بلاغة النص في القرآن
مقاربة من زاوية علم لغة النص
يعرض هذا البحث لتطبيق قواعد ونظرات من لسانيات النص وتحليل الخطاب، على نصوص القرآن الكريم من خلال رؤية علماء القرآن وبلاغييه القدماء، وذلك لإخراج المعرفة اللغوية من إطارها النظري المسطور في مصنفات النحو واللغة والبلاغة إلى ميدان التطبيق على نصوص بليغة لها قيمة عملية وقوة إنجازية واقعية.
ومن أجل ذلك فقد عمد البحث إلى استنطاق أحدث مناهج اللسانيات وهو "لسانيات النص وتحليل الخطاب"، بخصوص ما يمكن أن تقدمه من جديد في تحليل النص واستكشاف بنياته الداخلية والوقوف على بلاغة تماسكه وجماليات انسجام عناصره، والوقوف على معانيه الكلية التي لا يقوى نحو الجمل وحده على استكشافها وبيانها. وذلك لما وصفت به هذه المناهج اللسانية النصية من اكتشـاف بعض خصوصيات النصوص، فلم يعد الاهتمام في تحليل النص محصورا في البحث في الأصوات والمفردات المعجمية والتراكيب والجمل، ولكنه جاوز ذلك إلى اقتحام مستوى أكبر هو
[ ص: 21 ] البنية العامة للنص، وتكمن أهمية منهج تحليل هذا المستوى الأكبر، في أنه يقدم معايير "العلمية" و"الموضوعية" في الدراسة؛ لأنه ينبثق من الموضوع المدروس؛ وهذا لا يتوفر إلا إذا كان المنهج نفسه نصيا، أي إذا كان المنهج من جنس الموضوع ومن مادته، وفي ذلك نوع من التفاعل المعرفي بين المنهج والنص، فالنص يحكم على المنهج بالانفتاح والحركية والاستجابة الموضوعية له. وفي ذلك أيضا إثبات لسيادة النص وهيمنته على المنهج القارئ وأداة القراءة ومصطلح الوصف والتفسير.
ميزة "نحو النص" أو "لسانيات النص" أو "علم النص"، في أنه أفاد من نحو الجملة، مبنى ومعنى، ومن الدراسات الأسلوبية، ومن المناهج والمعارف السابقة، ولكنه أضاف إلى تلك المناهج ما يثبت نصية النص وبلاغة الخطاب، من غير أن يقتصر على المناهج التي كانت تجزئ النص ثم تقف عند الأجزاء فقط، فكل ما ساعد على تصور النص كيانا لغويا متعدد المستويات، مكونا من أجزاء مترابطة، أو أنظمة متشابكة، فإنه يدخل في علم النص؛ فإنشاء علم للنصوص هو المنهج الأنسب للخطاب المدروس؛ لأنه منهج يستمـد مادته وقوانينه ومفاهيمه من تشابك الأنظمة. وما ذلك إلا لأن النص نظام واقعي فعال، "على حين نجد الجمل عناصر تنتسب إلى نظام افتراضي انشئ لأغراض منهجية، والجملة كيان "قواعدي" خالص يتحدد على مستوى النحو فحسب، أما النص فحقه أن يعرف تبعا للمعايير
[ ص: 22 ] الكاملة للنصية Textuality"
[1] ، ومنها سياق الموقف أو دوافع الموقف (Contextual motivation)
[2] .
وينبغي للنص "أن يتصل بموقف يكون فيه، تتفاعل فيه مجموعة من المرتكزات والتوقعات والمعارف، وهذه البيئة الشاسعة تسمى سياق الموقف Context، أما التركيب الداخلي للنص فهو سياق البنية Co-text.
ولكن صلة علم لغة النص بالدراسات اللسانية الحديثة لا يعني أنه ولد في كنفها حصرا؛ فهو -أولا وقبل كل شيء- علم الطبع والتذوق للعربية، ولهذا فلا يقتصر على علم لغة النص في نسخته الأعجمية من أجل تحليل النص العربي البليغ؛ لأنه لا يقود بالضرورة إلى فهم أسرار النص إلا على وجه الاستئنـاس المنهـجي دون العـلم بكنه النص في أصله العربي المبين. أما تحليل النص في العلوم العربية والإسلامية فقد داخل كل فروع المعرفة
[ ص: 23 ] منذ أن نشأ في كنف القرآن الكريم؛ وتطور مع تطور أدوات التحليل وعلوم الآلة، بل واكب الدرس اللغوي العربي القديم بفروعه المختلفة الدرس اللساني الغربي من غير تبعية أو استلاب، وللمواكبة دلالة عميقة في تاريخ تطور المعرفة الإنسانية؛ إنها تعني قوة الدرس اللغوي والنصي العربي القديم، وقدرته على التواصل مع المنجز اللساني الغربي.
