ثالثا: العلاقة مع بعض مكونات الآخر:
كان بن نبي حسن الظن باليساريين، وأبدى إعجابه بتجارب اليسار في الاتحاد السوفييتي والصين وكوبا، وأكثر من ضرب الأمثال بتجاربها في بعض الميادين.
ووصل الإعجاب أحيانا إلى الاشتراكية نفسها، حيث رأى أنها حل لمشاكل الجزائر وبالذات مشكلة اللافعالية، ومشكلة الفردية [1] . وبالتأكيد أنه يقصد ما سماها بعضهم بالاشتراكية الإسلامية التي تجمع بين قيم الإسلام العامة في العدالة الاجتماعية وبين بعض التنظيمات والأفكار الاشتراكية الحـديثة، أي أنها اشتراكية منفصلة عن المادية وملتحمة بالعروبة والإسلام [2] .
وكانت في الخمسينـيات قد ظهرت منظمة دول عدم الانحياز، وتضم - نظريا - الدول التي لا تنتمي إلى المعسكر الشرقي الشيوعي ولا إلى المعسكر الغربي الرأسمالي، وقد أعجب بهذه المنظمة وكتب فيها بعض مقالاته وأحد كتبه، وأشاد بزعمائها الكبار: عبد الناصر وتيتو وسوكارنو ونهرو، الذين اجتمعوا في قمة باندونج في إندونيسيا، وأعلنوا الحياد الإيجابي لكنهم في الواقع كانوا أقرب بكثير إلى معسكر اليسار!! [ ص: 219 ]
وقد قاده الإعجاب بهذه المنظمة ودولها إلى كتابة تحليلات واستشرافات أثبتت الأيام عدم دقتها، ومن ذلك قوله: ".. إن فكرة باندونج دخلت التاريخ وهي حية ترزق بل تلد أفكارا مثل التي عبر عنها مؤتمر عدم الانحياز.." [3] . وقد ثبت أن هـذه المنظمة لم تكن سوى ظاهرة صوتية، وأنها ولدت ميتة؛ لأن زعامات الدول التي تبنتها كانت مستبدة بامتياز، باستثناء الرئيس الهندي نهرو، ولذلك ماتت في مهدها في أحسن الأحوال، حيث سقطت تلك الأنظمة بعد أن تركت بلدانها قاعا صفصفا، بتأثير عواصف الاستبداد وأعاصير الطغيان.
أما جولن فقد كان كثير التوجس من اليساريين عامة، شديد النقد للشيوعية خاصة [4] .
ومن المؤكد أن ظروف كل واحد منهما هي التي دفعت به إلى هذا الموقف، فقد كانت الجزائر محتلة من قبل دولة غربية رأسمالية - فرنسا - بينما كانت المساعدات للثوار تأتي من دول المنظومة اليسارية ومنها مصر عبد الناصر المتحالفة مع السوفييت، فكان مالك أشبه بالغريق الذي يتعلق بقشة، ولاسيما أنه واجه من الإدارة الاستعمارية الكثير من صور العنت على المستوى الشخصي، وكأنه وجد الأمان فقط في مصر التي انتقل إليها [ ص: 220 ] بعد معاناته في فرنسا والجزائر، ولذلك طبعت وزارة الإعلام المصرية سنة1956م كتابه "الفكرة الإفريقية الآسيوية".
وفي المقابل كانت تركيا تعاني الأمرين من الشيوعية، فقد كان الشيوعيون الأتراك وراء الكثير من الاغتيالات والفوضى التي شاعت في تركيا منتصف القرن المنصرم، وكانت شعوب كاملة تنتمي إلى القومية التركية في وسط آسيا ترزح تحت الاحتلال السوفييتي، مما جعل جولن شديد الكره للشيوعيين داخل وخارج تركيا.
والعجيب أن إعجاب بن نبي بالاشتراكية رافقه توجس كبير من الليبرالية الغربية وخاصة من شقها السياسي إلى حد اقترب من التفسير التآمري لكثير من الأحداث، ولو كتب بتوسع في السياسة فلربما كانت ظهرت أمثلة ومواقف كثيرة تبرز هذه النـزعة أكثر في تفكير بن نبي!
ومن يقرأ أدبيات هذا المفكر العظيم سيلاحظ كيف بدأت شكوكه بالغربيين في فترة مبكرة من حياته، وذلك في مدينة تبسة، عندما أصابه رجل أوربي بركلة في قدمه [5] .
هذا في الجزائر، أما في فرنسا التي سافر إليها للدراسة، فكانت أول صدمة تعرض لها هي رفض مدير معهد الدراسات الشرقية قبوله للدراسة في المعهد، لأسباب غير موضوعية، بل لأسباب سياسية [6] ، ثم ملاحظته لشيوع [ ص: 221 ] الصورة النمطية عن العربي والمسلم في فرنسا، ورؤيته لعدد من الإساءات البشعة للإسلام ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم [7] .
ولما كان معـروفا بمناهضته الشديدة للاستعمار وهو مازال طالبا، فإنه اعتقـد أنه تعـرض بسبب ذلك لعاصفة هوجاء اجتاحت مصيره ومصير أسرته [8] .
ومهما تكن المشاكل التي تعرض لها بن نبي على المستوى الشخصي: مؤامرة أو غير مؤامرة، فإنها قد أثرت على تفكيره، وجعلته يحلل عددا من القضايا والمواقف من زاوية تقترب من المؤامرة، مثل:
- وقوفه مع الهند ضـد باكستان الإسلامية في الحرب التي اندلعت سنة 1949م بين البلدين، حيث اعتبر انفصال باكستان باسم الإسلام مؤامرة غربية ضد الهند حتى لا تستطيع القيام بدور فاعل في تحقيق التوازن الدولي المطلوب [9] .
- موقفه المتوجس من الاستشراق بصورة عامة، فمن تحليله لهذه الظاهرة يبدو الحس التآمري واضحا للعيان، فمع إقراره بوجود مستشرقين أنصفوا الإسلام وأثنوا عليه ثناء عاطرا، إلا أنه نظر إلى إنتاج المستشرقين بشقيهم المنصف والمتحامل على أنه كان شرا على المجتمع الإسلامي [10] . [ ص: 222 ]
وبسبب تأثيرات هذا التوجس الذي يقترب من نظرية المؤامرة، ما فتئ يربط بين قصص صغيرة قد يراها البعض طبيعية في الحياة اليومية، وبين قصة الاستعمار الدولي والصهيونية العالمية [11] .
وبالجملة، فإن حساسية ابن نبي القوية وبعض المشاكل التي تعرض لها، وما كانت ترزح تحته الجزائر من احتلال فرنسي بشع استعان بكل أدوات القتل والمكر والتمزيق من أجل إلحاق الجزائر بفرنسا، كل ذلك جعل نظرته إلى الغرب تتميز بشدة التوجس إلى حـد يقترب من نظرية المؤامرة. وهذا ما لم يحدث لجولن، فقد بقي متوازنا، ولذلك فتح آفاقا واسعة للحوار مع الغرب، ووصل إلى حد زيارة البابا في الفاتيكان، والدخول معه في حوار حول العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي.