2- تحلية الأقوياء بـ (الحق) وتسليح الضعفاء بـ (القوة):
يحدث ظلم الأقـوياء للضعفـاء بسبب الانفصام القيمي، وبالذات ما يرتبط بانفصال القوة عن الحق، حيث يتسلح الكبراء بالقوة ويتخلوا عن الحق، فيحدث الطغيان والاستكبار، ويتمسك الضعفاء بالحق وتخرج من بين أيديهم القوة، فينحرف كثيرون إما إلى الاستخذاء والصغار أو إلى الإحباط والعزلة والحقد على المجتمع.
وحتى يتم رتق هذا الخلل فإن الإسلام قد سلح كل طرف بما ينقصه، فسلح الضعفاء بالقوة، وحلى الأقوياء بالحق، حتى لا يصل هؤلاء إلى الاستبداد ولا يصل أولئك إلى الاستخذاء، فتتقطع أواصر المجتمع وتضعف روابطه، وتتسلل من خلال ثغرات جدره الكثير من الجراثيم والمؤامرات.
وهذا ما يبدو أن جولن فعله بالضبط، فقد سلح الأقوياء بالحق المتمثل بالعلم والعرفان، ثم بالقيم والأخلاق الكريمة.
ومن الأخلاق التي سلحهم بها - كما فعل مع الأغنياء مثلا - خلق التضحية بالمال والجهد والطاقة والعمر [1] ، حيث رغب كل قادر بما عند الله، وزين لهم الإنفاق حتى أحبوه، وقد سمعنا قصصا عن تضحيات الأغنياء والمربين والمعلمين وغيرهم مما قد يعده البعض من بنات الخيال!
وفي اهتمامه بالأخلاق كان خلقا الشفقة والرحمة في المقدمة دوما، ومن الأقوال الرائعة التي زين بها هذين الخلقين قوله: "وفي الحقيقة ليس أمام الشفقة [ ص: 194 ] والرحمة باب مسدود لا يمكن فتحه. فجبال الثلج التي لا تذوب بالشفقة والرحمة لا يذوبها شيء قطعا. إذا كنتم تريدون ربط الناس بعضهم ببعض بمحبة دافئة، عليكم أن تطووهم تحت جناح الشفقة والرحمة أولا.." [2] .
وباستثارة مكامن الشفقة في قلوب الأغنياء على حال الضعفاء نجح جولن في استمالة آلاف من التجار ورجال الأعمال إلى صفوف الدعوة، فكانوا فتحا عظيما لهذه الخدمة.
وصار لهؤلاء التجار جمعية خاصة بهم اسمها (توسكون) لها حضور مشهود في تركيا، وتلعب دورا يتعاظم عاما بعد عام خارج تركيا.
وبسبب هذه الجسور بين الطرفين كأفراد داخل تركيا، ترجم الأمر إلى تضامن بين المناطق، حيث قامت سائر مناطق تركيا بدعم ورفد مناطق جنوب شرقي تركيا التي كان الفقر والجهل مخيمين فيها، حتى أن كل مدرسة في تركيا تدعم مدرسة في هذه المنطقة، بجانب الرفد الذي تقوم به الجمعية الخيرية التابعة للخدمة. وفي بلدان العالم الفقيرة، يكون لكل مدرسة فيها علاقة مع مدرسة غنية من مدارس الخدمة حتى ترفد صندوق ميزانيتها بالدعم الممكن.
وأوجب الإسلام - كصورة من صور التكامل - على الآباء رعاية وتربية أطفـالهم، والعناية بحقوقهم، وخدمة ضرورياتهم وتلبية حاجاتـهم، لأنهم في حـالة ضعف [3] ، وعندما يكبر الآباء ويشب الأبناء أوجب عليهم [ ص: 195 ] رد الجميل، وكان جولن - بدوره - يحث مريديه على رد الجميل ورعاية حقوق الوالدين [4] .
وفي جانب التأصيل لتسليح الضعفاء بالقوة، تحدث عن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم للضعفاء، ونقل عن كتاب (الزبور) المقدس وصفه للرسول محمد صلى الله عليه وسلم بأنه "ينحني أمامه جميع الملوك، وتتعبد له كل الأمم، لأنه ينقذ المسكين المستغيث البائس الذي لا معونة له.. ويعطف على الفقير والمحتاج، ويخلص نفوس المساكين إذ يفتدي نفوسهم من الظلم والعنف، ويحفظ حياتهم.." [5] .
وتحدث عن استخدام النبي صلى الله عليه وسلم للقوة لإسناد الحق، لكنه حذر الأفراد من عمل ذلك الآن، لأن هذا من واجبات الدولة [6] .
وفي ذات السياق أبرز ثقافة الحقوق والحريات، ومسؤولية الحكومة عن ذلك، فالجمهورية في تعريفه ما هي إلا أداة لتجسيد الحرية والعدالة [7] ، والحكومة أيضا لا تعني سوى "..العدالة والاستقرار والأمن. فإن لم تكن هذه الأمور متوفرة في مكان ما فمن الصعب الحديث عن وجود حكومة هناك" [8] ، وظل يطالب بدولة قوية عادلة، تطبق القوانين على الناس جميعا، [ ص: 196 ] رغم أنه ليس سياسيا فضلا عن أن يكون زعيما سياسيا [9] ، لكنه الانحياز إلى المستضعفين والفقراء والمظلومين.
ولم يوفر أي أسلوب أو طريق يؤدي إلى تسليح الضعفاء بالقوة، ولكنها القوة الناعمة، ولم يترك أي سبيل للجهاد في سبيل حفظ حقوق الضعفاء وتقويتهـم إلا وسـار فيه، ولكنه الجهاد المدني الأبيض، أما القتال فهو يقف ضد استخدامه تحت أي مبرر وفي أي ظرف، ويرى أن المسلم ليس إرهابيا، والإرهابي لا يمكن أن يكون مسلما.