بل تدل المواكبة على قدرة العقل اللساني العربي على التواصل مع المنجز اللسـاني الغربي؛ فقد استوعب العرب قديما الإنجازات العلمية للحضارة الإغريقية، لكن وعيهم نمط حياتهم الذي يختلف عن نمط حياة الإغريق جعـلهم يجرون كتاباتهم النحوية بطريقة خاصة بهم وبلغتهم، دون تبعية
[3] ...
فعلم النحـو في مقاصـده تحليـل للنص في مرحلة أولى من مراحله لا تستقل بنفسها؛ وهو في هذه المرحلة نظر في العلاقات والروابط بين الكلمات، للوقوف على بنية الكلام ونظمه، ويستعين به الفقهاء وعلماء الدراية والمفسرون والنقاد لضبط دلالات النص ومقاصده، فإذا غابت العلاقات والروابط تفكك النص وداخله الغموض والاضطراب وفقد شروط البناء اللغوي. أما البلاغة فهي أدخل علوم الآلة في تحليل النص؛ لأن "كل
[ ص: 24 ] مفردات هذا العلم في صميم علم تحليل النص، ابتداء من مقدمة الفصاحة والبلاغة، وانتهاء بأصغر فن بديعي، كل هذا وسائل وأدوات تعين على استكشاف جوهر النص... واعلم أن كل نظر في المباني لا غاية له إلا النفاذ إلى المعاني"
[4] ، وليست علوم الآلة التي هي في الحقيقة أدوات وتقنيات لتحليل النصوص، إلا كيفيات وأحوالا وأوعية دقيقة تحمل معاني النص وعوالمه. وتدخل في هذه الكيفيات والأحوال
[5] والهيئات البلاغة القرآنية التي هي الطريقة العالية في العبارة عن المقاصد.
بناء على المنهج المشار إليه أعلاه، يركن الباحثون إلى تحليل الخطاب بمنهج نصي واقعي يستند إلى سياق الموقف وبساط الحال ومرجعية النص، ويقفون عند الإعراب ثم يتجاوزونه ولا يلتزمون به وحده؛ لأن منهج صناعة الإعراب وحده قاصر عن التحقيق، ولا يلزمون منهج التحليل بالجمل؛ لأن الجمل كيان لغوي محـدود، وفيـه الممـكن وفيه المفترض؛ إذ يمـكن تصور جمـل متكلفة، إما لكـونها أطول أو أعقد أو أكثر توابع أو أكثر ابتذالا مما يمكن قبوله، أو لكونها فارغة من المعنى، أو غير
[ ص: 25 ] ذات أثر عملي في الأداء... ولذلك فتحليل الخطاب بنحو الجمل يبتعد بالنص عن سيـاقه الواقـعي وأبعـاده التداولية ويركن به في زاوية التجريد والشكلانية.
وسيحاول هذا البحث لتحقيق الغرض المشار إليه، أن يستدعي بعض "المعالجات النصية" العربية القديمة المتفرقة، للقرآن الكريم، ويجمع بينها في بناء عام لإعادة قراءتها في ضوء تصورات علم لغة النص ومناهجه وأدواته، وليمحص مدى قدرة تلك المعالجات النصية القديمة على كشف بنية النص ودلالاته الكلية ووظيفته التي توافق مقاصد واضعه، ولكن من غير اعتقاد بأن معايير علماء النص المحدثين صالحة مطلقا لتحليل النص القرآني؛ إذ إن تلك المعايير الجزئية الحديثة إنما استخرجت في الأصل من نصوص محدودة مقيدة بقيود الزمان والمكان والظروف المحيطة والأخطاء البشرية. وإنما الشأن في ذلك بتصحيح ما يعتري المعايير الحديثة من نقص، وتسديده بما استنبطه علماء البلاغة والتفسير وعلماء علوم القرآن الكريم، من النص القرآني، من معايير نصية وافية. فنحصل، من اتحاد علوم النص العربية وعلم لغة النص الحديث على علم موحد يكشف غوامض النصوص ويفك رموزها ويستكنه أسرارها، فلا بد أن يأخذ العلم القديم بيد العلم الحديث، ليزدهر المنهج النصي ويتطور وتتفتح أمامه أبواب التحليل، فلا يغرق النص في لجج العجمة فتمحي معالمه.
