المجال الأول: إصلاح أهداف مناهج العلوم الإسلامية:
إن مراجعة مناهج العلوم الإسلامية السائدة في معظم الأقطار الإسلامية، ينبغي أن تتم من خلال إعادة صياغة تلك الأهداف بصورة تتسم بدرجة عالية من الوضوح والدقة والشمولية والواقعية بحيث يمكن مقايستها وتقويمها، كما ينبغي الابتعاد عند صياغتها عن الغموض والضبابية والعموميات والمثالية. وفضلا عن هذا، ينبغي التفريق بين الأهداف التعليمية بوصفها قيما ومبادئ ثابتة لا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال، وبين كيفيات تنزيل تلك الأهداف وتطبيقها.
فمن المعلوم أن الأهداف التعليمية في المنظور الإسلامي تتمثل في ترسيخ مجموع القيم العليا والمبادئ الثابتة، التي نص عليها الشرع في الكتاب والسنة نصا قطعيا، وتمثل في جوهرها ما يعرف اليوم بثوابت الدين وكلياته، ولا تتغير بتغير الزمان والمكان، ولا تتأثر بالأحوال والظروف بتاتا.
ومن تلك القيم الخالدة والمبادئ الثابتة، الالتزام العلمي، والعملي والخلقي بالدين، ويتحقق الالتزام العلمي بالدين من خلال تمثل الإيمان بأركانه الستة [ ص: 109 ] المعروفة (=الإيمان بالله، وبرسله، وكتبه، وملائكته، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره)، كما يتحقق الالتزام العملي بالدين من خلال تمثل الإسلام بأركانه الخمسة (الشهادتان، إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا)، وأما الالتزام الخلقي بالدين، فيتحقق من خلال تمثل الإحسان بفضاءاته المستوعبة فضائل الأخلاق الكونية الثابتة كالصدق، والعدالة، والأمانة، والوفاء، والرحمة، والسماحة، والرفق، والاستقامة، والرجاء، وعدم اليأس، وغيرها من أمهات الفضائل والأخلاق، الخ.
وفضلا عن هذا الالتزام بمراتبه الثلاثة، فإن هنالك قيما متفرعة عن القيم الآنف ذكرها، لا تقل في مكانتها وأهميتها عن القيم المذكورة، بل إن الدين الحنيف أمر المصلين الالتزام بها، وتتمثل في قيم الشورى، والحرية، والمساواة، والوسطية، والأخوة، والتعاون، والتسامح... الخ.
فهـذه القيـم والمبادئ وسواها في الكتاب العزيز والسنة النبوية الشريفة لم ولن تعرف تبـدلا ولا تغـيرا ولا تطورا أو تطـويرا، ذلك لأنها قيم ومبادئ لا تتأثر - كما أسلفنا - بظروف الزمان والمكان، بل إنها فوق الزمان والمكان، وتمثل معالم أساسية لشخصية الإنسان المسلم والجماعة المسلمة.
وتأسيسا على هذا، فإن على مصممي المناهج التعليمية في عالمنا الإسلامي أن يتخذوا من هذه القيم والمبادئ أهدافا ثابتة واضحة يسعون إلى غرسها وتعميقها في نفوس الناشئة، ويبذلون قصارى جهدهم في تمكينهم من [ ص: 110 ] تمثلها، والعمل بها في حياتهم العملية؛ كما أن عليهم التزام الواقعية والموضوعية والاتزان عند صياغة هذه الأهداف، بحيث يتم ربطها بالواقع العملي، الذي يعيش فيه الناس.
فعـلى سبيل المثـال، يعد ترسيخ مبدأ التسامح بحسبانه هدفا ثابتا ينبغي العناية به، والإيلاء من شأنه، والسعي إلى تعزيزه وتكريسه في حياة النشء، فينبغي أن يصاغ هذا الهدف صياغة واقعية يسهل على التلميذ تمثله وتحقيقه على المستوى الفكري، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي، والحضاري، كما يسهل على المجتمع رؤية أثره على سلوك المتعلم في تعامله مع المجتمع، الذي حوله..
فعلى سبيل المثال، يمكن صياغة هذا الهدف على مستوى مواد العقيدة والفقه والتصوف وسواه كالتالي:
الهدف العام:
التعايش مع المخالف في الملة عامة، ومع المخالف في المسائل العقدية والفقهية والتربوية المختلف فيها خاصة، وضرورة قبول الآخر، واحترام رأيه ومذهبه، فكرا وسلوكا!
