مقدمة
يعتبر حقل الدراسات الحضارية ميدانا لصراع الأفكار والإيديولوجيات، حيث إن كل حضارة من الحضارات تنشأ عن موقف معين تتخذه من الإله والطبيعة والحياة والإنسان، فتتكون من هذا الموقف معتقدات تبدو في مختلف مظاهر عيشها وفعلها.. ولأن أفكار الناس وعقائدهم متعددة ومتنوعة فقد تعددت تبعا لذلك الحضارات، ولكل علم نظريته في المعرفة، التي تتمحور حولها التساؤلات النهائية التي تتصل بالإنسان ووجوده ومصيره وموقفه من الوجود. كما أن لكل فلسفة أو أيدولوجية إجابتها عن تلك التساؤلات وهو ما يشكل رؤية للعالم.
ومن ثم فقد اختلفت وجهات النظر بين الأمم ذات الانساق المعرفية المتغايرة، ذلك أن النموذج المعرفي أو النظرية المعرفية تتدخل عوامل عديدة في تشكيلها وصياغتها، وأهمها المصدر المعرفي المستقى منه بناء النظرية، وكذلك البيئة التي نشأت فيها النظرية، وهذه هي الحقيقة الغائبة عن متعلمينا ومثقفينا في بناء العلم، حيث يكاد ينعدم الانتباه للرؤى والفلسفات واختلافها، وكثيرا ما يتم استنبات رؤى (الآخر) في التربة الإسلامية فيأتي المردود كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. ومن ثم فمن الأهمية الكتابة في رؤية الإسلام للعالم، ومقارنة ذلك بالرؤية الغربية، لا سيما في المجال الحضاري باعتباره ميدانا للصراع أو التدافع بين الأمم والجماعات. [ ص: 25 ]
إن الحضارة - كحقل دراسة - لا تعيش بمعزل عن النماذج المعرفية، سواء في نشأتها وتطورها أو تدهورها، وزوالها، وسواء في تفاعلها مع الحضارات الأخرى، ذلك أن أي حضارة تعتبر وليدة فكرة أو عقيدة لها تصوراتها وتساؤلاتها عن الإله والإنسان والعالم والتفاعلات الناشئة عن علاقات الإنسان بما حوله. تلك التساؤلات والتصورات هي التي تشكل رؤية العالم. وإذا كانت الفكرة تتحكم في نشأة الحضارة فإنها كذلك تتحكم في تطورها وسيرورتها. وعلى هذا الأساس فإن دراسـة الحضارات لا تتم بمعـزل عن حقيقة الوجـود وغاية الحياة. كما لا يمكن بناء ثقافـة أو حضارة على أصول ثقافية وحضارية لثقافة أو حضارة أخرى لاختلاف النماذج المعرفية بين الأمم.
لقد عجز النموذج الغربي في رؤيته للعالم عن الإجابة عن التساؤلات النهائية، التي تتصل بالإنسان ووجوده ومصيره وموقفه من الوجود ككل؛ لإدباره عن الوحي وإبعاده من مصادره المعرفية، فاقتصر العلم والعمل على عالم الشهادة، مما أدى إلى أن يسعى العلم لتعظيم قيم المنفعة واللذة دون ضابط أخلاقي، فظهر الخواء الروحي، وتعالت الصيحات المنذرة بالخطر؛ وذلك لأن هذه الحضارة مادية تتعامل مع المحسوس والمشاهد، وبالتالي فإن هذا النموذج الذي تمثله الحضارة الغربية يسير وفق سنن جزئية ترتبط بالحياة الدنيا، ويهمل هذا النموذج السنة الكلية، التي تحدد مصير الحضارات، وهي سنة الإيمان؛ وهي سنة لا تحدد مصير الحضارة فحسب وإنما تحدد نوعية [ ص: 26 ] الحياة التي يعيشها إنسان تلك الحضارة: ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ) (طه:124)، ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) (النحل:97).
وقد سعى النموذج المعرفي الغربي في رؤيته للعالم وتقسيمه للمعمورة إلى إلغاء (الآخر) والهيمنة على العالم مروجا لفلسفة نهاية التاريخ وصدام الحضارات والعولمة؛ وذلك لأن فلسفة ذلك النموذج قائمة على الصراع، الصراع بين الإله والإنسان، والصراع بين الإنسان والطبيعة، والصراع بين الإنسان والإنسان، وهكذا سلسلة الصراعات ليكون البقاء للأقوى.
وقدم النموذج المعرفي الإسلامي إجاباته عن الأسئلة النهائية، وبين حقيقة الوجود، ورسم غاية الحياة.. والتوحيد الممثل لجوهر العقيدة هو المسار الذي جرى عليه البناء الحضاري كله، وهذا الاعتراف بالله سبحانه وتعالى وتوحيده في التصور الإسلامي يعكس تمايزا بين عالم التنـزيه "الألوهية" وعالم الخلق "الكون وموجوداته"، وهو ما لم تنتبه له الفلسفات الغربية، حيث ينعدم هذا التمايز، ومن ثم فقد حدث الخلل الذي أدى إلى أزمة الحضارة الغربية.
كما لم تكن الحضارة الإسلامية منظومة مقفلة على ذاتها رغم خصوصيتها، ذلك أن الحضارة الإسلامية لا تعرف التمحور على (الذات) إذ اعترف الإسلام بالأنبياء السابقين، واستوعب القرآن ميراث النبوات [ ص: 27 ] السابقة، وفي اعتراف الإسلام بها انفتاح الإسـلام على بقية الثقافات. وحينما انفتحت الحضارة الإسلامية على غيرها كان مدخلها قائم على الاعتراف بـ (الغير)، وجعلت من التعارف بين الشعوب والحضارات والتدافع بديلا للصراع والهيمنة.
وقد جاء الخطاب الإسلامي عالميا باعتبار أن الإسلام هو الدين الخاتم، الذي يمثل البديل الحضاري العالمي لحضارة الأزمة السائدة الآن، وهي حضارة يقودها إما خطاب علماني ينطلق من نزعة حلولية أو ارتيابية تجعل الإله معزولا عن الواقع الإنساني، أو يقودها خطاب حصري متمحور حول الذات لا يسع البشرية باختلاف ألسنتها وثقافاتها ولا يستطيع تقديم حلول لمشكلاتها المعاصرة.
يناقش هذا الكتاب انعكاس رؤية العالم وإسقاطاتها في تفسير عملية النشوء والتطور والسقوط للحضارات من خلال إبراز النموذجين المعرفيين، الإسلامي والغربي، وكذلك صدام أو حوار وتعارف الحضارات. وقد أثبتت الدراسة أهمية تعارف الحضارات كما صاغها القرآن الكريم من أجل العيش سويا في فضاء التنوع والاختلاف.
وقد تم تقسيم الكتاب إلى ثلاثة محاور:
1- التعريف برؤية العالم والحضارة.
2- رؤية العالم وعوامل قيام وسقوط الحضارات.
3- العلاقة بين الحضارات في رؤى العالم. [ ص: 28 ]