[ ص: 26 ]
ومن المعلوم أن النص القرآني تناوله بالبحث والتفسير والتأويل علماء الفقه والأصول والتفسير والبلاغة والنحو
[6] ، ولكن علماء "علوم القرآن" والمفسرين البلاغيين للقرآن الكريم، كان لهم النصيب الأوفر في مقاربة النص القرآني، وذلك بتوظيف كثير من العلوم والآليات والأدوات التي تحيط بالنص الكريم، من جوانب متعددة وتستكشف قيمه الدلالية وجوانبه الجمالية وعلاقاته الكلية، فكان هذا العلم مؤهلا لأن يكون أقرب إلى النهج الذي نهجته لسانيات النص وتحليل الخطاب، وهو صالح لأن يصاغ منه أنموذج تحليلي يستخرج أعماق النص ويكشف قيمه الجمالية، بل ليكتشف به مزيد من المزايا الجمالية التي تنطوي عليها اللغة العربية ذاتها.
- المصطلح:
وسيتعرض البحث لتعريف المصطلحات المتعلقة بلسانيات النص وتحليل الخطاب (نص، خطاب، لسانيات النص، تحليل الخطاب) وينتقي من بعض المصادر التي ألفت في علوم القرآن ما يتناسب والمنهج اللساني النصي، من مفاهيم وأدوات، لبناء مقاربة نصية متكاملة تثبت مدى التقارب والالتقاء
[ ص: 27 ] بين كثير من الأنظار اللغوية العربية القديمة والمفاهيم اللسانية الحديثة، وذلك لأن "مناهج التحليل اللساني" تعد قاعدة كبرى من قواعد المعرفة، وأساسا مكينا من أسس استكشاف أعماق النص ودلالاته البادية والخفية.
مصطلح "النص" له دلالات، تتفاوت بين العموم والخصوص، فهو عند علماء الأصول نوع من أنواع دلالة اللفظ على معناه، والأصل فيه أنه مصدر للفعل نص ينص بمعنى الرفع والإظهار والإسناد، ونص القرآن ونص السنة أي ما دل ظاهر لفظهما عليه من الأحكام.
أما عند المحدثين فالنص النسيج العام الذي يتألف من خيوط متناسقة على هيئة مخصوصة، ويتعدى الجملة باعتباره سلسلة من الجمل يضبطها مبدآن: مبدأ الوحدة ومبدأ الاتساق والتناسق. وقد استعمل مصطلح النص في الأدبيات اللسانية تارة مرادفا للخطاب (بوصف الخطاب نصا وظروف إنتاج)، وتارة باعتباره سلسلة جملية مجردة معزولة عن ظروف إنتاجها
[7] . فالتعريفات التـي ورد عليها النص حـديثا، كثيرة ومختلفة
[8] ؛ فبعضها يقصر النص على المنجز كتابة، وبعض آخر يجمع في تعريف النص بين
[ ص: 28 ] المكتوب والملفوظ، ومنها ما يراعي في التعريف جانب الوظيفة التواصلية، ومنها ما يهتم بعنصر التتابع بين ألفاظ النص، ومنها ما يركز على الوظيفة الدلالية للنص
[9] .
وسيستخدم هذا البحث مصطلح النص بمعناه الحديث لما فيه من الشمول والعموم، ولما فيه من مراعاة الخصائص الرئيسة التي لا يكاد يخلو منها نص من النصوص.