ويمكن أن يصاغ من هـذا الهدف العـام أهـداف تعليمية فرعية متعددة منها: [ ص: 111 ]
- أن يعلم الطالب بأن دم المخالف له في الملة وماله وعرضه حرام عليه كحرمة دم ومال وعرض المتفق معه في الملة، وبالتالي لا يجوز له الاعتداء عليه أو الانتقاص منه بسبب دينه، الذي اختاره!
- أن يعلم الطالب حرمة الإكراه في الدين، وأن الإسلام لم يكلفه إكراه أحد على الدخول فيه واقتناعه، وبالتالي، لا يجوز له - بأي حال من الأحوال - إجبار (الآخر) على الدخول في دينه.
- أن يتقبل الطالب المخالف له في المسائل العقدية والفقهية والتربوية المختلف فيها تقبلا قائما على الإيمان بكون الحق يتعدد في هذه المسائل بتعدد المجتهـدين فيها، وبالتالي، لا يجوز له تفسيق المخالف، أو تفجيره، أو تبديعه!
- أن يؤمن الطالب بأن الشرع الكريم إذا كان لم يكلفه بإجبار المخالف له في الملة، فمن باب أولى ألا يكلفه - بأي حال من الأحوال - إجبار المخالف له في المسائل المختلف فيها.
- أن يقتنع الطالب قناعة تامة بأن دم المخالف له في المسائل المختلف فيها وماله وعرضه حرام عليه لا يجوز له المساس به أو التعرض له، بأي حال من الأحوال!
فإذا صيغ مبدأ "التسامح" وقدمت المواد التعليمية إزاءه بالشكل المطلوب، واختير الأسلوب الأمثل لتقديمها للنشء، وتمكن النشء من تلقيه [ ص: 112 ] بالشكل المطلوب، ترتب على ذلك ابتعاد النشء عن جميع أشكال العنف اللفظي والعملي في تعامله مع (الآخر)، وعن جميع صور الانغلاق المذهبي، ومصادرة الآراء المخالفة له في مجالات العقيدة، والفقه، والتربية، بل كان أكثر الناس رفضا للاعتداء على الأنفس والأموال والأعراض، وسائر أشكال التطرف والتزمت والتسيب!
وأما الأمر الثاني، الذي ينبغي الاهتمام به عند صياغة هذه الأهداف الثابتة، فإنه يتمثـل في الاستفادة القصـوى مما استجد من وسائل عصرية معينة على تنـزيل العديد من الأهـداف التعـليمية الآنف ذكرها وتطبيقها في أرض الواقع.
فعلى سبيل المثال، يعد تعزيز مبدأ التزام الشورى هدفا ثابتا من حيث التجريد، غير أن كيفية تطبيقه وتنـزيله في الواقع العملي يخضع لظروف الزمان والمكان، ولأحوال المجتمعات والشعوب، كما أن طريقة تطبيقها تختلف من مجتمع إلى آخر، ومن زمان إلى آخر، مما يعـني أنه ليس مقبولا في شيء أن يلزم امرؤ الناس بطريقة موروثة أو معينة عند الهم بتطبيق أمثال هذه الأهداف، وذلك اعتبـارا بأن الشـرع الحنيف تجاوز - قصدا - عن بيان الطريقـة المثلى لتطبيقها في الواقع العملي، وإنما ترك ذلك لكل عصر ومصر توسيعا على المكلفين، وتقريرا على خضوع العديد من القيم والمبادئ لظروف الزمان والمكان والحال. [ ص: 113 ]
وقـد أشـار إلى هـذا البعد في تنـزيل القيـم والمثل العليا أستاذنا الجليل - أستاذ الجيل - العالم التربوي الكبير المعروف البروفسيور علي مدكور - أدام الله بقاءه - عندما قال ما نصه:
"... ومنهج التربية الإسلامية له أهداف ثابتة وأخرى متغيرة، فالقيم الإنسانية الواردة في منهج الله وشريعته، هي قيم ثابتة، وهي، بالتالي، تمثل أهدافا ثابتة للمنهج، وذلك مثل: الصدق والأمانة... وهناك أيضا أهداف متغيرة بتغير الزمان والمكان والناس، فالله سبحانه وتعالى أمر بالعدل، وهذه قيمة ثابتة، ولكنه ترك وسائل تحقيق العدل للإنسان، يقوم به وفقا لظروف الزمان والمكان والناس، وأمرنا بالشورى، وهـذه قيمة ثابتة، ولكنه ترك تحقيق الشورى وفقا لظروفنا المختلفة، وأمرنا بتحقيق العدالة الاجتماعية، ولـكنه ترك لنا حرية اختيار الأساليب المناسـبة لنا ولظروفنا في تحقيق العدالة الاجتماعية.." [1] .
