5- الجدية في حياتيهما:
ولد جولن في قلب العاصفة الأتاتوركية التي اقتلعت حتى الثياب التركية التقليدية واستبدلتها بثياب غربية، ولم ينجح في المحافظة على نفسه أمام هذه العاصفة التي أحرقت الأخضر واليابس فحسب بل حول هذه النار إلى برد وسلام بالنسبة لمئات الآلاف من الأتراك.
ومن المؤكد أن هذا الرجل في قمة الجدية، فقد ظل دائب الحزن كثير البكاء وهو الضحاك، دائم الحث لتلاميذه على مسابقة الزمن من أجل استنقـاذ الأجيال، ونقل تركيا من الهامش إلى المتن، وانتشال الأمة من القاع إلى القمة. [ ص: 55 ]
لقد أجاد عمارة الأوقات، وسبك الخطط، وتعظيم الفاعلية، ومراكمة الإنجازات، لأنه جاد من طراز نادر، فأثمر كل تلك الثمار اليانعة، أجيالا وكتبا ومؤسسات تفرح الأولياء وتغيظ الأعداء!!
أما ابن نبي فإن خروجه من تلك البيئة التي تقتل الرجولة والإباء والفعالية، وتصنع أكواما من الغثائية، والتي أعدتها فرنسا عبر دراسات وخبرات عميقة من أجل استلاب الجزائر إلى الأبد، ووصوله إلى تلك المكانة العظيمة، هو برهان قاطع على امتلاكه جدية من طراز رفيع.
وإن من عرف هذا الرجل عن قرب أو من غاص في أعماق فكره [1] ، يدرك أنه صاحب معدن نفيس ونادر الوجود، فقد كان إما سابحا في ملكوت العبادة أو سائحا في عالم الكتابة، عمر سنواته الأولى بكل ما جعل نفسه بذلك السمو وما جعل قامته بذلك السمـوق، وعمر سنواته الأخرى بكل ما أهله للبروز في هندسة الأفكار: تشريحا وشرحا، بناء وتنظيما، تمحيصا وتدقيقا، مما جعله (مالكا) لنظرية مميزة في إحياء الإنسان وبناء الحضارة.