أما مصطلح "الخطاب" فيشار به إلى كيان لغوي يتعدى الجملة من حيث الحجم، ويلابس خصائص غير لغوية، دلالية وتداولية وسياقية، ويندرج في حيز الإنجاز أكثر من اندراجه في حيز القدرة اللغوية، ويتخذ موضوعا لدرس لساني منفصل يدعى بلسانيات الخطاب أو تحليل الخطاب في مقابل لسانيات الجملة. فيدخل في الخطاب الكلام والمتكلم وبيئة التنزيل وسياقه وأساليب التخاطب. والخطاب القرآني يتوجه إلى وعي المخاطب لتغيير شأنه وحاله والتأثير فيه وإقناعه بالمضمون الجديد والرسالة الجديدة، ويمتاز الخطاب القرآني عن الخطاب البشري، في أنه خطاب رباني متعال يحمل وحيا وإعجازا وقدسية نص يتعبد به.
[ ص: 29 ]
بَلاغةُ النّصّ في القرآن
مُقارَبَة من زاويةِ علم لغة النّصّ
يَعْرِضُ هذا البحثُ لِتَطْبيقِ قَواعِدَ وَنَظَراتٍ مِنْ لسانياتِ النّصّ وتَحْليل الخِطابِ، عَلى نُصوص القُرآنِ الكَريم من خلالِ رؤيَة عُلماءِ القُرآنِ وبلاغيّيه القُدَماء، وذلِكَ لإِخْراجِ المَعْرِفَةِ اللُّغَوِيَّةِ مِنْ إِطارِها النَّظَرِيِّ المَسْطورِ في مُصَنَّفاتِ النَّحْوِ واللّغَةِ والبَلاغَةِ إلى مَيْدانِ التّطبيقِ عَلى نُصوصٍ بَليغَةٍ لَها قيمَةٌ عَمَلِيّةٌ وقُوّةٌ إِنْجازِيّةٌ واقِعِيّةٌ.
ومن أجلِ ذلِكَ فقَد عمدَ البحثُ إلى استنطاقِ أحدَثِ مَناهجِ اللسانياتِ وهو "لسانياتُ النّصّ وتَحليلُ الخطابِ"، بخصوص ما يُمكنُ أن تُقدّمَه من جَديدٍ في تحليلِ النصّ واستكشافِ بنياتِه الدّاخليّةِ والوُقوفِ على بَلاغَةِ تَماسُكِه وجَمالياتِ انسجامِ عناصرِه، والوُقوفِ على مَعانيه الكلّيّةِ التي لا يَقْوى نحوُ الجُملِ وحدَه على استكشافِها وبيانِها. وذلِكَ لما وُصِفَت به هذه المَناهجُ اللّسانيّةُ النّصّيّةُ من اكتشـافِ بعضِ خُصوصياتِ النُّصوصِ، فلَم يعُد الاهتمامُ في تحليلِ النّصّ مَحصورًا في البَحثِ في الأصواتِ والمُفْرَداتِ المُعجميّةِ والتّراكيبِ والجُمَلِ، ولكنّه جاوزَ ذلِكَ إلى اقْتحامِ مُستوىً أكبرَ هو
[ ص: 21 ] البنيةُ العامّةُ للنّصّ، وتكمُنُ أهمّيةُ مَنْهجِ تَحليلِ هذا المُستوى الأكبَرِ، في أنّه يُقدّمُ مَعاييرَ "العلميّةِ" و"المَوضوعيّةِ" في الدّراسةِ؛ لأنّه ينبثقُ من الموضوعِ المَدْروسِ؛ وهذا لا يتوفّرُ إلاّ إذا كانَ المنهَجُ نفسُه نصّيًا، أي إذا كانَ المنهجُ من جنسِ الموضوعِ ومن مادّتِه، وفي ذلِكَ نوعٌ من التّفاعُلِ المعرفيّ بين المنهجِ والنّصّ، فالنّصّ يحكُمُ على المنهجِ بالانفتاحِ والحَركيّةِ والاستجابَةِ الموضوعيّةِ لَه. وفي ذلِكَ أيضًا إثْباتٌ لسيادةِ النّصّ وهيمَنَتِه على المَنْهَجِ القارئِ وأداةِ القِراءَةِ ومُصطَلحِ الوَصْفِ والتّفسيرِ.