وبطبيعة الحال، إن مراد أستاذنا بالأهداف المتغيرة هو كيفيات تطبيق الأهداف الثابتة، وقد مثل له بالعدل، الذي يعد قيمة ومبدأ ساميا ثابتا خالدا، بيد أن تطبيقه في واقع مجتمع وفي عصر ما يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأوضاع، مما يوجب على القائمين على المسألة التربوية تعهد تطبيقات القيم والمبادئ الثابتة بالمراجعة والتحرير والتحقيق قصد انتقاء أفضل الوسائل لحسن تنـزيلها وتطبيقها في واقع الناس. [ ص: 114 ]
وصفوة القول، إن إصلاح مناهج العلوم الإسلامية على مستوى الأهداف لا تمام له إذا لم تتضمن صياغة واضحة للأهداف التعليمية الثابتة، وربطا محكما بين تلك الأهداف ووسائل تطبيقها المتغيرة بصورة علمية جلية!
فعلى سبيل المثال، لقد اعتادت العديد من المناهج التعليمية التقليدية المعاصرة في عالمنا الإسلامي على صياغة أهم هدف تعليمي لها بالقول: "إعداد الإنسان الصالح" أو "المواطن الصالح"، فلئن كان الصلاح قيمة سامية وهدفا ثابتا غير أن صياغته بهذه الصورة دون ضبط لخصائصه ومزاياه، تتسم بالغموض والضبابية، ذلك لأن لكل فرد أو مجتمع أن يحدد خصائص ومواصفات ذلك الإنسان الصـالح أو المواطن الصـالح، ثم ينتهج المنهج، الذي يراه في إعداد هذا الإنسان.
وعليه، فإنه يمكن إعادة صياغة هذا الهدف بالقول: "إعداد الإنسان الصالح الملتزم بمبادئ وقيم دينه الثابتة، والقادر على عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله"؛ وهكذا دواليكم.
على أنه من الحري تقريره أن غلبة الضبابية والتعميم على الأهداف التعليمية لا تقتـصر في عـالمنا الإسـلامي على مناهج العلوم الإسـلامية، بل إن نظرة عاجلة في العديد من مناهج العلوم العقلية (الإنسانية) السائدة في عالمنا الإسـلامي يجـدها هي الأخـرى لا تولي اهتمـاما كبيرا واضحا بصياغة ناضجة للأهـداف الثابتة، وصياغة وسائل تطبيقها صياغة عملية قابلة للمقـايسة والتقويـم، ولذلك، فلا غرو أن تكون مخرجات هذه المناهج [ ص: 115 ] ما نراه اليوم من أشخـاص وجمـاعات لا يتحرجون، في كثير من الأحوال، من التنكر للعديد من مبادئ وقيم دينهم، التي وضعها الشرع في هذا الكون، وأمر بالالتزام بها!
بل ليس من عـجب في شيء أن تعجز هذه المناهج هي الأخرى بأهـدافها المهلهلة من إنتاج ذلك الجيل المنتج للمعرفة والقادر على تمكين الأمة من استعادة عافيتها الحضارية، واستئناف دورها الريادي، والقيادي في هدي البشرية.
من ثم، فإن إصلاح مناهج التعليم يقتضي اليوم إعادة النظر في جميع الأهداف التعليمية في إطار من التصور الإسلامي للإنسان والكون والحياة والوجود، كما يقتضي ضرورة انبثاق تلك الأهداف من المبادئ والقيم الراسخة، التي جاء الإسلام من أجل تحقيقها في حياة البشر. وفضلا عن هذا كله، فإن الإصلاح الذي نرنو إليه يتمثل في ضرورة الربط الهادئ بين الواقع، الذي يعيش فيه التلميذ والمثال المتمثل في المبادئ والقيم المشار إليها من قبل.
وأيا ما كان الأمر، فإن تمكين مناهج العلوم الإسلامية من تحقيق هذه الأهداف السامية يجعل منها مناهج قادرة على "..إنشاء جيل جديد إنشاء فكريا خلقيا ممتازا.." [2] ، وتلك هي أسمى الغايات وأعلى الأمنيات، التي تصبو إليها مناهج العلوم الإسلامية برمتها. [ ص: 116 ]