الخاتمة
أولا: إن من الخطأ البين محاولة تفسير الحضارة بأنها المدنية أو الرقي والتقدم، ومن ثم يتم تغييب النسق العقدي الذي يحدد طبيعة العلاقة مع الله والغيب والكون والإنسان. ولعل مصدر الخلاف الأساس في مفهوم الحضارة بين النموذجين الإسلامي والوضعي العلماني "يقوم على تفسير التقدم، فالنموذج العلماني يرى التقدم ماديا خالصا بينما يرى الإسلام أن التقدم معنوي ومادي وأنه إنساني أصلا وتوحيدي أساسا، فكل تقدم في مفهوم الإسلام يحث على التحرر من عبودية غير الله".
وهذه النقطة تقود إلى نقطتين هما:
أ- إن هناك حضارات قامت على أساس استبعاد الله والبعد الغيبي وتعاملت مع عالم الشهادة واقتصر علمها وقوانينها وتمثلاتها للوجود على المفاهيم الوضعية القائمة على الصراع: ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) (الروم:7)، هذه الحضارة مآلها أن تحمل بذور فنائها من داخلها بحكم تناقضها مع النظام الكوني القائم على الحق، فتكون الأزمات الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، وتكون الحروب وكافة أشكال إهلاك الحرث والنسل: ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون * أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله [ ص: 143 ] السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون * أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون * ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون * الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون ) (الروم:7-11).
ب- وهناك حضارات دينية قامت في أصل نشأتها على أساس ديني، وظلت في تطورها التاريخي في ضعفها وقوتها مرتبطة ارتباطا جدليا بمدى التزامها وابتعادها عن التوجيه الديني وحضوره أو غيابه داخل المؤسسات الاجتماعية، فكل حضارة لها منطقها الخاص. ومعنى هذا أن الحضارات الدينية تجعل من الوحي الإلهي مصدرا أساسا للمعرفة وتتعامل مع عالمي الغيب والشهادة.
ثانيا: إن الحضارة المعاصرة الـ(Civilization) التي "تمثل المركز حضارة مادية تتعامل مع المحسوس، ومن ثم فلا ينبغي أن تكون أنموذجا تحتذي به بقية الحضارات، ذلك لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون معرفة بطبيعتنا الحقيقية إذ إنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية وشهوات الناس وأوهامهم ونظرياتهم ورغباتهم. وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا". [ ص: 144 ]
ثالثا: على الرغم من أن الحضارة المعاصرة تعيش مأزق تعاملها مع المحسوس واقتصارها على عالم الشهادة وعجزها عن الإجابة عن الأسئلة الكلية، إلا أن هناك من نظر إلى بقية الإشعاعات اللاهوتية الكامنة فيها فقرر أن الحضارة الغربية باقية وأزلية. وذلك لأن كل مادة وكل وقود يتحول إلى إشعاع، أما بقية الحضارات فهي إما مهددة بالزوال والانقراض أو الذوبان في الحضارة الغربية.
رابعا: تطورت نظرية تمجيد الحضارة الغربية لتنتهي على يد "فرانسيس فوكوياما" إلى إعلان نهاية التاريخ بالانتصار الساحق للنمط الحضاري الغربي، فبانتصار المعسكر الغربي وسقوط الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة تنتهي التناقضات الأساسية في العالم بانتصار الليبرالية الاقتصادية والسياسية والديمقراطية الليبرالية، ومن ثم تعلن الحضارة الغربية هيمنتها على بقية الحضارات. كما أعلن "صمويل هنتغتون" أنه بنهاية الحرب الباردة يبرز صراع من نوع جديد بين الحضارات هو صدام الحضارات.
خامسا: إذا كانت الحضـارة تعني الشهـادة أو حضور النموذج الذي تكون فيه صبغـة الله هي الموجهة لعمل الإنسان وتكون فيه غاية الحيـاة مربوطـة بالآخرة، وعمارة الأرض -التي هي دائرة التكليف- سـعي للإصـلاح فيها لا الإفسـاد، فإن الحضارة بـهذا المعنى هي الإسلام أو حضارة الإسلام. وهي الحضارة الموعودة بالانتصار في مرحلة الظهور الكلي للدين. [ ص: 145 ]
سادسا: إن جوهر حضارة الإسلام، الذي قامت عليه مؤسساتها وحدد امتدادهـا التاريخي وشكل تفاعلها الخارجي وحدد أهدافها هو التوحيد. وفي ضـوء هذا التصور فقط يمكن أن نتحدث عن واقع الأمة الإسلامية وعن ماضيها ومستقبلها. وإن التوحيد هو الذي يعطى الحضارة الإسلامية هويتـها وهو الذي يربط بين أجـزائها، وهو الذي يطبع كل ما يدخل إليها من عناصر فيؤسلمها ويطهرها من عبورها في التوحيد متجانسة مع كل ما حولها.
سابعا: ليس التحضر وضعا مجبولا في فطرة الإنسان وإنما هو وضع كسبي يستحدثه الإنسان بإرادته الحرة وفق عوامل ذاتية وموضوعية تفضي إليه، وعلى رأسها عامل الفكرة متمثلة في ذلك التصور، الذي يحمله الإنسان عن حقيقة الوجود؛ وغاية الحياة بالغة في الفعل الحضاري ذروته حينما تكون فكرة دينية الصبغة. فالتحضر بما هو جهاد جماعي لإنجاز الترقي المادي والمعنوي ليس في حقيقته إلا جهادا مدفوعا بالتصور لحقيقة الوجود وموجها بالغاية من الحياة. فهو في مبدئه واطراده محكوم بتلك الغاية وقائم من أجل تحقيقها. ومن ثم فإن قوما لا يملكون تصورا بينا لحقيقة الوجود ولا تصورا بينا لغاية الحياة لا تنمو حياتهم إلى وضع من التحضر بل يبقون على حال من البداوة أو ما هو شبيه بحال البداوة. [ ص: 146 ]
إن ما نود أن نختـم به هذا البحث هو أنه من الصعب تصور ثقافة مجردة ومحـايدة، أي لا ترتبط بخـلفيات تاريخيـة أو مـذهب عقـدي أو إيديولوجيا لها فلسفتها في الوجود تقيم عليها تصوراتها. وباعتبار أن الثقافة أو الفكرة هي التي ترفد الحضارة بالأفكار فكذلك من الصعب تصور حضارة بدون فلسفة ما في الوجود تقيم عليها تصوراتها. فالحضارة الغربية المعاصرة تنطلق إما من مثالية تجعل من الإنسان مركزا للكون أو إلها، أو من واقعية تؤله المادة وتجعل من اللذة والمنفعة هدفا وغاية. ولعل مكمن القصور في هذه الحضارة أنها تستمد أنموذجها المعرفي من فكر بشرى قاصر لا يجعل الوحي مصدرا معرفيا لها.
وعلى العـكس من ذلك فإن من أبرز خصائص الحضارة الإسلامية أنها تسترفد الوحي في سيرورتها، فهي حضارة تقوم على منهج الحق. وتأسيسا على ما سبق فإن رؤية العالم حاضرة في دراسة الحضارات. [ ص: 147 ]