ميزةُ "نحو النّصّ" أو "لسانياتِ النّصّ" أو "علمِ النّصّ"، في أنّه أفادَ من نحو الجُملَة، مَبْنىً ومَعْنىً، ومن الدّراساتِ الأسلوبيّةِ، ومن المناهجِ والمَعارِفِ السّابقَةِ، ولكنّه أضافَ إلى تلك المناهجِ ما يُثبتُ نصّيةَ النّصّ وبَلاغةَ الخطابِ، من غيْرِ أن يقتصرَ على المناهجِ التي كانَت تُجزّئ النّصّ ثُمّ تقفُ عندَ الأجزاءِ فقط، فكُلُّ ما ساعَدَ على تَصوُّرِ النّصِّ كيانًا لغويًا متعدِّدَ المُستوياتِ، مُكوَّنًا من أجزاء مُترابطةٍ، أو أنظمةٍ مُتشابكةٍ، فإنّه يدخلُ في علم النّصّ؛ فإنشاءُ علمٍ للنّصوصِ هو المَنهجُ الأنْسَبُ للخِطابِ المَدْروس؛ لأنّه مَنهجٌ يستمـدُّ مادّتَه وقَوانينَه ومَفاهيمَه من تشابُكِ الأنظمةِ. وما ذلِكَ إلاّ لأنّ النّصَّ نظامٌ واقعيٌّ فَعّالٌ، "على حين نَجدُ الجُمَلَ عناصرَ تَنْتسبُ إلى نِظامٍ افتراضيّ اُنْشئَ لأغراضٍ مَنهجيّةٍ، والجُملةُ كيانٌ "قَواعديّ" خالصٌ يتحدَّدُ على مُستوى النّحوِ فَحَسب، أمّا النّصُّ فحقُّه أن يُعرَّفَ تَبعًا للمَعاييرِ
[ ص: 22 ] الكاملةِ للنّصّية Textuality"
[1] ، ومنها سِياقُ الموقف أو دَوافع المَوْقفِ (Contextual motivation)
[2] .
وينبَغي للنّصّ "أن يتّصلَ بموقفٍ يَكونُ فيه، تَتَفاعلُ فيه مَجموعةٌ من المُرتكَزاتِ والتّوقُّعاتِ والمَعارفِ، وهذه البيئةُ الشّاسعَةُ تُسَمّى سِياقَ المَوْقِف Context، أمّا التّركيبُ الدّاخليُّ للنّصّ فهو سياقُ البنيَةِ Co-text.
ولكنَّ صلةَ علم لُغةِ النّصّ بالدّراساتِ اللّسانيّةِ الحَديثَةِ لا يَعْني أنّه وُلِدَ في كَنفِها حَصرًا؛ فهو -أولًا وقَبْلَ كلِّ شيْءٍ- علمُ الطَّبْعِ والتّذوُّقِ للعربيّةِ، ولهذا فلا يُقتَصَرُ على علم لغةِ النّصِّ في نُسختِه الأعجميّةِ من أجلِ تَحليلِ النّصّ العربيّ البَليغِ؛ لأنّه لا يَقودُ بالضّرورَةِ إلى فَهمِ أسرارِ النّصّ إلاّ على وَجه الاسْتئنـاسِ المنهـجيّ دونَ العـلمِ بكُنه النّصّ في أصلِه العربيّ المُبين. أمّا تَحليلُ النّصّ في العُلومِ العربيّةِ والإسْلاميّةِ فقَد داخَلَ كلَّ فُروعِ المعْرِفَةِ
[ ص: 23 ] منذُ أن نشأ في كَنَفِ القُرآنِ الكَريم؛ وتَطوَّرَ مع تَطوُّرِ أدواتِ التّحليلِ وعُلومِ الآلةِ، بَلْ واكَبَ الدّرسُ اللّغويُّ العربيُّ القَديمُ بفُروعِه المُختلفَةِ الدّرسَ اللّسانيَّ الغربيَّ من غيْرِ تبعيّةٍ أو اسْتلابٍ، وللمُواكبَةِ دلالةٌ عَميقةٌ في تاريخِ تطوُّرِ المَعرِفَةِ الإنسانيّةِ؛ إنّها تَعْني قُوّةَ الدّرسِ اللّغويّ والنّصّيّ العَربيّ القَديمِ، وقُدرتَه على التّواصُلِ مع المُنْجَزِ اللّسانيّ الغربيّ.
