار له صانعوه اسم (العولمة)؟

        يقول بن نبي - مبرزا هذه الظاهرة: "لقد منح نشاط الأوروبي إنسان ما بعد الموحدين إلهاما جديدا لقيمته الاجتماعية، حين نسف وضعه الاجتماعي الذي يعيش فيه راضيا بالدون، وحين سلبه وسائله التي يتبطل بها هادىء البال حالما، فإنسان أوروبا قام - دونما قصد - بدور (الديناميت) الذي نسف معسكر الصمت والتأمل والأحلام، وبذلك شعر إنسان ما بعد الموحدين، كما شعر بوذي الصين وبرهمي الهند، بهزة انتفض بعدها مستيقظا ليجد نفسه في إطار جديد لم تصنعه يداه، وأمام ضرورتين ملحتين: فهو ملزم - على الرغم من تأخره وانحطاطه - بأن يحافظ على الحد الأدنى من كرامته، وهو أمر يتطلبه الإسلام لجميع معتنقيه حتى في المجتمعات البدائية في إفريقية الوسطى، وهو ملزم أيضا بأن يضمن لنفسه الحد الأدنى من الحياة في مجتمع قاس، لا يعول البتة صعلوكا يعيش على الغارة أو متزهدا يعيش على صدقات الناس، أو ولدا محظوظا يعيش على موارد أسرته، فقد زالت من الوجود كل إمكانيات التبطل من ذلك الحين.

        لقد وجد المسلم أن عليه أن يبحث عن أسلوب جديد في المعيشة يتفق وشرائط الحياة الجديد في المجالين: الخلقي والاجتماعي. [ ص: 100 ]

        ولسوف نجد أن الحركات التاريخية ستتولد عما قريب من ذلك البحث الغامض الذي امتزج بقلق قديم خلفته في الضمير الإسلامي منذ قرون، كتب ابن تيمية، وهي الحركات التي ستخلع على العالم الإسلامي صبغته الراهنة.

        هذه الحركات قد صدرت عن تيارين: تيار الإصلاح الذي ارتبط بالضمير المسلم، وتيار التجديد، وهو أقل عمقا وأكثر سطحية، وهو يمثل مطامح طائفة اجتماعية جديدة تخرجت في المدرسة الغربية، ومن أمثلتها الحركة الجامعية التي قامت في (عليكرة) بالهند" (ص48).

        إن هذا النص - والذي آثرنا نقله كاملا على ما فيه من طول- يضعنا أمام الصورة التي رسمها بن نبي لمسـار المحاولات الإحيائية، التي قامت منذ ما عرف بعصر النهضة، ولا تزال آثارها مستمرة فينا إلى اليوم، كما كانت هي في جوانب منها امتدادا لما أثاره بعض المصلحين منذ قرون خلت.

        وهذه الرؤية التي تضمنها النص المنقول أعلاه، هي التي ستحكم أطروحة بن نبي وهو يحاول أن يحدد (وجهة العالم الإسلامي ) في النصف الأول من القرن الماضي.

        وهي أطروحة تتمحور حول مسائل ثلاث هي:

        1- إنسان ما بعد الموحدين وصدمة الحداثة.

        2-المحاولة الإصلاحية المرتبطة بضمير المسلم (تيار الأصالة).

        3-المحاولة التجديدية المرتبطة بطموحات النخبة (تيار التغريب).

        وعلى هذه النقاط الثلاث أدار بن نبي فصول كتابه، وما يهمنا في هذا المقام، ليس الوقوف مع التحليل في جزئيات المسائل، وإنما إعادة تركيب [ ص: 101 ] تلك الجزئيات التي توزعتها فصول الكتاب وفقراته، لمحاولة البحث عن إجابة عن السؤال الذي بدأنا به حديثنا وهو: (هل نحن في مستوى مواجهة العولمة؟) ، وعليه فسيكون من المفيد أن نلقي نظرة على التشخيص الذي قدمه بن نبي من خلال الأبعاد المشار إليها أعلاه، ثم نرى هل تغيرت الأحوال بعد مرور نصف قرن أم أن الأوضاع لاتزال راكدة ومن ثمة لانزال في حاجة إلى أكثر من حجر، كي يحرك مياهنا الساكنة؟

        وستكون وقفتنا مع النقاط التالية:

        التالي السابق


        الخدمات العلمية