4- استثمار كافة الآيات في (عبادة الحق) و (خدمة الخلق):
بمفهوم العبادة الشامل يكون استيعاب آيات الشريعتين القرآنية والفطرية عن طريق إعمال العقل فريضة، أما نقل هذا الفقه إلى الحياة لاستعمـار الأرض وخدمة الناس فإنه فريضـة أكبر، ومن ثم لا انفصام ولا انفصال بين طاعة الله وخدمة الإنسان، فكلاهما عبادة.
ومن المعروف في الفقه الإسلامي أن الشعب الإيمانية التي بين المرء وربه تكون من جنس العبادة اللازمة، أما الشعب التي بينه وبين الناس فهي من العبادات المتعدية.
وإذا استثنيت الأمور المتصلة بوحدانية الله، فإن العبادة المتعدية أكبر أجرا من العبادة اللازمة.
هذه هي رؤية الفكر الإسلامي الناضج، وهذا ما يتأكد أن جولن ينتمي إليه كما تنطق كتاباته، وتتحدث أعماله.
ولهذا فإنه كثيرا ما يربط بين الشريعتين، مبينا لثمار قراءة آيات كل شريعة في فهم واستيعاب آيات الشريعة الأخرى، والانطلاق بها من دائرة الانفعال إلى عالم الفاعلية [1] . [ ص: 115 ]
وعلى سبيل المثال، نرى مثل هذا الربط في قوله: "إن فهم المحتويات اللدنية للقرآن لا يتيسر إلا لمن يسمع في القرآن صوت الوجود كله، ويستمع في أعماقه إلى كل موسيقى روح الإنسان من خوف وأمل، ومن حزن وفرح، ومن غم وبهجة. والأرواح السامية المتجاوزة للزمن التي تستمع إلى القرآن وكأنه أنزل عليها تجد فيها لذة فواكه الجنة وألوان وجمال حدائق الفردوس، وأنهار وشلالات سفوح الريان ومناظرها"... فتنساب معها [2] .
والقرآن هو سبيل وحدة المسلمين ما اجتمعوا على الإيمان به والتصديق بما جاء به مثلما حدث في جيل الصحابة [3] .
"والقرآن منبع نور لأكثر الجماعات نورانية والتي سيطرت على مصير العالم، وعاش فيها مئات الآلاف من العلماء والفلاسفة والمفكرين" [4] .
وبهذه العلوم أوجد تلك الحضارة العظيمة، بجانب القيم الحضارية الأخرى التي خرجت من كلمات القرآن، كالعدالة الاجتماعية والحرية والمسـاواة المتوازنة، والخـير والشرف والفضيلة والشفقة حتى على الحيوان، بجانب تحريم الظلم والشرك والجهل والرشوة والربا والكذب وشهادة الزور [5] . [ ص: 116 ]
لقد أوجد القرآن بهذه القيم السامية أناسا يسعون في الأرض، وهم أشبه بالملائكة، حيث أراهم الطريق المؤدي بهم إلى سعادة الدارين، وفتح أبواب هذه السعادة على مصاريعها أمامهم [6] .
وبثقة كاملة واعتزاز كبير وصل إلى القول: "بأن القرآن كما لم يقم بالأمس بخداع الذين آمنوا به واتبعوه ولم يحيرهم، كذلك لن يخدع الذين سيتوجهون إلى جوه الرباني ويؤمنون به بعد هذا اليوم، ولن يخيب آمالهم.." [7] .
إن هذا الدين إكسير الحياة لهذه الأمة، بامتلاكه لقيمة العدالة الفكرية التي توازن بين سائر الثنائيات، ومنها ثنائية الثوابت والمتغيرات التي أجاد جولن رسم خارطتها بطريقة متوازنة تثير الدهشة والانبهار!