بَلْ تدلُّ المُواكَبَةُ على قُدرَة العَقْلِ اللّسانيّ العربيّ على التَّواصُلِ مَعَ المُنْجَزِ اللّسـانيّ الغَرْبيّ؛ فَقد اسْتوْعبَ العربُ قَديمًا الإنجازاتِ العلميّةَ للحَضارَةِ الإغريقيّةِ، لكنَّ وَعيَهُم نمطَ حَياتهمْ الذي يختلفُ عن نَمَطِ حَياةِ الإغْريقِ جَعَـلهُم يُجرونَ كتاباتِهم النّحويّةَ بطريقةٍ خاصّةٍ بهِم وبلُغتِهم، دون تبعيّةٍ
[3] ...
فعلمُ النّحـوِ في مَقاصـدِه تحليـلٌ للنّصّ في مرحلةٍ أولى من مَراحلِه لا تستقلُّ بنفْسِها؛ وهو في هذه المرحلَةِ نَظَرٌ في العلاقاتِ والرّوابطِ بين الكَلماتِ، للوقوفِ على بنيةِ الكلامِ ونَظمِه، ويستعينُ بِه الفُقهاءُ وعُلماءُ الدّرايةِ والمُفسّرونَ والنّقّادُ لضبطِ دلالاتِ النّصّ ومَقاصدِه، فإذا غابَت العلاقاتُ والرّوابطُ تفكّكَ النّصّ وداخَلَه الغُموضُ والاضْطرابُ وفَقَد شُروطَ البناءِ اللّغويّ. أمّا البَلاغَةُ فهي أدخَلُ عُلومِ الآلَةِ في تَحليلِ النصّ؛ لأنّ "كُلّ
[ ص: 24 ] مُفرداتِ هذا العلمِ في صَميمِ علمِ تحليلِ النّصّ، ابْتداءً من مُقدّمةِ الفَصاحةِ والبلاغَةِ، وانتهاءً بأصغرِ فنّ بَديعيّ، كلّ هذا وسائلُ وأدواتٌ تُعينُ على استكشافِ جوهَرِ النّصّ... واعلمْ أنّ كلَّ نظرٍ في المَباني لا غايةَ له إلاّ النّفاذ إلى المَعاني"
[4] ، وليسَت عُلومُ الآلَةِ التي هي في الحقيقةِ أدواتٌ وتقنياتٌ لتحليلِ النّصوصِ، إلاّ كيفياتٍ وأحوالًا وأوعيةً دَقيقةً تحملُ مَعاني النّصّ وعَوالِمَه. وتدخلُ في هذه الكيفياتِ والأحوالِ
[5] والهَيْئاتِ البَلاغةُ القُرآنيّةُ التي هي الطّريقةُ العاليةُ في العبارَةِ عن المَقاصدِ.
بناءً على المَنْهجِ المُشارِ إليه أعلاه، يركنُ الباحثونَ إلى تَحليل الخطابِ بمنهجٍ نَصّيّ واقعيّ يستندُ إلى سياقِ الموقفِ وبِساطِ الحالِ ومرجعيّةِ النّصّ، ويقفونَ عندَ الإعْرابِ ثُمّ يتجاوَزونَه ولا يلتزمونَ بِه وحدَه؛ لأنّ منهجَ صناعة الإعرابِ وحدَه قاصرٌ عن التَّحقيقِ، ولا يلزَمونَ منهَجَ التّحليلِ بالجُمَلِ؛ لأنّ الجُملَ كيانٌ لغويّ مَحْـدودٌ، وفيـه الممـكنُ وفيه المُفتَرَضُ؛ إذ يُمـكنُ تصوُّرُ جُمـلٍ مُتكلَّفةٍ، إمّا لكـونِها أطوَلَ أو أعقدَ أو أكثرَ تَوابعَ أو أكثرَ ابْتذالًا ممّا يُمكنُ قَبولُه، أو لكونِها فارغةً من المَعْنى، أو غيرَ
[ ص: 25 ] ذاتِ أثرٍ عَمَليّ في الأداءِ... ولذلكَ فتحليلُ الخطابِ بنحوِ الجُمَلِ يبتعدُ بالنّصّ عن سيـاقِه الواقـعيّ وأبعـادِه التّداوليّة ويركنُ بِه في زاويةِ التّجريدِ والشّكلانيّة.
وسيُحاولُ هذا البحثُ لتحقيق الغرضِ المُشارِ إليه، أن يَستدعِيَ بعضَ "المُعالجاتِ النّصّيّةِ" العربيّةِ القَديمَةِ المتفرّقَةِ، للقُرآنِ الكَريمِ، ويجمَع بينَها في بناءٍ عامّ لإعادَةِ قراءَتِها في ضوءِ تصوّراتِ علم لُغَةِ النّصّ ومناهجِه وأدواتِه، وليُمحّصَ مَدى قُدرةِ تلك المُعالجاتِ النّصّيّة القَديمَة على كشفِ بنيةِ النصّ ودلالاته الكلّيّة ووظيفتِه التي تُوافقُ مقاصدَ واضعِه، ولكن من غَيْرِ اعْتقادٍ بأنّ مَعاييرَ عُلماءِ النّصّ المُحْدَثينَ صالحةٌ مُطلَقًا لتَحليل النّصّ القُرآنيّ؛ إذ إنّ تلكَ المَعاييرَ الجُزئيّةَ الحَديثةَ إنّما اسْتُخرِجَت في الأصلِ من نُصوصٍ مَحدودةٍ مُقيَّدةٍ بقُيودِ الزّمانِ والمَكانِ والظّروفِ المُحيطَةِ والأخْطاءِ البشرِيّةِ. وإنّما الشأنُ في ذلِك بتَصحيحِ ما يَعْتري المَعاييرَ الحَديثَةَ من نَقصٍ، وتَسْديدِه بما استنْبطَه عُلَماءُ البَلاغَةِ والتّفسيرِ وعُلماءُ عُلوم القُرآن الكَريم، من النّصّ القُرآنيّ، من مَعاييرَ نصّيّةٍ وافيةٍ. فنحصُلُ، من اتّحادِ عُلومِ النصّ العربيّة وعلم لُغةِ النّصّ الحَديثِ على علمٍ موحَّدٍ يكشفُ غَوامضَ النّصوصِ ويفكُّ رُموزَها ويستكنهُ أسْرارَها، فلا بدّ أن يأخذَ العلمُ القَديمُ بيدِ العلمِ الحَديثِ، ليزدهرَ المنهجُ النّصّي ويتَطوَّرَ وتتفتَّحَ أمامَه أبوابُ التّحليلِ، فلا يغرقَ النّصُّ في لُججِ العُجمةِ فتمّحي مَعالمُه.
[ ص: 26 ]
ومن المَعلومِ أنّ النّصّ القُرآنيّ تَناوَلَه بالبَحْثِ والتّفسيرِ والتأويلِ عُلماءُ الفقه والأصولِ والتّفسيرِ والبَلاغةِ والنّحْو
[6] ، ولكنَّ عُلماءَ "عُلوم القُرآن" والمُفسِّرينَ البلاغيّينَ للقُرآن الكَريم، كان لهم النّصيبُ الأوْفرُ في مُقارَبَةِ النّصّ القُرآنيّ، وذلِك بتوظيفِ كثيرٍ من العُلومِ والآلياتِ والأدَواتِ التي تُحيطُ بالنّصّ الكَريم، من جَوانبَ متعدّدَةٍ وتستكشفُ قيمَه الدّلاليّةَ وجوانبَه الجَماليّةَ وعلاقاتِه الكلّيّةَ، فكان هذا العلمُ مُؤهّلًا لأن يكونَ أقربَ إلى النّهجِ الذي نهَجَته لسانياتُ النّصّ وتحليل الخطابِ، وهو صالحٌ لأن يُصاغَ منه أنموذَجٌ تحليليٌّ يستخْرجُ أعماقَ النّصّ ويكشفُ قِيَمَه الجَماليّةَ، بَل ليُكْتَشَفَ به مَزيدٌ من المَزايا الجَماليّةِ التي تنطوي عليْها اللغةُ العربيّةُ ذاتُها.
- المُصْطَلَح:
وسيتعرّضُ البحثُ لتعريفِ المُصطلَحاتِ المتعلّقَةِ بلسانياتِ النّصّ وتحليلِ الخِطابِ (نص، خطاب، لسانيات النص، تَحليل الخطاب) وينتقي من بعض المصادِرِ التي ألِّفَت في علوم القُرآن ما يَتناسَبُ والمنهَجَ اللسانيَّ النّصّيَّ، من مَفاهيمَ وأدواتٍ، لبناءِ مُقاربةٍ نصّيّةٍ متكاملةٍ تُثبتُ مَدى التّقارُبِ والالتقاءِ
[ ص: 27 ] بين كثيرٍ من الأنظار اللّغويّةِ العربيّةِ القَديمَةِ والمَفاهيمِ اللّسانيّةِ الحديثَةِ، وذلِكَ لأنّ "مناهجَ التّحليلِ اللّسانيّ" تُعدُّ قاعدةً كُبرى من قَواعدِ المعرِفَة، وأساسًا مَكينًا من أسُسِ استكشافِ أعماقِ النّصّ ودلالاتِه البادِيَةِ والخَفيّةِ.
مُصطَلَح "النّصّ" لَه دلالاتٌ، تتَفاوتُ بينَ العُمومِ والخُصوصِ، فهو عندَ عُلَماءِ الأصولِ نوعٌ من أنواعِ دلالةِ اللّفظِ عَلى مَعْناه، والأصلُ فيه أنّه مَصدرٌ للفعلِ نصَّ ينُصُّ بِمَعنى الرّفعِ والإظهارِ والإسْنادِ، ونَصُّ القُرآنِ ونَصُّ السنَّة أَي ما دَلَّ ظاهرُ لَفظهِما عَليه مِن الأحْكامِ.
أمّا عندَ المحدَثينَ فالنّصُّ النّسيجُ العامُّ الذي يتألّفُ من خُيوطٍ متناسقةٍ عَلى هيئةٍ مَخصوصةٍ، ويتعدّى الجملةَ باعتبارِه سلسلةً من الجُمَلِ يضبطُها مَبدآنِ: مبدأ الوحدَةِ ومبدَأ الاتّساق والتّناسُق. وقد استُعمِلَ مُصطلحُ النّصّ في الأدبياتِ اللّسانيّةِ تارةً مُرادفًا للخطابِ (بوصفِ الخطابِ نصًا وظروفَ إنتاجٍ)، وتارةً باعتبارِه سلسلةً جمليّةً مُجرّدَةً معزولةً عن ظروفِ إنتاجِها
[7] . فالتعريفاتُ التـي ورَدَ عليْها النّصُّ حـديثًا، كثيرةٌ ومختلفةٌ
[8] ؛ فبعضُها يقصرُ النّصَّ على المُنجَز كتابةً، وبعضٌ آخَر يجمعُ في تعريفِ النّصّ بين
[ ص: 28 ] المَكْتوبِ والمَلْفوظِ، ومنها ما يُراعي في التّعريفِ جانبَ الوظيفةِ التّواصليّةِ، ومنها ما يهتمُّ بعنصرِ التّتابُعِ بين ألفاظِ النّصّ، ومنها ما يركّزُ على الوظيفةِ الدّلاليّةِ للنّصّ
[9] .
وسيسْتخدمُ هذا البحثُ مصطلَحَ النّصّ بِمعْناه الحديثِ لِما فيه من الشّمولِ والعُمومِ، ولِما فيه من مُراعاةِ الخَصائصِ الرّئيسَة التي لا يكادُ يَخلو منها نصٌّ من النُّصوصِ.
أمّا مُصطلَح "الخِطاب" فيُشارُ بِه إلى كيانٍ لغويّ يتعدّى الجملةَ من حيثُ الحجم، ويُلابسُ خصائصَ غيرَ لغويّةٍ، دلاليّة وتداوليّة وسياقيّة، ويندرِجُ في حيّزِ الإنجازِ أكثرَ من اندراجِه في حيّزِ القُدرةِ اللغويّةِ، ويُتّخَذُ موضوعًا لدرسٍ لسانيّ منفصلٍ يُدعى بلسانياتِ الخطابِ أو تحليلِ الخطابِ في مُقابِل لسانياتِ الجُملةِ. فيدخُلُ في الخِطابِ الكَلامُ والمُتكلِّمُ وبيئةُ التَّنزيل وسياقُه وأساليبُ التّخاطُب. والخطابُ القُرآنيّ يتوجّهُ إلى وَعْيِ المُخاطَب لتغْييرِ شأنه وحالِه والتأثيرِ فيه وإقناعِه بالمضمونِ الجَديدِ والرّسالةِ الجَديدَةِ، ويَمتازُ الخطابُ القُرآنيّ عن الخطاب البَشريّ، في أنّه خطابٌ ربّانيٌّ مُتَعالٍ يحملُ وَحْيًا وإعجازًا وقُدسيّةَ نصٍّ يُتعبَّدُ بِه.
[ ص: 29 ]